العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ

ظلال حافية

ينحدر الدرب كأنه اليقين، باتجاه نهر يلتف بقوس مفتوح، حول الجهة الغربية من البلدة الصغيرة، كثيرة الناس، قليلة الوجدان، يتدفق بقوة، ثم ينساب بما بقي منه نحو الأراضي المنخفضة...الشابة التي قطعت طرقاتِ الضيعةِ، كانت كحيلة، ببشرة قمحية، وقدّ متناسق، تلبس فستانا واسعا مزركشا، كأنه حديقة ربيعية، بزهور صفراء وحمراء وخضراء، تلف خصرَها النحيل بزنّار جلدي، تَظهر أصابعُ قدميها الطويلة، من مقدّمة نعلها الخفيف، تلم شعرها بمنديل معقود إلى الخلف. كانت تشبه باقي الصبايا، لكن أحدا لم يعرفها. ُأشيع بأنها طفلة الماء التي انزلقت من بين فخذي أمها، فعّمدها النهر، وسحبها معه منذ سنوات كثيرة، الآنَ رجعت... لكنها مجرد إشاعة كغيرها...لا يمكن تصديقها، ولا تكذيبها.

كانت تمشي مثل الغرباء، بشرود تام، خطوات تتسع ولا تستعجل، تتبع إشارات الدرب والحصى، وعلى رغم أنها بلا خريطةٍ ولا دليلٍ، إلا أنها لم تسأل أحدا، ولم تلتفت. كانت تسترشد بظل أثار حفيظة أهل الضيعة، الذين فقدوا ظلالهم منذ أمد بعيد، مدّعين، للتخفيف عن أنفسهم، أنّ الظل شيءٌ يكاد لا يرى، مخلوقٌ من ريح عابرة، أنه ليس سوى انعكاسٍ تافه غير مهم،حتى إنهم ما عادوا يتذكرونه.

صبية ترافق ظلها؛ وفي هذا الوقت من النهار؛ كان أمرا يخالف قوانين الضوء ومنطق الشمس التي أثارها التحدّي فازدادت نزقا، صارت ترسل المزيد من لهبها وضوئها بحدّة صيفية جعلت حبيبات العرق تتر وتلمع فوق الوجوه المتعبة، والجباه التي تجعدت.

فجأة أشار نحوها طفلٌ حاف كان يلعب الكرة: «إنها الساحرة... رأيت صورتها في كتاب المدرسة... تعالي العبي معي».

رمقتها امرأٌة تلبس تنوّرة غجرية، وتلطخ فمها بأحمر قرمزي، وقالت بسخرية: «ليست سوى فتاة عادية بنهدينِ متهدلينِ.. ومن المؤكد أنها ذاهبة صوب

النهر، لتغسل ثيابها الوسخة». ثم أشاحت وجهها بقرف.

أبعد رجل أشيبُ، كان يقحُّ طوال الليل، مبسم نرجيلته عن شفتيه، وقال: «إنها على موعد غرامي عند ضفة النهر، مثل أزواج الحمام يلتقون هناك، يتراشقون بالماء، يثيرون زوابع الضحك والفجور... جيلٌ بلا حياء، قصف الله عمرها».

تساءلت طفلة وهي تفلت يد أمها: «- انظري إليها يا أمي، إنها ذاهبة؛ لتسبح، لماذا لا تتركيني أذهب معها، لماذا تمشي وهذا الشيء الطويل يجري أمامها؟.

- إنه ظل لا أكثر.

- ما معنى ظل؟...

لكن أمها شدّتها من كمها مبتعدة، وهي تقول: «هواء... ريح سوداء، لا تهم أحدا».

أطلَّت زوجة سمينة من نافذة بيتها الواطئ، وصرخت:»كم يبدو عليك الغباء أيتها الفتاة... من المؤكد أنك ستضلين طريقك وأنت تتبعين هذا الشيء، ولن ينفعك بعدها الندم...»

أفاق رجل، كان ينام تحت الجدار، من س ْ كره مذعورا، وقال: «هذه هي المرأة المدهشة التي زارتني في الحلم، أريد أنْ أتزوجها».إمام الجامع الذي نزل عن المئذنة، وبين أصابعه تدرج حباتُ السُبحة، قال متأففا:»إنها من علامات الساعة... امرأة تعكس ظلها و تستهدي به طريقها، يا لطف الله، يا جبّار... يا حفيظ... احفظنا من آخر الزمان... زمن يأجوج ومأجوج.»

عسكريٌ عابسٌ يقف أمام باب المخفر، قال: «سأكتب تقريرا عنها... لابدّ أنها من المطلوبات للعدالة... وجهها وجه مجرمة». توقفت عجوز تبيع الخضارعن ندائها، تمتمت بصوت خفيض:

«ستعيشين وحدَك، وتموتين وحدَك، لن يسأل عنك أحدٌ، بظل أو بلاظل، ما الفرق؟».

المتسوّل الذي كان يحشو جيبه بالخبز اليابس، اقتطع لقمة بأسنانه، ومدّ يده نحوها بالباقي.

أمّا بهلول الضيعة، فما أن لمحها حتى أجهش بالبكاء.

الضوضاء والتكهنات والأسئلة التي تساقطت من الأفواه لم تكن تبحث عن إجابة، كما أنها لم تجعل البنت الغريبة تلتفت. كانت مأخوذة بعالمها كأنها روح غريبة لا تسمع، شاردة، والأحلام الطازَجة تتبعها.. استمرت تمشي بخفة تكاد لا تلامس الأرض... عبرت البيوتَ المكشوفَة، الحكاياتِ العتيقَة، الساحَة المزدحمَة، الدكاكين، البضائع، النوافذ المفتوحة وتلك التي ُأغلقت بالمسامير، الأشجار التي تعبت من طول وقوفها، البراعم المترددة، الضحكات، الأسئلة، الغضب، أهلها الذين لا تميزهم.

كانت تنظر أمامها دون إلفة، لم يبد أن شيئا مما حولها يهمها. لكنها توقفت حين سمعت صوت مكابج بعدها تعالى صوت زمور متتابع. طار شرر من تحت عجلات حافلة كادت تدوسها.

زعق السائق، وقد بانت أسنانه المنخورة، ولوزات حلقه الحمراء:

«عدتِ لنبتلي بك... لا ينقصنا مصائبٌ... كنا مرتاحينَ من دونك أيتها الخرساء الصماء».

رعشٌة مفاجئٌة، وريح طارئة عبرت جسدها... انكمشت... ضمت أطراف ثوبها.

سمعت كما سمع الجميع نداء يأتي من بعيد.

تسمروا في أماكنهم دون حراك، وحدَها بدأت تركض، باتجاه النهر، فاتحة ذراعيها مثل طير يطير.

العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً