العدد 1819 - الأربعاء 29 أغسطس 2007م الموافق 15 شعبان 1428هـ

ثورة الأحرار التي لا تبني على الكنائس نصبا للحرية !

في هذه الحلقة نعرج إلى منطقة الوسط الأميركي، وبالتحديد إلى مستعمرات المنطقة الوسطى تحت نهر هدسن، وفوق الشيزابيك. وما بين المستعمرة الهولندية الأصل «نيويورك»، ومستعمرة «نيوجرسي» الخاضعة للإنجليز، ومستعمرة «ينسلفانيا» المنساقة للكويكرز (طائفة الأصدقاء) وأصحاب الرؤية الوحدوية والمناهضة لفكرة التطهيرية لدى البيورتيان. تكمن في عمق هذه المستعمرات بنيات اجتماعية وعقائد متضاربة ومتصارعة، ويذهب المؤرخون الأميركيون والإنجليز على حد سواء، إلى صعوبة تحديد إطارات عامة لمجمل الأنماط الاجتماعية والعقائدية التي كانت سائدة في هذه المستعمرات.

أما المثير في هذه المستعمرات، والإستثنائي أيضا، فهو دخول بعض الثقافات الأوروبية المقارنة للإنجليز فيها، فالألمان مثلا، الذين استوطنوا بنسلفانيا خلال النصف الأول من القرن العشرين ساهموا في صوغ الشكل الإجتماعي والثقافي لهذه المستعمرة تحديدا، وبما يتقاطع مع الإنجليز، وكذلك فعلت طائفة «الكويكرز» التي قدمت انطوني بنيزيت بطل حركة مقاومة العبودية، بالإضافة لمثقفين أميركيين كبار مثل رش وبين.

كانت الظروف الحياتية في مستعمرات الوسط الأميركي تتطلب من التنظيم القائم على التعقيد ما يكفي، فالطريق إلى المستعمرات المطلة على البحر هو طريق محفوف بالمخاطر، وكانت أنظمة الإقامة والتنقل بين المستعمرات مشددة. أما الظهور/ الحضور الديني فكان محدودا على العكس مما هي عليه الأمور في نيو إنجلند وباقي المستعمرات الجنوبية عموما. وما ساهم في محدودية هذا الظهور الديني هو أن «الكويكرز» انفسهم كانوا منغلقين أكثر مما كان عليهم البيروتانيين في نيو إنجلند، الذين كانوا يعيشون في خضم سجالات كبرى في نيوإنجلند وباقي المستعمرات في الجنوب الأميركي.

فيلادلفيا وصناعة الديمقراطية

يقول المؤرخ الأميركي لويس بيري: «كان لظهور طبقة من الميكانيكيين والحرفيين في الحياة السياسية لمدينة فيلادلفيا تأثير كبير نحو تطور غير عادي في حياة أميركا لما قبل الثورة الكبرى. وقد استطاعت حكومة بنسلفانيا آخر الأمر، التي زرع فيها الاستكلنديون - الإيرلنديون حركة الكويكرز والإنجيليين، استطاعت أن تكسب شهرة كبيرة بأنها البلد ذو الديمقراطية الراديكالية التي لم ترق لمستواها بلد في العالم قبل قيام الثورة الفرنسية».

أما أهم ما تضمنته فيلادلفيا فهو نشوء الجمعية الفلسفية التي أسست بحسب بيري على يد فرانكلين، يقول «أسست الجمعية الفلسفية على غرار الجمعية الملكية في لندن وكان أول من اقترح تأسيسها هو فرانكلين في رسالة له في العام 1743». يقول فرانكلين في خطابه « لقد انتهت المشاق الأولى لتأسيس المستعمرات الجديدة، وأصبح منتهيا زمانها، لقد كانت كل مستعمرة تفخر بالرجال الذين سببوا لها الطمأنينة وانتظام العيش، والذين وفروا أوقات فراغ عندهم ليعتنوا بالفنون الجميلة ويحسنوا الوضع العام للمعرفة، ولقد حان الوقت لكي تجمع جميع التجارب الفلسفية التي تفسح المجال لدخول الضياء إلى الأشياء، وتنزع بالإنسان للسيطرة على المادة، وتضاعف مناسبات السرور والإستمتاع بالحياة «. يقول بيري «أتت الجمعية الفلسفية الأميركية العام 1769 وكان مقر الجمعية طبعا في فيلادلفيا وكان هدفها المعلن هو ترقية العلم النافع وكان فرانكلين أول رئيس للجمعية وخلفه في المنصب ريتنهاوس وخلفه جيفرسون العام 1796... كما أن منجزات وتصرفات الجمعية يمكن اعتبارها بحق أنها أصبحت جهازا للوحدة الثقافية الأميركية».

نشأت في المستعمرات الوسطى الأميركية صراعات ثقافية وسياسية كانت وليدة النموذج الإجتماعي في المستعمرات بإمتياز، يقول بيري «كان لحلقات الحرفيين مصالحها المتضاربة مع الجهود الرامية لتصفية الكنيسة الأنجليكانية في المستعمرات الوسطى، ولقد كان كل من أبن نيو إنجلند صمويل جونسون الذي أصبح العام 1753 رئيسا لكلية الملك الجديدة (لاحقا جامعة كولومبيا) في نيويورك ووليم سميث وهو استكلندي أصبح العام 1755عميدا لكلية فيلادلفيا، كانا يتمتعان برؤية لقيام مؤسسة انجليكانية ليبرالية تتبلور حولها طبقة من الوجهاء الإقليميين. وكانت رؤية جذابة بقدر ما كان لتآخي فرانكلين ورش وغيرهم مع المذهب الأنجليكاني لمدد مختلفة من الزمن من دلالات».

إمبراطورية لا تحكمها عاصمة

لم تكن المستعمرات الأميركية في الوسط الأميركي - على رغم من نشاطها الإقتصادي الليبرالي - بقادرة على صوغ عاصمة ثقافية حقيقية، وهو ما سينقلنا للحديث عن مدى قدرتنا على الزعم بأن لا عاصمة ثقافية أو سياسية كانت قد نشأت في أرض الإمبراطورية منذ البدء، وهو ما يفسر مقولة المؤرخ المصري هيكل حين قال إن الولايات المتحدة لم تنشأ كوطن، بل نشأت في سياق نشوء «موطن» لحضارات وتجارب أوطان أخرى.

يقول المؤرخ الأميركي بيري «والحقيقة أن نتائج النهضات اختلفت كثيرا بين مستعمرة وأخرى، إذ لم يكن لأميركا مدينة كبرى كأدنبرة أو لندن أو باريس حيث التغير الثقافي يمكن أن يتخذ منحى واحدا ثابتا ومتماسكا. ففي نيو إنجلند كانت اليقظات فرصا لإنشطار البيورتانية الأرثذوكسية إلى ثلاث فئات على الأقل (المعمدانية - الطبقة الساحلية من المثقفين على الموانئ - إدواردزيين، وهي طبقة دينية كانت تسعى لإعادة التاريخ عبر أطروحات فلسفية جديدة)... وأما في الجنوب فإن اليقظات كانت تهدد قوة الطبقة العليا كلما أخرجت جماعات كبرى نفسها من المؤسسات وأنماط السلوك المقننة التي كانت تعتمد عليها المنظمة الحاكمة، أما الكنيسة الأنجليكانية فكانت فيما تأخذ في الإنحلال يزداد عمر ملاكي العبيد».

لا يمكن اعتبار أي من هذه التشظيات في الجماعات الدينية أو حتى التحررية الليبرالية كانت الوقود الذي أشعل الإمبراطورية نحو التكوين والوجود، وواقع الحال أن جميع الذين خرجوا من المستعمرات كانوا يتباينون ويختلفون ويتقطاعون في مفاصل رئيسية لا نستطيع من خلالها الانتصار لجماعة من الجماعات الأولى لأن تكون الجماعة الرئيسية أو الأكثر نفاذا لبدايات تكون المجتمع الأميركي والثقافة الأميركية عموما.

يقول بيري «وإذا كانت اليقظة الكبرى لا تفسر بشكل كاف اندلاع الثورة فماذا عن حركة التنوير؟، لقد جادل بعض المؤرخين فعلا بأن الثورة الأميركية جعلت التنوير مؤسسات: وبمعنى أخر أنها نظمت شعبا بغير ملك أو ارستقراطية متوارثة أو كنيسة مؤسسة، ولكن مؤرخين أخرين قالوا إن كلام زملاءهم سلبي في وصف حركة التنوير، وأنما هو يركز فقط على ما كان يفتقر له. بعد حرب الاستقلال تعددت دوافعها، ولم يكن هناك أي عمل أميركي يعادل إقامة تمثال للعقل من فوق قمة كنيسة النوتردام في باريس، ولم يؤسس دينا علمانيا ليحل محل الأساطير المسيحية بما فيها من قيم وحفاوات»، بمعنى، أن الثورة في أميركا لم تخرج بثورة متطرفة على غرار النموذج الفرنسي، التي يصفها بيري بـ «المتطرفة والمعادية للمسيحية» وهو ما أعطى الأميركيين تشكلا اجتماعيا جديدا مغايرا عما كانت عليه حال التنوير في أوروبا خصوصا.

الذي كان مختلفا في نموذج الإمبراطورية الأميركية هو أنها نموذج مقلوب إجتماعيا، يقول هيكل مؤكدا ما ذهب له بيري بشكل دقيق «إن التجربة الأميركية جاءت بسابقة مغايرة لما كان قبلها في التاريخ. فالعادة أن الأوطان تظهر مع ظهور الدول فيها، داخل رقعة محددة من الأرض لها أطراف وحدود وتضاريس طبيعية تحول موطن أي مجتمع إنساني إلى وعاء مستقل بذاته وصفاته ـ ومن ثم تمهد لظهور سلطة فيه ترسم حدود الدولة وتشهر قيامها».

ويضيف «في أميركا اختلف الأمر. تأخرت الدولة كثيرا عن الظهور، وإن تناثرت على سطح القارة بؤر استيطان وعمران مكشوفة راحت حتى عصور متأخرة «القرن السابع عشر والثامن عشر» تدافع عن نفسها بوسائل ابتدعتها من إنشاء شركات إلى إنشاء ميليشيات. ولما كانت الهجرة إلى أميركا مستجدة، والثروات وفيرة، فإن الدول الأوروبية تدافعت، وراح ملوكها يبسطون حمايتهم على مساحات تفوق حجم ممالكهم الأصلية، وكذلك كانت سيادتهم رمزية... لكن المجتمعات الاستيطانية الجديدة في أميركا رأت لنفسها مصالح مختلفة عن مصالح هؤلاء الذين رأوا الفراغ الناشئ عن وجود «دولة أميركية» وتقدموا لملئه ـ وهنا ظهرت حركة الاستقلال الأميركية يقودها «جورج واشنطن»، وكانت بدورها معركة سهلة، وذلك أن السيادات الملكية الأوروبية كانت رمزية، ثم إن المجتمعات الاستيطانية الجديدة في أميركا كبرت واتصلت، واشتدت حاجتها إلى دولة وطنية تحفظ لها مصالحها المتميزة عن غيرها، وتكفل للجميع أمنا مشتركا. وكذلك اتحدت الولايات، أو بعضها، في حرب لطلب الاستقلال ـ ثم تقاتلت الولايات مع بعضها في حرب لطلب الوحدة ـ ثم توصلت التجربة إلى شكل الدولة الاتحادية ـ يقوم عليها مركز قوى يملكه الجميع ـ وحقوق متساوية تمارسها الولايات من دون وصاية من المركز. وفي ذلك كله كان الوطن الأميركي يتوسع من الشرق إلى الغرب، والمدهش أن «الفتح» لم يجر بالسلاح في بعض الأحيان، وإنما جرى بالشراء: جزيرة «مانهاتن» وعليها «نيويورك» جرى شراؤها مرتين «زعيم هندي أحمر باعها إلى شركة هولندية ـ وبعدها بعشرات السنين باعتها الشركة الهولندية إلى الولاية الأميركية». ولاية كاليفورنيا ـ صفقة بالبيع والشراء من إسبانيا «لويزيانا»، وصفقة مع فرنسا.

العدد 1819 - الأربعاء 29 أغسطس 2007م الموافق 15 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً