العدد 1882 - الأربعاء 31 أكتوبر 2007م الموافق 19 شوال 1428هـ

بين لقاء المردي والبسّام... تاريخ طويل

أول لقاء مباشر لي بالزميل خالد البسّام كان قبل أكثر من عام، مع تدشين أول كتاب له عن عبد الله الزايد، ضمن مشروع «رواد الصحافة البحرينية»، بمتحف البحرين الوطني. وآخر لقاء كان ليلة الجمعة الماضية، في حفل تكريمه بـ «الوسط»، وآخر ما قرأته له «أضواء قلم»، عن المرحوم محمود المردي، وعلى الرف مجموعة أخرى من كتبه أنتظر الفرص للاختلاء بها في الأمسيات.

من اللقاء الأول يترك لديك البسّام انطباعا بأنه اسم على مسمى؛ فهو يستقبلك ببسمة وادعة مقطوفة من وادي السلام. وهو الانطباع نفسه الذي تستخلصه من قراءة كتبه، التي يغلب عليها السرد التاريخي، بمنهجية متخفّفة من أدوات وشرائط البحث التاريخي لصالح تقديم مادةٍ خفيفةٍ على القارئ المعاصر، الذي تتنافس على قلبه الفضائيات وإغراءات عالم الانترنت.

ومهما قيل من ملاحظات أو تحفظات «أكاديمية» عن منهجية البسّام في تناوله التاريخ، فما يقوم به إسهامٌ لا يمكن إنكاره في حفظ التراث، بطريقته الخاصة.

فالمردي - الذي تحتفظ له الذاكرة بصورة الكاتب الحكومي، من خلال آخر ما تعيه من كتاباته، يعيد إليه البسّام الاعتبار - على الأقل- في أذهان أبناء جيلي الذي عاش فترة السبعينات المضطربة في الخليج. فهو يبدأ كعادته في سلسلة رواد الصحافة بمقدمة تعريفية للشخصية، ثم يعرض «مختارات» من مراحل مختلفة من عطائها الصحافي والفكري. وإن كان هناك من يتساءل عن مدى ما تمثله هذه المختارات من دقة في رسم صورة حقيقية تماما للرجل، وهل يمكن بالتالي أن يخضع تقديمه إلى القارئ لعملية تجميل مقصودة، باستبعاد بعض الكتابات عن قصد، كما يحدث في تقديم الشخصيات التاريخية العربية في صورة أبطال بلغت مرتبة القداسة الخالية من الشوائب والرتوش.

المردي... بين القصر والقبر

أول مرة أسمع باسم المردي كان في العام 1975 ربما، يومها كنت طالبا في المرحلة الإعدادية، وذلك في تعليق لأحد الكتّاب على جريمة اغتيال رئيس تحرير مجلة «المواقف» المرحوم عبدالله المدني، وكان الوالد -رحمه الله- يشتري صحيفة «الأضواء» أو «المواقف» أسبوعيا لأقرأ له ما يستجد في محاكمة المتهمين. كان مضمون التعليق يقول: «لو ذهب المتهمون إلى بيت المردي لما تمكنوا من تنفيذ جرمهم؛ لأن منزله يحرسه كلب شرس». وهو ما كنت أقراه عبر نافذة السيارة عند دوار السلمانية، كلما ذهبت إلى المنامة، على لوحة معلّقة على باب منزل فخم كالقصر في تلك الأيام، تقول «احترس كلب شرس»، واكتشفت لاحقا انه بيت المردي. واحتفظت الذاكرة الطرية بالتعليق الساخر، كما احتفظت بصورة اللوحة المعدنية لما لعبارتها من إيقاع أدبي.

قبل ستة أعوام، ذهبتُ للمشاركة في تشييع جنازة أحد المتوفين الآسيويين بمقبرة المنامة، وبينما كان الحفّار يجهز القبر، تسلّلتُ بين الحضور للطواف بين القبور وقراءة ما كُتِب على شواهدها. وفجأة تسمّرت أمام الاسم المكتوب على شاهد أحد القبور: محمود المردي، تاريخ الوفاة: أبريل 1979. هنا إذا يرقد المردي رقدته الأخيرة. هنا بين الأعشاب والحشائش التي تغطي شاهد القبر، حيث يسود السكون والصمت الأبدي، اختفى اسم المردي الذي كان له دويّ ورنين. من يذكر المردي اليوم؟

إعادة بعث المردي

لو سألت القراء اليوم، لقال ثلاثة أرباعهم إنهم لم يسمعوا بهذا الاسم. ولانقسم الربع الأخير بين من يصفه بأنه كاتب حكومي، وبين من يقول إنه من بقايا هيئة الاتحاد الوطني، تقلّب به الزمن بين المعارضة والموالاة. أما المردي الكاتب ذو الأسلوب الأدبي السهل الممتنع، والمعلومات المتنوعة، فتجده في كتاب مختصر من 252 صفحة من الحجم المتوسط، حرص البسّام على تقديمه بين أول افتتاحية كتبها لمجلة «صوت البحرين»، في 15 أغسطس 1950، وبين آخر ما اختاره له من مقال يقرّض فيه وزارة العدل والشئون الاسلامية لإصدارها مجلة «الهداية» في 22 فبراير 1978، بـ «أخبار الخليج». ومن الواضح ان فترة طويلة تمتد 14 شهرا سقطت - ربما سهوا - من تاريخ الرجل.

بين المقالين، ترى المردي يتناول مختلف القضايا المحلية والعربية، من بيروقراطية الوزارات والضرائب والصحافة الحرة وانتخابات المجلس التأسيسي حتى إعلان ترشحه بقوة للبرلمان السابق، انتهاء بدفاعه عن تمرير قانون «أمن الدولة» باعتباره حاجة للدولة لتحقيق برامج التنمية، وهي وجهة نظر دفعت البحرين وشعبها وتنميتها ثمنها غاليا جدا، كما يعرف الجميع.

في الكتاب تتناثر مقالاته عن السياسة الدولية والانحياز الأميركي الأعمى لـ «إسرائيل»، وما خرج به من انطباعات من زياراته الهند والباكستان، وعن الواقع العربي الذي لم يتغير إلاّ باتجاه مزيد من الأزمات والضعف والتفكك والتبعية للأجنبي، ولو عاش لرأى استخدام أراضي بعض البلدان العربية ومطاراتها قواعد انطلاق لغزو بلدان عربية أخرى!

ما عمله البسّام، وعلى رغم ما يقال من ملاحظات «أكاديمية» تتعلق بالمنهج وطريقة التناول، فإنه نجح إلى حد كبير في حفظ جزء مهم من تراث الصحافة البحرينية، حين نجح في إعادة بعث المردي من جديد، بعد أن طالت رقدته في التراب.

العدد 1882 - الأربعاء 31 أكتوبر 2007م الموافق 19 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً