العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ

داخل وخارج ملحمة السراب...

عيون فانغا العمياء...

عودة عبود الغاوي من المهجر تلك هي اللوحة التي يفتتح بها سعدالله ونوس مسرحية «ملحمة السراب». والغاوي من الغواية، وأصل الغواية من الغوي الرجيم، أي الشيطان - لعنه الله - الذي أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة، ليدخل نسلهما الجنة الأميركية الموعودة التي استسلمت لها النخبة الجديدة وبدأت تشكل عقلها على الطريقة الأميركية، يتشابه في ذلك سلالات من النخب عاشت في ظل الدولة الناصرية التي ناصبت العداء لكل ما هو أميركي، وسلالات تم تدريبها في مراكز محترفة لترى أميركا هي الفردوس الموعود كما يقول وائل عبدالفتاح، ويضيف قائلا: «كل هذا الكلام يمكن أن يعتبر عاطفيا وساذجا، وخصوصا أن البيزنس لا يعرف الأفكار ولا ينظر بعين الرضا على الناس الذين خرجوا عن لعبة العولمة بلا شيء». جاء علي حرب بدعوة كريمة من جامعة البحرين كي يعطينا درسا في فتوحاتها.

يعود عبود الغاوي ممثلا لرجال الأعمال ويبدو الآن في صورة (المُخلص) للقطاع الخاص الذي سيعبر بالبلاد العربية عنق الزجاجة لتتسع مساحة حضوره في المجتمع ويطرح وجوده كبديل للدولة بأجهزتها البيروقراطية في أي مشروع اجتماعي أو ثقافي، وفي هذا الاستبدال تتحول كل الأشياء إلى «سلعة» وبالتالي يطرق سمعنا كلمات عن صناعة الجودة لتختفي فكرة الخدمة وتصعد فكرة أخرى خلاّبة، وهي أن كل شيء قابل للبيع والشراء.

البيزنس يفتح الطريق إلى النخبة الجديدة في الوطن، ويبدأ عبود الغاوي في إقامة مجموعة من دور العرض الجديدة، أو يتم تجديدها، وترتفع أعمدة المجمعات التجارية التي تتميز بالدُور المقامة على الطريقة الأميركية بارتفاع أسعار التذاكر، إنها تختار جمهورها ولا تقدم خدمة ولا ثقافة، بل إن تصميم السينما الصغيرة له هدف اقتصادي وليس ثقافيا، وهو تحقيق قيمة الحد الأدنى المطلوب لاستمرار عرض الفيلم أو ما يُسمّى به (الهولداوفر)، لاستيراد أكبر نسخ من الأفلام الأميركية لكي تغطي عرضها، وأصبحت دور السينما مجرد سوق مربحة لهوليوود؟!

ويردد بأنها خدمة البلد وهي فعلا خدمة البلد لكن من وجهة نظر العصر الجديد ونجومه الذهبيين! ويبدأ مسلسل البيع وتساق الأرض إلى من يحولها إلى منتجعات للأثرياء واللصوص.

وإذا بنا نسمع صوت الشيخ عباس يقول: لن نخفي عنهم شيئا، والنصيحة واجبة. المختار سيبيع وأنا سأبيع، ومجنون من لا يبيع.

يرد عليه ضرغام فيقول: الأرض غالية يا شيخ!

الشيخ عباس: لكن إبن الغاوي يبدل ترابكم تبرا إى ذهبا، الأرض غالية، لكنها ليست أغلى من الثروات التي يبادلكم بها.

وهنا يتدخل أبو راغب قائلا: أما كان أجدادنا يقولون من باع أرضه هان عليه عرضه!

وفي حوار مع رئيس قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية محمود عبد الفضيل - حول (ثقافة الفساد)، والسؤال عن الطبقات الجديدة التي صعدت خلال السنوات الأخيرة في مصر وحلّت محل الطبقة الوسطى، لاعبة دور «الإسفنجة» بين طبقات المجتمع، وكانت هي مصنع القيم والأفكار، كيف يفكر نجوم (النخبة الجديدة)؟ يقول الدكتور:

« زمان كان ينظم المجتمع ويقوده إما كبار ملاك الأرض أو عناصر الطبقة الوسطى المهنية الكبيرة، وكانت انعكاساتها السياسية واضحة في أحزاب الأحرار الدستوريين، أو حزب الأمة أو الوفد، هؤلاء كان لهم احترام للنفس أكثر أولا، أموالهم كانت تجعلهم مستقلين - وأموال مالك الأرض - مهما كانت تخرج من أرضه لم يجمعها من مد يده للأجانب، ولأنه مرتبط بالأرض كان ولابد من الدفاع عنها».

و هذا عكس ما يحدث اليوم، إذ يجب على صاحب رأس المال أن يخدم على الخارج، حتى يحصل على توكيل شركة أجنبية! هكذا ختلف التكوين الاجتماعي للطبقة الجديدة من الرأسمالية الحصرية. ومعها لم يعد هناك احترام لقيم الجمال والإبداع والاستقلال، بل تحدث عملية تشويش على هذه القيم بمقولات من نوع (نحن نعيش في عصر العولمة)! ولم تعد هناك وطنية أو كرامة مثل الأول، وكل هذه الشعارات هي عملية «غسيل دماغ» تهدف إلى تضييع الثوابت الأخلاقية والقيمية، لكي تفسح المجال لنظرية (اللي تغلب به إلعب به) و(التجارة شطارة)، وغيرها من مفاهيم ومقولات متداولة ثقافيا. وتكتشف عند تأملها عن عملية تثقيف خطيرة للجيل الجديد، والذي سيتصدى لمشكلات الوطن العربي في بدايات القرن القادم، وهو جيل يختلف تماما ولأول مرة في كل الأجيال التالية 1919م يأتي جيل ثوابته مهتزّة والأمور مختلطة عنده إلى حد كبير!

نخبة البيزنس موهوبة في تحويل كل شي إلى علاقة بيزنس في العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الإنسان والمكان الذي يعيش فيه وحتى الثقافة والدين والجنس والأحلام! يصعدون بلا تاريخ ولا كلمات كبيرة عن الوطنية والقيم والأفكار. الوطن هو المكان الذي تكسب فيه جيّدا والفكرة الوحيدة المطلقة الجديرة بالاحترام هي تحقيق المصلحة الفردية والقدرة على إنتزاع أكبر مساحة من السوق. والسوق هي الوطن الجديد والحياة في مجتمعنا ليست سوى ماكيت يختبر فيه الغرب وأميركا موديلاته الفكرية ونتائج صراعاته. ونسمع الحوار الذي يدور بين أديب والمختار.

أديب (يخرج من جيبه مغلفا محشوّا بالأوراق النقدية ويقدمه للمختار): تفضل يا مختار.

المختار: ما هذا؟ (يفتح المغلف وينظر إلى الأوراق النقدية) لمن هذا المال؟

يرد الأديب: لك... إنه تعويض رمزي كان يتمنى عبود الغاوي لولا مشاغله الكثيرة أن يأتي ويقدمه بنفسه.

المختار: ولِمَ التعويض؟! إني لا أفهم شيئا!

أديب: علِمَ الغاوي أنك شجّعت الناس على إيداع أموالهم لديه، فأحبّ أن يكافىء ثقتك وجهدك.

ففي زمن عبود الغاوي، الرأي والنصيحة لهما ثمن كأي عمل آخر وأغلى من أي عمل آخر، إنه يدفع ثمن كل اقتراح إذا وجد في ذلك فائدة لمشروعاته، زمن (الكاميشن). إن الموازين تغيرت، وإن الزمن الذي دخلنا فيه يعتبر الأفكار والنصائح والاقتراحات سلعا تباع وتشترى، زمن هيمنته السوق. لكن ما السوق؟ منذ خمسين سنة صدر كتاب عالم الاجتماع «كارل بولاني» بعنوان (الانقلاب الكبير) وهذا العنوان يعني أن ثمة تحول حدث في أوروبا منذ نحو ثلاثة قرون ولم يكن هذا التحول في رأي بولاني هو ظهور الرأسمالية ولا هو النمو المتسارع في الصناعة والتقدم الكبير في العلوم والتكنولوجيا ولا بزوغ عصر التنوير، بل هو ظهور «نظام السوق» أخطر وأعمق ظاهرة. وهي بداية شمول عملية البيع والشراء لأشياء لم تكن من قبل تخضع إلا لماما للبيع والشراء، بما في ذلك الأرض والعمل الإنساني. ويذهب بولاني إلى أن الخصيصة الأساسية للنظام الاقتصادي الذي نعيشه اليوم والتي تميزه عن النظم الاقتصادية التي سادت قبل القرن السابع عشر في أوروبا وبعد ذلك في كثير من مناطق العالم قبل خضوعها للاستعمار الأوروبي هي بالضبط هذه الخصيصة.

* ناقد وكاتب ومخرج مسرحي

العدد 1770 - الأربعاء 11 يوليو 2007م الموافق 25 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً