العدد 1911 - الخميس 29 نوفمبر 2007م الموافق 19 ذي القعدة 1428هـ

الدولة الحديثة بعد إلغاء الخلافة

الحركات الإسلامية والفكر المعاصر (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من الصعب حصر مواقف الحركات الإسلامية العربية من مسألة الديمقراطية والفكر العاصر، فهناك عقبات تمنع تحقيق الهدف المذكور، منها:

أ- تنوع التنظيمات الإسلامية واختلاف ظروفها المكانية ونشأتها الزمانية.

ب- تاريخ كل تنظيم وتطور أفكاره وتعارض توجهه السياسي بين فترة وأخرى.

ج- اتساع المساحة الجغرافية لعمل المنظمات الإسلامية واختلاف استراتيجياتها بين دولة عربية وأخرى.

د- انقسام التنظيم الواحد وتعدد مصادر كل طرف الفكرية والثقافية والاجتماعية.

هـ- صعوبة الحصول على وثائق مختلف المنظمات؛ نظرا إلى تنوعها من جهة؛ ولجوء بعضها إلى العمل السري من جهة أخرى.

حتى يتم حصر البحث كان لابد من توزيع عمل الجبهات الإسلامية إلى فريقين كبيرين: الأول يشارك بنسب متفاوتة في برلمانات بعض الدول العربية وحكوماتها (الأردن ولبنان والمغرب مثلا)، والثاني يناهض الأنظمة العربية ويحاربها سياسيا في بعض المناطق، وعسكريا في مناطقَ أخرى.

بعد تقسيم الجبهات إلى فريقين تم إهمال الأول لسبب بسيط وهو عدم وجود مشكلة لديه مع الدول العربية التي يتحرك في داخلها، الأمر الذي يسقط مبرر البحث وهو المسألة الديمقراطية. وتم التركيز على الفريق الثاني بسبب وجود تلك المشكلة وهي سلبية التنظيم من الديمقراطية أو سلبية الدولة وحساسيتها من التنظيم.

بعد أن تم تحديد الفريق الإسلامي المطالب بتوضيح وجهة نظره من الديمقراطية كان لابد من مراجعة المسألة في ضوء نقاط ثلاث:

الأولى، تطور الفكرة واختلافها داخل التنظيم نفسه بالتركيز على أدبياته الصادرة حديثا في الثمانينات ومطلع التسعينات.

الثانية، التنازع بين المنظمات الإسلامية واختلاف تفسيراتها للمسألة الديمقراطية.

الثالثة، علاقة تلك التنظيمات بالسياسة وعلاقة السياسة بها.

وبسبب صلة الفكر بالسياسة كان لابد من قراءة أدبيات المنظمات الإسلامية من منظور سياسي لأنها في النهاية هيئات تنشط في المجتمع، الأمر الذي يغلّب على عملها الجانب السياسي على الديني.

ونتيجة غلبة السياسي على الديني في أنشطة المنظمات الإسلامية كان من الصعب فصلها عن البيئات التي تتحرك فيها وتحديدا نمط علاقتها بالدولة الوطنية (المعاصرة والحديثة) وموقف الدولة نفسها من مسألتي الديمقراطية والإسلام. فالبحث في أفكار الهيئات الإسلامية يبقى قاصرا إذا لم يتم تناول المحيط السياسي الذي تنشط فيه، كذلك ستكون الأفكار مجرد آراء عامة معزولة عن حركة الواقع ومناخاته الاجتماعية والثقافية، ففضاء الحركات الإسلامية في النهاية فضاء سياسي ولابد من قراءة صلتها بالواقع لفهم اضطراب علاقاتها بالدول العربية.

بسبب تلك الصلة كان لابد من الاطلاع السريع على مواقف الدول العربية المعنية نفسها بسياسة المجتمع ومسألة الديمقراطية، فالمشكلة ليست من جهة واحدة بل من جهتين، وحتى تكتمل القراءة كان لابد من فهم تعقيدات العلاقة بين الطرفين التي تشهد أحيانا فترات هدوء واستقرار ثم تشهد أحيانا أخرى فترات اضطراب وتشنج.

وخوفا من اتساع الملف تم القفز عن الكثير من القضايا المتعلقة بأسباب إخفاق أسلوب التحديث والتنمية وعجز الدول المعنية عن تطوير الإنتاج وزيادته ليتناسب مع ازدياد السكان، كذلك تم القفز عن إهمال الدول لقضية تطوير المجتمع وأهمية إطلاق الحريات لدفع الوعي السياسي إلى مرتبة أعلى تتناسب مع نمو وعي الناس بهوياتهم ومشكلاتهم ومطالبهم. وبما أن الحرية لا تنمو في دولة استبدادية، كذلك لا يمكن تطور فكرة الديمقراطية في دولة لا تعترف بها وترفض الخضوع لشروطها السياسية والإنسانية.

نحن إذا لسنا أمام فريق يرفض الديمقراطية وآخر يقبل بها، بل إننا أمام وضع لا سياسي ممنوعة فيه كل أشكال التعبير، الأمر الذي يجعل البحث في مسألة الديمقراطية مجرد ترف فكري لا علاقة له بمجرى حركة الواقع، وصلة الأخير بصراع الأفكار. وربما تكون النقطة الأخيرة أهم ما حاول البحث إبرازه من خلال صدمات عربية عنيفة شهدتها المنطقة في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات. والصدمات الأخيرة ليست معزولة عن تداعيات شهدتها المنطقة في مطلع القرن الماضي.

في العام 1924 أصدر محمد فراج المنياوي مجلة باسم «المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر» قال إنها: «مجلة علمية دينية دورية للدعوة إلى عقد المؤتمر». وذكرت المجلة في مقالها الافتتاحي أنها تهدف إلى نشر الدعوة «إلى مؤتمر يبحث في شئون الخلافة»، وأن «المسلمين لا يريدون سوى عقد مؤتمر يحضره ممثلو الأمم الإسلامية لحل مسألة الخلافة». وأدلى في المجلة المذكورة (العدد الثاني، نوفمبر/ تشرين الثاني 1924) الشيخ محمد رشيد رضا برأيه في الدعوة إلى مؤتمر ووجد فيه فرصة سيقرب «بين المخلصين من الواقفين على الطرفين فيجذبهم إلى الوسط» وسيدحض «شبهات الذين يظنون أن الشرع الإسلامي يحول دون ارتقاء الأمم إلى أرقى معارج القوة والعزة وأوج الحضارة». كان الشيخ رضا يرد في مقاله على تيارين: المتمسك بالقديم من دون غيره والمتمسك بالجديد من دون غيره، وهو يرى أن «لا سبيل إلى الجمع بين الأمرين، وجعل نظام الخلافة متفقا عليه من الفريقين، إلا بإظهار الشرع الإسلامي بقسميه التنزيلي والاجتهادي في أسلوب من البيان، يعلم موافقته لحال هذا الزمان في كل مكان». يرفض رشيد رضا في المقال تيار «المتشددين في المحافظة على القديم المألوف وينكرون كل محدث وإن كان معروفا ويسكتون على القديم وإن كان منكرا»، وضدهم تيار «الغلاة في طلب التجديد فهم يحبذون كل جديد وإن كان قبيحا، ويقبحون كل قديم وإن كان حسنا».

كتب الشيخ محمد رشيد رضا هذا الكلام قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات (توفي في العام 1935)، ومازلنا وبعد 82 سنة من كتابة المقال نقرأ ما يشبه أفكاره التي أعيد صوغها بأسماء مختلفة وبأساليب متعددة، فالموضوع الفكري هو نفسه يعاد إنتاجه وتكراره ثم يكرر وينتج من دون تراكم معرفي في وقت يستمر الزمن في جريانه غير مكترث لتلك الأطنان من الكتب والأوراق.

إذا هناك مشكلة، وهناك ما يشبه الاتفاق على وجودها. وهناك حل، وهناك ما يشبه الاختلاف عليه. والسؤال: هل هناك خلافات فعلية على الحل بين ما يسميه رضوان السيد تيار الصحوة وتيار الإصلاح، في دراسته عن «التأصيل والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر»؟

نظريا يمكن أن نلاحظ الاختلاف بين النزعتين، وعلميا يلاحظ أن هناك تشابها في قراءة المشكلة وحلها. تيار الصحوة يقوم على فكرة استدعاء النص، وتيار الإصلاح يقوم على فكرة استيراد النص.

الأول يقول: «ما فينا يكفينا»، والثاني يقول: «ما ناسب غيرنا يناسبنا».

إذا هناك مشكلة يريد تيار الصحوة معالجتها بالنص، ويريد تيار الإصلاح معالجتها بالنص أيضا. الفريقان يريدان معالجة المشكلة بحلول ذهنية (نصوصية) بينما حقيقة المشكلة واقعية (تاريخية).

ربما تبدأ أزمة الفكر المعاصر (عربيا وإسلاميا) من هذا الخلل المنهجي في قراءة الواقع التاريخي وتحليل أسباب التفاوت القائم بين العالم الأوروبي والعالم العربي.

أدى الخلل المذكور إلى قراءة نصوصية لمشكلة واقعية فاعتبرت المدارس الفكرية أن الحل هو في الفكرة وليس في التاريخ، الأمر الذي دفعها إلى محاولة تغيير النص لا تغيير الواقع، فانشق عن المحاولة من يدافع عن النص في وجه من يريد استبداله.

إذا حاولنا اليوم اختزال ذاك الكم الهائل من النقاشات يمكن إدراجها تحت عنوان مشترك يؤكد اتفاق تيار الصحوة مع تيار الإصلاح في منهج التفكير.

اعتمد تيار الصحوة على اقتباس النصوص وتركيب فِقرات على بعضها بعضا محاولا استدعاء الحلول للرد على المشكلات المعاصرة. واعتمد تيار الإصلاح على المنهج ذاته فاكتفى باقتباس نصوص مترجمة وحاول إعادة تركيبها فِقراتٍ مختارة من هذا الفيلسوف الفرنسي أو العالم الاجتماعي الألماني، أو ذاك المفكر الاقتصادي الإنجليزي ظنا منه أن الإكثار من التشكيلات الفكرية يسرّع من عمليات الإصلاح والتحديث.

ولاشك في أن التيار الأول افتقد القدرة على وعي المشكلة بينما الثاني كان يعوزه وضوح الحل. وبين ضعف الوعي وقلة الوضوح دار أطول اشتباك فكري في تاريخنا، وهو مازال يكرر نفسه على أكثر من جهة وجبهة نار.

يحاول رضوان السيد في بحثه المذكور أن يلتقط عناصر الأزمة فيلاحظ «أن الإصلاحية الإسلامية تحالفت موضوعيا مع رجالات عصر التنظيمات العثمانية في مجال إقامة منظومة جديدة تستوعب المتغيرات العالمية التي أحدثتها صدمة الغرب». لكن التحالف انهار في مطلع القرن الماضي عندما بدأ الفكر الإسلامي المعاصر «الظهور بشكل متدرج في عشرينات القرن العشرين، وعلى خلفية قطيعة تدريجية أيضا مع فكر وممارسات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت في أقطار السلطنة العثمانية» في فترات من القرن الماضي. وهكذا «بدا أن خللا ما بدأ يظهر في مجالين: مجال علاقة الإصلاحية الإسلامية بالغرب أو نظرها إليه، والمجال الآخر علاقة أو تحالف الإصلاحيين بالدولة ورجالاتها».

أدى الخلل الأول إلى تعزيز شك النخبة الإسلامية العربية في الغرب وأخذت تربط بين السياسي والثقافي وخصوصا بعد الكشف عن اتفاقية سايكس - بيكو وصدور وعد بلفور وما قيل عن تراجع مكماهون عن وعوده للشريف حسين.

وأدى الخلل الثاني إلى تعزيز شك النخبة الإسلامية العربية في رجال الدولة المعاصرة (القومية) وباتت تجد في كل محاولة تحديث مؤامرة على الأمة وتاريخها. وانفجر الوضع بين رجال الإصلاحية الإسلامية ورجال الدولة عندما عمد مصطفى كمال أتاتورك - كما يذكر رضوان السيد - إلى «الفصل بين السلطنة والخلافة العام 1921، ثم ألغى الخلافة العام 1924، وأقام نظاما قوميا علمانيا متشددا فصل بمقتضاه الدين عن الدولة (...) مع عدائية صريحة ضد الإسلام ومؤسساته ورجالاته».

من هنا نفهم لماذا أقدم محمد فراج المنياوي على إصدار مجلة في العام 1924 تقتصر مهمتها على الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي لإعادة الخلافة واختيار خليفة.

آنذاك كان محمد رشيد رضا من رجال التيار الإصلاحي، وعندما كتب مقاله في المجلة المذكورة كان في بداية طور الانتقال إلى تيار الصحوة والتمسك بالسلف الصالح.

يشرح رضوان السيد تلك الفترة بالقول: «لعل أبرز مظاهر تلك الأزمة، التي تخلق في رحمها الفكر الإسلامي المعاصر: تحولات رشيد رضا ونشوء حركة الإخوان المسلمين»، إذ «أحدثت الأزمة حيرة وضياعا انعكسا خوفا على الذات والهوية، وخصوصية الإسلام وأصالته».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1911 - الخميس 29 نوفمبر 2007م الموافق 19 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً