العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ

يتأخر النص فتشعر بنهاية العالم

ثمة شعراء يملكون طاقة ساحرة. ينتشلونك من وهْدة الصوم عن كتابة الشعر. تقرأهم فتجد نفسك ممسوسا بشيء ما تسرّب إلى «جوانيتك». ليس بالضرورة أن تكتب. ربما بانتقالات نحو مساحات أخرى ليس بالضرورة أن تكون الكتابة إحداها. قد يكون تمركزا في مساحات من التأمل والقراءة المغايرة. التأمل في الوجوه والوجود والأشياء والحياة عموما. وقراءة كل ذلك بنَفَس شبه ملحمي ليس بالضرورة - وللمرة الثانية - أن يؤتي أكله في هيئة نص تنتصر به على رتابة «صمتك» و«صومك» عن الكتابة/النص.

وثمة شعراء هم على النقيض من ذلك، لا يزيدونك «حبة من خردل» بل على العكس من ذلك. ربما يتسرّب إليك شئ من الفراغ الهائل الذي تتحرك فيه نصوصهم. شئ من البريّات المخنوقة والمحاصرة المنفّرة لوجود - عدا عن تكاثر المخلوقات فيها - من بين أولئك الشعراء يبرز الشاعر اللبناني عباس بيضون. هو شاعر كبير ومهم في المشهد الشعري العربي المعاصر، ولكنني وخلال أكثر من عقدين من متابعتي وقراءتي له لم أستطع، كما لم يستطع هو إخراجي من تلك المساحة المفزعة والمرعبة التي يمر بها كثير من الشعراء: الإحساس بنهاية العالم حين يتأخر النص عن المجئ، أو حين يحتبس دمه في دمك، فلا تكاد ترى أو تسمع. لا تكاد تشعر بكل هذا التموّج الدائم في حركة الحياة. لا شئ سوى الركامات والأمكنة المهجورة والشواهد العاجزة عن تقديم القاطنين تحت ترابها كما يجب.

عربيا، سبعة شعراء هم في الصميم من موهبة استدراجي للخروج على حال «الصمت» و»الصيام» - على الأقل ضمن تجربتي في التعاطي مع مشروعهم الشعري - : ادونيس، محمود درويش، محمد علي شمس الدين، مريد البرغوثي، قاسم حدّاد، وأخيرا تميم البرغوثي.

سبعة شعراء يتركون موائدهم تحت الضوء... ضوئهم... تنزلق من عتمتك باتجاه هذا الاحتفاء المهيب بالحياة، لأن النص الكفؤ والجدير هو بمعنى من المعاني ضلوع نبيل في الاحتفاء بالحياة وأشيائها. ليس ذلك وحسب، إنه تخريب ضروري للمسلّمات... دفق من الأسئلة الشائكة... المعقدة، وأحيانا البديهية في وجه تسليم شمولي لإجابات انتجتها «التابوهات» سعيا وراء تسوير الأفق!.

***

هناك من يذهب إلى النص مثل ذهابه إلى حفل استقبال، وما يميزه هو الدعوة فقط! وهناك من يذهب إليه بنيّة وواقع تخريبه... تخريب البلادة والسماجة والمساحيق فيه. وهناك من يذهب إليه بسيطا وبعفوية بالغة فيكون هو نجم الحفل وسيده. وهناك من يذهب إليه مسلّحا باكتناز معرفي يتقاطع في كثير من الأحيان مع التقاط اللحظة الشعرية في ذلك الحفل فيحيله إلى كتل من ظلام. وهناك من يذهب إليه من دون دعوة، يركل الباب بقدمه... يتجاهل الأيدي الممدودة لمصافحته، وسيكون كريما ودمثا إن لم يبصق عليها. يبدأ بتخريب برنامج الحفل. فقط بتعليقه الأسئلة في سماء المكان، بعد أن يتأكد من أن الثريات والمصابيح قد هوت إلى الأرض. يضئ بأسئلته المعتم من المكان. يترك الحفل وقد عقد العزم على تكرار التجربة في اليوم الذي يليه.

***

هل صحيح أن كل الشعر العربي اليوم هو شعر مصالحة مع الواقع والأشياء والأنظمة ؟ بحسب ما جاء على لسان أدونيس في لقائه الأخير مع برنامج «روافد» في جزئه الثالث، الذي يعده الزميل أحمد الزين؟ هل ثمة فعلا غياب لمساحة الأسئلة والمساءلة فيه من دون استثناء؟ هل الشعر وحده المعنيّ بهكذا توصيف وتقرير؟ على رغم أن أدونيس عرّج على الثقافة باعتبارها العنوان العريض والجامع والمضمون القائم اليوم بتورطها في حال المصالحة تلك، إلا أن تغييبا لمفهوم وواقع تصالح الشعر مع الحياة نفسها قد تم! الحياة ضمن مسارات يختطها كل واحد منا بهدف التأكد من أن مشروعه الضروري للدفاع عن المضئ ضد المعتم، المتحرك ضد الثابت... حق الخيار ضد شهوة الانتهاك... وفي المحصلة، الدفاع الأخير عن الحياة وأشيائها.

الخطوط الحمراء التي تكررت على لسان أدونيس، لاتزول إلا بالدفاع عن الوردة قبالة شهوة المعدن وسطوته... عن الطبيعة في عزلتها خروجا إلى الإضافي وغير المرئي من الفضاء... انتزاع صفة الهامش ومحو واقعه عن الشعر ليأخذ مكانه الأصيل في متن الثقافة العربية المصابة بوحشة الأسمنت وموهبة الردم.

العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً