العدد 1817 - الإثنين 27 أغسطس 2007م الموافق 13 شعبان 1428هـ

تنظيم القوة في المجتمعات التعددية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

إذا كان أصل الصراع حول الهويات ينتهي إلى صراع ثقافي من أجل بناء الهوية وتمكينها، فإن بناء الهوية، كما يكتب إدوارد سعيد، مرتبط بتنظيم هذه القوة «في كل مجتمع» (الاستشراق وما بعده، ص181). وبهذا المعنى فإن الصراعات الجماعية حول الهوية تنتهي، في معظمها، إلى صراع على القوة وتنظيمها في المجتمع، ما يعني أن ما تحتاج إليه هذه المجتمعات هو البحث عن نماذج سياسية وثقافية تضمن تنظيم هذه القوة أو تحييدها. وتطرح «الديمقراطية التوافقية» و»الوطنية الدستورية» و»التنوع العميق» - وهي النماذج السياسية التي تتناسب مع التعددية الثقافية والتي تحدثنا عنها في مقالات سابقة - مخارج لتنظيم القوة بطريقة تسمح بإنجاز التوافق والتعايش السمح (وحتى غير السمح) في مجتمع تعددي، وأهمها أن يجري تحييد هذه القوة وتحريرها من سياسات الاستملاك السياسي والثقافي التي تستهدف الاستحواذ عليها لاستخدامها من أجل تمكين الهوية ومواجهة الآخرين؛ لتتجدد مرة أخرى دورة الصراع والمخاوف الجماعية. على أن يكون الدستور - بوصفه الإطار التشريعي الحاكم على كل القوانين والممارسات، ومرجعية التوافق العام - والمؤسسات الدستورية هي الضامن لهذا التحييد للقوة ومصادرها. بحيث يترتب على هذا التحييد تحديد واضح وصريح لذلك في الدستورأولا، ثم في المؤسسات الدستورية التي تناط بها مهمة حماية هذا التحييد وكبح أية محاولة لتخريبه من أية جهة كانت.

إن التوافق العام على الدستور خطوة حاسمة ولا يمكن بناء أية صيغة توافقية قابلة للاستمرار من دون إنجاز هذه المهمة، والأهم من هذا التوافق أن ينطوي الدستور على نصوص صريحة تحدد «الحريات والحقوق العامة» وتضمن عدم المساس بها تحت أي ظرف من الظروف وبأي حال من الأحوال. وتستمد هذه الحقوق مشروعيتها المطلقة من كونها «حقوقا طبيعية»، وعلى هذا تصبح هذه الحقوق مصانة من التعدي عليها وتجاوزها، لأن أي انتهاك لهذه الحقوق يعدّ تجاوزا على الحق الطبيعي الذي يصونه الدستور. ولا يغيّر من الأمر شيئا إذا جاء هذا التجاوز من السلطة التنفيذية أو التشريعية، فهذا تجاوز وذاك تجاوز.

وتتمثل أهم المكتسبات التي تبشّر بها «الديمقراطية التوافقية» و»الوطنية الدستورية» و»التنوع العميق» في تبديد المخاوف المستبدة بجماعات تشعر بأن هويتها مهددة بالفناء أو بالتحول إلى أقلية؛ لأن هذه الصيغ تحيّد قيمة الانتماء العرقي والديني والطائفي والجنسي والأيديولوجي، بحيث تنتفي الاحتمالات التفضيلية بين هذه الانتماءات في نظر الدولة التي يحكمها دستور ينص على أنه لا فرق فيما يتعلق بالحقوق والواجبات العامة بين المواطنين، لأنه لا تمييز بين المواطنين، بحسب نص المادة (18) من الدستور، في الحقوق والواجبات العامة «بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة». وأكثر من هذا فإن الدستور ينص على أن هذه الحقوق العامة مصانة ولا يجوز أن ينال التنظيم القانوني من «جوهر الحق والحرية» (مادة 31). فإذا كان التنظيم القانوني لا يستطيع أن ينال من جوهر هذه الحقوق والحريات بما فيها «حرية الضمير» المطلقة و»حرية القيام بشعائر الأديان والمواكب والاجتماعات الدينية» (مادة 22)، و»الحرية الشخصية» (مادة 19/أ) و»حرية الرأي» و»البحث العلمي» و»حق التعبير» (مادة 23)، فإذا كان هذا قيد على «التنظيم القانوني» فمن باب أولى أن تكون التصرفات اللاقانونية عاجزة عن النيل من «جوهر الحق والحرية». والأهم أن هذه الحقوق والحريات مصانة دستوريا لا بقوة المادة (31) فحسب، بل بقوة المادة (120/ج) التي لا تجيز اقتراح تعديل «مبادئ الحرية والمساواة المقررة في هذا الدستور» - ولو أضيفت عبارة «بأي حال من الأحوال» عقب هذه الفقرة لكان في هذا ضمانة كبيرة تحميها من أي اقتراح بالتعديل كما هو الشأن في تعديل «النظام الملكي ومبدأ الحكم الوراثي» - وهذه قضية سنعود إلى تناولها من منظور مختلف لاحقا.

حين تكون هذه النصوص الدستورية مصانة بقوة التوافق العام وبقوة المؤسسات الدستورية، فإن كل مسببات الخوف من تحول جماعة ما إلى أقلية تنتفي، لأنه لن يكون ثمة فرق بين «الأقلية» و»الغالبية» في استهلاك هذه الحقوق والواجبات الدستورية العامة. ما يعني أن الشعور بالخوف من التحول إلى أقلية شعور لا مبرر له، ولو ظهر فسيكون إما مفتعل لمآرب أخرى (انتخابية مثلا)، وإما علامة على «مزاج مرضي» بحاجة إلى تدخّل علاجي. أما معنى هذا الكلام فيما يتعلق بمخاوف الشيعة من التحول إلى أقلية فإنه إذا افترضنا انتفاء الحالتين الأخيرتين فإنه لا معنى لهذه المخاوف ولا مبرر لها؛ فإذا كانت مصادر القوة الرمزية موجودة في حرية ممارسة الشعائر الدينية فإن هذه الحرية مصانة بقوة العادة والعرف المعززة بقوة الدستور ومؤسساته لا بقوة الغالبية وكثرة العدد لا في الشارع ولا حتى في مجلس النواب ومجلس الوزراء؛ بدليل أن «غالبية» الشيعة لم توفّر لهم الحرية الدينية فيما يتعلق ببناء «المساجد والمآتم» في المدن الجديدة كمدينة حمد مثلا. فلو كانت حرية ممارسة شعائر محرم جاءت بقوة «الغالبية»، لكانت هذه القوة قادرة على استصدار تصريح لبناء مأتم واحد في مدينة حمد! وإلا كيف تفعل قوة «الغالبية» فعلها في موضع، وتعجز عن ذلك في موضع آخر؟!

وإذا كانت مصادر القوة المادية موجودة في حجم التمثيل في مجلس النواب فإن هامش التحرك المتاح أمام النواب فيما يتعلق بالنيل من جوهر ومبادئ هذه الحقوق لن يكون كبيرا ولا مؤثرا ولا هو قادر على التهديد بمنع هذه الشعائر؛ لأن هذه الشعائر - وببساطة شديدة - مصانة بقوة الدستور الذي يحكم عمل النواب وتشريعاتهم، والدستور لا يجيز تعديل مبادئ هذه الحريات والحقوق، ولا النيل من «جوهرها» بأي حال من الأحوال. ثم أن شعائر الشيعة ومواكب العزاء مصانة بصورة محددة في الدستور في المادة (22) من دستور 73 ودستور 2002، وهذه المادة مطلقة إلا من قيد «العادات المرعية في البلد». وبحسب نص هذه المادة فإن الحرية في إقامة الشعائر الدينية ومواكب العزاء لا توجد اليوم في البحرين بحكم أن الشيعة «غالبية»، بل بحكم أن «العادات المرعية» في البحرين جرت بهذه الطريقة، وجاء الدستور ليمنح هذه الشعائر التي تمارس وفق «العادات المرعية في البلد» مشروعية قوية ومطلقة. وبهذا المعنى فإن تحول شيعة البحرين إلى أقلية لن يمنع هذه الشعائر ولن يوقف هذه المواكب والاجتماعات الدينية إذا كانت وفقا للعادات المرعية في البلد، وهي كذلك حتى هذه اللحظة. كما أن مطالبة هذا النائب أو ذاك بمنع مواكب العزاء وتقييدها أو نقلها للصخير أو حتى للبحر! ستكون مطالبة «فارغة» وعديمة الجدوى والقيمة الفعلية؛ لأنها تعدّ تجاوزا على النص الدستوري الصريح إذ إن ممارسة الشعائر في الصخير أو في البحر ستكون خلافا لما جرت به «العادات المرعية في البلد». والأمر الأهم من الالتزام بحرفية نصوص الدستور هو التأكيد أن هذه الحريات والحقوق عامة و»طبيعية» ولا تقبل التعديل والتقييد الذي يمس جوهرها ومبادئها ويحدّ من نطاق سريانها وشموليتها. ويحيلنا هذا النقاش إلى الأساس التشريعي الذي بنى عليه توماس جيفرسون «مشروع قانون لتوطيد الحرية الدينية في فرجينيا» 1779، وهو المشروع الذي تحوّل إلى قانون في العام 1786، وهو الذي مثّل ضمانة للحرية الدينية في أميركا، ومنع الكونغرس من تحديد دين للدولة أو التدخّل في الممارسة الحرة للعبادة. يقول في القسم الثالث من المشروع: «على رغم إدراكنا التام بأن هذا المجلس التشريعي المنتخب من قبل الشعب لأغراض سنّ التشريعات، غير مخوّل بتحديد التشريعات التي تسنّها المجالس التشريعية اللاحقة المخولة بصلاحيات تماثل تلك التي تم تخويلنا بها، فإن الإقرار بأن هذا القانون غير قابل للنقض لا يحتمل أن يكون له أي أثر من الناحية القانونية، ومع ذلك فإننا أحرار في الإقرار، بل ونقرّ صراحة، بأن الحقوق المصرّح بها في هذه الوثيقة تشكّل جزءا من حقوق الإنسان الطبيعية، وإنه إذا ما صدر تشريع في وقت لاحق يلغي ما ورد في هذا القانون، أو يحد من نطاق سريانه أو شموله، فإن مثل هذا التشريع يعدّ تجاوزا على الحق الطبيعي».

يوفّر هذا النوع من التأصيل للحقوق العامة ضمانة لحماية هذه الحقوق من جهة، وتحييدا للقوة التي تمثّلها الغالبية أو السلطة التنفيذية أو أية قوة أخرى من جهة ثانية. فإذا كان صحيحا أن إرادة الغالبية هي التي ستأتي بعدد أكبر إلى مجلس النواب، وإذا كانت هذه الإرادة هي التي ستحكم تشريعات هذا المجلس وأداءه، فإن الصحيح أيضا أن هذه الإرادة مقيّدة بالحقوق العامة المنصوص عليها في الدستور، والتي لا تمييز فيها بين غالبية وأقلية، فالحق يتمتع بقوته الذاتية والطبيعية التي تجعله فوق إرادة الغالبية والأقلية. كما أن هذا النوع من التأصيل سيحدّ من قوة تدخّل الدولة؛ لأن «الحق الطبيعي العام» يحكم الدولة ويقيّد من تدخلاتها الضرورية فيما يتجاوز مهمة «توفير الأمن وحماية السلم الأهلي». وبتعبير جيفرسون نفسه فإن «الحق سيعلو ولا يعلى عليه إذا ما أصبح بمنأى عن أية صيغة من صيغ التدخّل». ومن هذا المنطلق ذاته ينبغي إدانة سياسة التدخّل «اللاأخلاقية» التي تمارسها الدولة في تصحيح أو تحريف مسار التكاثر الحيوي لدى المواطنين. إلا أن هذه الإدانة لا تعني أن يبقى المرء إلى الأبد حبيس مخاوفه التي تنطلق من شعوره بالهشاشة وأنه مهدد بالفناء أو التحول إلى أقلية. الأمر الذي يعني تأجيل مبادرته لإنجاز التوافق داخل الدولة. يذكر فرناند بروديل أن الذي كان يعطّل اندماج اليهود في فرنسا هو أن هذه الجماعة كلما «كانت في سبيلها إلى الاستيعاب يحدث شيء ما يذكّرها بأصولها، بماضٍ أليم ومعذّب» (هوية فرنسا، ح:2، ص207.)، وإذا وضعنا التوافق محل الاستيعاب والاندماج فهل ينطبق تشخيص بروديل على شيعة البحرين الذين كلما كانوا في سبيلهم إلى التوافق داخل/ومع الدولة يحدث شيء ما يذكّرهم بماضٍ كانوا فيه قيد التهديد والاستهداف أو هكذا كانوا يتصورون؟

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1817 - الإثنين 27 أغسطس 2007م الموافق 13 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً