كثر الحديث منذ السبعينات من القرن الماضي عن «المجتمع المدني»، وذلك تعبيرا عن السعي الحثيث لتقوية النسيج الاجتماعي المعتمد على تعدد الأنشطة الطوعية المتعاقدة جماعيا والعاقدة العزم لتحقيق أهداف مجتمعية، أي يقوم بها أفراد المجتمع بصورة مستقلة عن تسلّط وهيمنة «الدولة». أنشطة المجتمع متعددة ومتنوعة وتشمل جميع قطاعات المجتمع وطبقاته واهتماماته، ولهذا فإنّ «المجتمع المدني» الحيوي هو الذي يتمكّن أفراده من تكوين أعمالهم الجماعية وممارسة أنشطتهم بصورة مستقلة عن مؤسسات الدولة، ولكن ضمن «حكم القانون الدستوري» العادل والمقبول من المجتمع. ويعرف المجتمع المدني بأنه ذلك المجتمع الذي يتمتع بحرية التشكيلات الذاتية والطوعية والتعددية.
هذا يطرح السؤال عن طبيعة العلاقة بين مؤسسات الدولة ومؤسسات وأنشطة المجتمع المدني. فلكي يكون هناك عمل «ذاتي» حقيقي لابدّ من الابتعاد عن الهيمنة الرسمية (من ناحية التراتبية التنظيمية). هذا لا يعني أنّ المؤسسات المجتمعية لا تحصل على ترخيص. فكثير من الدول تتطلب أنْ يحصل أفراد المجتمع على ترخيص لبعض أنواع المؤسسات والجمعيات التي يكوّنها أفراد المجتمع، ولكن المقصود هو أنّ هذه المؤسسات المجتمعية لا بدّ لها أنْ تمارس نشاطها ضمن حدود الدستور ولكن من دون «تسلط» الدولة.
- المجتمعات ومنذ القدم تنشأ فيها أنشطة ذاتية. مثلا، عندما يتفق بعض الأفراد لادخار جزء من معاشاتهم شهريا على أنْ يحصل أحد الأفراد على ما تم جمعه بصورة دورية فإنّ ذلك يعتبر من التشكيلات البسيطة للمجتمع المدني.
- المجتمع المدني الحيوي يمثل بالنسبة لبعض المفكرين «السلطة الخامسة»، على أساس ان الدولة لديها ثلاث سلطات (تشريعية وتنفيذية وقضائية)، وهناك «السلطة الرابعة» المتمثلة في الصحافة، وعليه فإن المجتمع المدني، وكونه سلطة خامسة، يمثل رادعا «لتسلط» الدولة. فالدولة التي تسعى لتركيز استقرارها وأمنها تسعى باستمرار لممارسة الضغوط التي تزداد لتصبح «تسلطا» مع الأيام، ودكتاتورية، وشمولية خانقة لكلّ النشاطات الاجتماعية. إذا المجتمع المدني يُراد منه خلق التوازن بين سلطة الدولة وحقوق المجتمع. ولهذا فإنّ الدول المتقدّمة المستقرة تعتمد في استقرارها الاجتماعي على حيوية «المجتمع المدني» الذي لا يأتمر بالدولة، ولكنه يلتزم بحكم القانون الدستوري.
- وعلى هذا الأساس، فإنّ الدول المتقدّمة تحتوي على مؤسسات للمجتمع المدني تتنوع بين منظمات شبابية ونسائية، جمعيات مهنية، نقابات عمّالية، مؤسسات خيرية ودينية، نوادٍ حرّة، دور ثقافية وفنية، جمعيات للحارات والجيران، جمعيات الضغط بمختلف أشكالها.
- وفي الأمم المتحدة، فإنّ المؤسسة الدولية اعترفت بدور المجتمع المدني من خلال السماح للمنظمات غير الحكومية (التي هي - عادة - منظمات خارج إطار الدولة وتشمل - في العادة - جنسيات مختلفة ولديها اهتمامات اجتماعية واقتصادية وبيئية)، بالاشتراك في اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والهيئات المنبثقة عن المجلس، ومجلس حقوق الإنسان، واللجان وفرق العمل المنبثقة عن كل ذلك.
- وقد برز دور المنظمات غير الحكومية بشكل قوي في العام 1993، أثناء انعقاد «المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان» في فيينا، إذ استطاعت هذه المنظمات غير الحكومية الضغط والتأثير على برنامج المؤتمر على رغم أنها لا تمتلك حق التصويت أو اقتراح المشروعات للتصويت. وقوة هذه المنظمات تزداد مع الأيام، وهناك دعوات لإصلاح الأمم المتحدة للأخذ برأي المنظمات غير الحكومية التي تمثل الشعوب أكثر من الحكومات التي تمثل «الدول القومية». وهذه الدول القومية أصبحت - ولأسباب عديدة - لا ترعى مصالح مجتمعاتها أو المجتمعات الأخرى بصورة حسنة، كما أثبتت السنوات منذ تكوين الأمم المتحدة في العام 1945. وقد رحب الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان بتشكيل «مجلس عالمي شعبي» للاحتفال بالألفية الثالثة في العام 2000.
- مفهوم «المجتمع المدني» حصل على قبول الثقافات المختلفة بصورة أكبر من المفاهيم الأخرى. فإلى حد الآنَ لا يوجد اعتراض فكري ضد أصل المفهوم، والاعتراض الرئيسي يأتي من «الدول القومية» التي تحاول المحافظة على التضخم السلطوي لديها.
- «المجتمع المدني» الحيوي هو الداعم الرئيسي للحكم الصالح.
- مؤسسات المجتمع المدني تعبر (او تخرق) حدود الدولة القومية بسهولة. فالذي يهتم بحقوق الإنسان، مثلا، فإنّ ذلك يدعوه للدفاع عن حقوق الإنسان في أيّ مكان، سواء أكان في بلده أم خارج بلده. ومع انتشار ثورة الاتصالات والإنترنت، فإنّ الشعوب بدأت تطلع على أفكار بعضها الآخر وتتحالف بصورة طبيعية على أساس الأفكار والاهتمامات (بدلا من أسس القبلية ودون الحاجة لرؤية بعضهم بعضا بصورة فيزيائية) من دون أنْ تتمكن الدول القومية منع ذلك.
- لقد طرح الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي، موضوع «المجتمع المدني الإسلامي» بقوة أمام المؤتمر الإسلامي في طهران في ديسمبر 1997، ما أثار دهشة المراقبين السياسيين الذين لم يتوقعوا أنْ ينطلق أحد زعماء الدول الإسلامية في هذا الاتجاه.
- مؤسسات المجتمع المدني تختلف عن المؤسسات والأحزاب السياسية التي تسيطر أو تسعى للسيطرة على السلطة. المؤسسات المدنية المقصودة هي تلك الجمعيات الخيرية ومجموعات الضغط وغيرها، كما ذكر أعلاه.
- مؤسسات المجتمع المدني لا تستهدف قلب النظام، وإنما تستهدف رعاية مصالح المجتمع والحد من تسلط الدولة على تلك المصالح. ومؤسسات المجتمع المدني يستفاد منها في الدول المتقدمة من أجل ممارسة التطوير والإصلاح المستمر للدولة. ولهذا فإنّ «تسييس» المؤسسات المدنية يجعلها وجها لوجه مع مؤسسات الدولة. وفي المجتمعات التي تسيطر عليها الدكتاتورية، فإنّ المواجهة هذه قد تكون حتمية وغير مريحة، ولا بدّ أنْ ينتصر فيها أحد الطرفين (القوى الاجتماعية أو الدولة) أو يتم التنازل من أجل خلق التوازن بين الدولة والمجتمع.
- المجتمع المدني يتطلب أنْ تتحوّل «الحالة الجماهيرية» أو «الحركة الجماهيرية» إلى مؤسسات أكثر تنظيما لكي تستفيد تلك الحركة من إنجازاتها. والنخبة السياسية المنتظمة في الأحزاب السياسية التي قد تحظى بدعم تلك الحالات الجماهيرية لا تستفيد كثيرا، على المستوى البعيد، إذا لم تتحوّل الجماهير لوحدات اجتماعية منظمة ضمن إطار المجتمع المدني. بل على العكس، فقد تصبح الجماهير عبئا على نفسها وعلى النخبة السياسية التي تؤيدها. إنّ العمل الجماهيري يعتمد على التفاعل والحضور الجماهيري المباشر في الساحة ولكن هذا الحضور بحاجة للانتظام «مدنيا» لكي يستمر في عنفوانه. وهناك حالة جماهيرية جديدة خلقتها شبكة الإنترنت وعززتها ثورة الاتصالات التي تحرك الجماهير. وهذه الجماهير أصبحت أكثر تعليما وثقافة من الماضي. ولكنها أيضا تخضع الأمر نفسه، بمعنى، عليها أنْ تتحوّل لمؤسسات مجتمعية طوعية ومنظمة لكي تستفيد على المدى البعيد.
- مفاهيم «المجتمع المدني» تتطابق كثيرا مع مفهوم «العقد الاجتماعي» الذي تحدث عنه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك. كما تتطابق مع المفاهيم الثقافية الأخرى الداعية للحفاظ على الحقوق الأساسية والمدنية للمجتمع.
- المجتمع المدني يعتمد على التفاهم المستمر بين أفراد المجتمع ويعتمد على الحديث المستمر والتفاعل مع القضايا. وهذه الأفكار تتشكل في مؤسسات بصورة «غير مركزية»، مكونة شبكة كثيفة من الهيئات المدنية لحفظ حقوق المجتمع ضمن الإطار الدستوري المتفق عليه بين الحاكم والمحكوم.
*نقاشات في ورش عمل نظمت العام 1998
العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ