العدد 1839 - الثلثاء 18 سبتمبر 2007م الموافق 06 رمضان 1428هـ

تل أبيب وكسر «جدار الصمت»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الإشارات الإيجابية التي أطلقتها حكومة تل أبيب باتجاه دمشق توضح الكثير من علامات استفهام تُطرح بين فينة وأخرى بشأن حال اللاحرب والسلم القائمة على جبهة الجولان منذ نهاية حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فالإشارات السريعة التي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت أمس، وأشاد فيها بالنظام السوري وحكمة رئيسه معطوفة على استعداد تل أبيب لفتح حوار مع الحكومة السورية وإجراء مفاوضات من دون شروط مسبقة تشي بوجود اتصالات دبلوماسية سابقة قيل إنها جرت بين الطرفين عبر قنوات تركية وسويسرية ونمسوية وغيرها خلال فترة العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان الصيف الماضي، وبعد توقفه إثر صدور القرار الدولي رقم 1701.

كلام أولمرت واضح في توجهاته العامة. وما فات رئيس الحكومة أوضحه رئيس الدولة الإسرائيلية شمعون بيريز حين أكد أن حال التوتر مع سورية انتهت، وأن تل أبيب جاهزة للمفاوضات بشأن مختلف الملفات الثنائية والإقليمية.

السؤال الأول الذي يمكن طرحه بشأن هذه الهجمة السلمية يتعلق بالتوقيت. لماذا تم توقيت الهجمة أو الإعلان عنها رسميا في هذه الفترة؟

أجوبة كثيرة يمكن وضعها في هذا السياق. فالكلام لم يأتِ من فراغ، وإنما بني على مجموعة اتصالات مباشرة وغير مباشرة اتضحت معالمها الجزئية من تلك التعليقات السريعة التي صدرت بعد الانتهاء من اجتماع وزيرة الخارجية الأميركية مع وزير الخارجية السوري في مؤتمر «شرم الشيخ». فالوزير وليد المعلم خرج من اللقاء يقول إن المباحثات تناولت «خطوات عملية». أي أن التوافق تخطى عقبة النظريات وانتقل إلى الممارسة.

بعد ذلك ظهرت مجموعة إشارات في السياق المذكور منها اعتراف دمشق بحكومة نوري المالكي وتبادل السفراء ورفع العلم فوق السفارة في بغداد. وبعدها تكررت إشارات كثيرة منها زيارة المالكي لدمشق والتفاهم على مجموعة خطوات من بينها فرض تأشيرة دخول على العراقيين الراغبين في التوجه إلى سورية أو تجديد الإقامة فيها. بعدها جاء المؤتمر الأمني الجواري في دمشق (غابت عنه السعودية) الذي بحث مجموعة ترتيبات بشأن العراق ومستقبله.

الملف العراقي ليس الوحيد الذي فُتح على طاولات قنوات الاتصال الدبلوماسية. فهناك ملفات أخرى منها ما يتصل بالموضوع الفلسطيني واتفاق «تفاهم مكة» بين فتح وحماس ثم انشقاق القطاع عن الضفة وصولا إلى دعوة الرئيس الأميركي إلى عقد «مؤتمر دولي» الخريف المقبل.

إلى الملف الفلسطيني وتعقيداته جرى كشف حساب بالموضوع اللبناني. فهذا الملف يشتمل على مجموعة أوراق منها ما له علاقة بأمن «إسرائيل» وضمان حدودها الشمالية وترسيم الحدود وتحديد هوية مرتفعات شبعا وكفرشوبا مضافا إليها أمن لبنان واستقراره الذي تهدد مرارا باستمرار مسلسل الاغتيالات والتفجيرات إلى أن انفجرت أزمة مخيم «نهر البارد» في الشمال اللبناني.

الموقف الأميركي من حرب المخيم لفت الانتباه حين سارعت واشنطن منذ اليوم الأول لبدء الأزمة المفتعلة إلى اتهام تنظيم «القاعدة» بها. وجاء الموقف الأميركي ليعطي إشارة سياسية تخالف ذاك النمط الذي دأبت إدارة واشنطن على تكراره وهو تحميل سورية وإيران مسئولية كل ما يحصل من اضطرابات أمنية في العراق ولبنان وفلسطين. مسارعة واشنطن إلى اتهام «القاعدة» بالوقوف وراء حرب مخيم البارد رد تحية، وأعطى إشارة سياسية واضحة على وجود توجهات غامضة تحتاج إلى وقت للكشف عنها.

توقيت الإعلان

يبقى السؤال لماذا توقيت الإعلان الآن، وفي هذه الفترة تحديدا؟

الجواب يمكن ربطه بثلاثة احتمالات. الأول أن الغارة الإسرائيلية التي اخترقت الأجواء السورية أعطت مفعولها السياسي. فالغارة التي قيل عن أهدافها الشيء الكثير كانت مناورة لاختبار مدى صحة المعلومات عن استعدادات سورية للحرب. والمناورة الجوية التي اخترقت «جدار الصوت» استهدفت ضمنا كسر «جدار الصمت» والإعلان عن فحوى اتصالات جرت خلال الفترة الماضية استخدمت قنوات دبلوماسية متنوعة الألوان ومتعددة الأطراف. فالغارة كانت إشارة للبدء في الإعلان عن توجهات سياسية تم درسها أو طبخها واختبارها ميدانيا في أكثر من مكان وزمان.

الاحتمال الثاني يرتبط بالساحة العراقية وظهور بعض النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها استعادة الثقة وتنظيم العلاقات بين بغداد ودمشق. وهذا التطور في الاتصالات الثنائية له ثمنه السياسي ويتوقع منه أن ينتج بضاعة قابلة للتسويق والتصدير والتبادل.

الاحتمال الثالث يرتبط بالساحة الفلسطينية وظهور بوادر إيجابية من «حماس» باتجاه فتح باب الاتصال بحكومة تل أبيب والبحث معها في أمور ميدانية مقابل هدنة عسكرية تخفف الضغط عن أولمرت. ومبادرة «حماس» السلمية لا يمكن عزلها عن زيارة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي بدأت أمس وتستهدف الترويج لدعوة بوش إلى عقد «مؤتمر دولي» في الخريف.

التوقيت إذا لا يستبعد أن تكون له صلة ما بتلك التطورات الإيجابية بين سورية وأميركا في تنظيم العلاقات (تبادل المعلومات) بشأن ساحة العراق. والتوقيت أيضا لا ينفصل عن تلك النهايات التي أسفرت عنها حرب «نهر البارد» واتهام «القاعدة» بتدبيرها في وقت بدأ لبنان يستعد لدخول معترك الجلسة الأولى لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. والتوقيت لا يمكن عزله عن ذاك التوجه السلمي (هدنة عسكرية) الذي كشفت عنه حماس قبل يومين. وأخيرا لا يمكن فصل التوقيت عن زيارة رايس لرام الله وتل أبيب في لحظة صدرت تصريحات واضحة من جامعة الدول العربية تؤكد عزمها مقاطعة «المؤتمر الدولي» إذا لم يكن برنامجه محددا في غاياته وآلياته.

كلام بيريز/ أولمرت بشأن حكمة النظام السوري ليس جديدا. فهو يقال ويعاد إنتاجه دائما قبل وبعد اختبارات ميدانية. والموقف الإسرائيلي الذي أعلن عنه في اليومين الأخيرين هو خلاصة تجربة ميدانية أكدت مرارا أن مصلحة تل أبيب هي التفاهم مع طرف يضبط أمن الحدود ويلتزم بالاتفاقات ويملك القدرة على رعايتها من دون خرق أو تجاوزات. والكلام الإيجابي المذكور ليس سرا، فهو نشر وشرح في أكثر من مناسبة. وخلاصة معنى الكلام هو أن تل أبيب لا تهتم كثيرا بكلام الصحف وما يكتب من تعليقات أيديولوجية، وإن ما يهمها هو الواقع الميداني ومدى التزام الأطراف بتنفيذ تعهداتها واتفاقاتها.

الوظيفة أبلغ من الأيديولوجيا. وحين تؤدي الوظيفة إلى النتائج المرجوة ميدانيا فهي بطبيعة الحال أقوى سياسيا من كلام يقال في الليل ويتبخر في النهار. وهذه الوظيفة التي أثبتت مكانتها على امتداد ثلث قرن تعتبر المقياس العملي للسياسة الميدانية.

تحت هذا السقف الوظائفي يمكن قراءة كلام بيريز/ أولمرت وترتيب أوراقه السياسية في فترة تكشف عن معنى توقيت الإعلان لموضوع أشبع بالدراسات والبحوث الإسرائيلية، وانتهى دائما إلى النتيجة نفسها ومفادها «أن اللاحرب واللاسلم لايزال الخيار المفضل مقابل خيارات أخرى غير مدروسة ولا معلومة».

في حال تحليل هذه المعادلة السلبية يمكن التوقع أن الهدف من تلك الإشارات الإيجابية الإسرائيلية هو التنبيه أو التذكير بأن مصلحة تل أبيب الآن الإبقاء على حال الهدوء، وتمديد تجميد البحث في السلام في مفاوضات «المؤتمر الدولي». وبين خيار السلم وخيار الحرب تبدو تل أبيب تميل إلى سياسة التجميد وإعادة تثبيت الأمر الواقع حتى لو أدى أحيانا إلى نوع من الاستقرار القلق. فالقلق يمكن احتواء تداعياته وهذا بالضبط ما استهدفته الغارة الإسرائيلية للأجواء السورية. فخرق «جدار الصوت» أراد إرسال إشارة تنبه إلى احتمال خرق «جدار الصمت» وتوضيح ملابسات وتشققات ظهرت إبان العدوان على لبنان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1839 - الثلثاء 18 سبتمبر 2007م الموافق 06 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً