العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ

الصفويّون صراع متصوّفة وفقهاء... من «حلقات الدعاء» إلى برك الدماء

تشكّل غامض ونزعات انتقام وولاء قزلباشيّ راسخ

حقيقة ما كان لهذه الدولة أن تأخذ حيّزا من الذكر بين الاصطراعات القائمة اليوم، أو أن تصبح مادّة لرسائل جامعية تأخذ على عاتقها مهمّة توجيه التاريخ وفرض إسقاطات لا واقع لها لولا الصراع السياسيّ الذي يستلزم استثمار كل الأدوات الدفاعيّة والهجوميّة، وهو ما يفرض علينا بشكل جديّ ممارسة إعادة «مَوْضَعة» لهذا الجزء من التاريخ بشكل أكثر إنصافا.

بعد تقليبي كتاب «نشوء وسقوط الدولة الصفويّة» لكمال السيّد صُدمت بأن الكتاب لم يكن سوى دراسة مبسّطة استندت في غالب مادّتها إلى المجموعة التاريخية الكبرى عن تاريخ إيران والعهد الصفوي للشيخ رسول جعفريان بتصريح المؤلف، فيما كان القارئ يتوقع أن يرى دراسة تحليليّة «جادّة» باللغة العربيّة تضع النقاط على الحروف، وتعالج المسألة بشكل أكثر عمقا من وجهة نظر حيادية في ظلّ تبادل الاتهامات.

الكتاب الذي أصدرته دار الباقيات في قم بإيران (الطبعة الأولى 2005) من تأليف عباس حسن الموسوي المعروف بـ «كمال السيّد» الذي نال شهرة في الأوساط الأدبيّة الإسلاميّة بوصفه نموذجا قادرا على إعادة كتابة الماضي في قوالب أدبية مشوّقة. يقع الكتاب في 368 صفحة، بتسعة فصول، وعدد من الملاحق.

في الفصول الثلاثة الأولى تعرّض المؤلف لظروف تأسيس الدولة الصفوية والحوادث التي عصفت بها، وطبيعة علاقاتها مع الدول الأخرى، وخصّص فصليه الرابع والخامس لشخصية الشاه عباس الأول وأثره، والسادس تعرّض فيه لسيرة بعض الملوك والعلماء المؤثرين، وفي الفصول الثلاثة الأخيرة تعرّض لانهيار الدولة، محلّلا أسباب سقوطها.

ينتهي بنا المؤلف طوال رحلة الكتاب إلى أن اعتبار الدولة الصفويّة نموذجا للدولة الشيعية تحاكم على أساسه طائفة كبيرة من المسلمين ليس صحيحا، فهذه الدولة كغيرها من الدول دالت بعدما انقلبت قيمها الأخلاقية وطغت الدسائس وكثرت الرّشا بين الضباط الكبار وضعُفت سطوة/ شخصيّة الحاكم. وليس صحيحا أن يُقال عن هذه الدولة إنها إيرانيّة المنشأ؛ لتحاكم طائفة أو قوميّة بجُرم الانتماء إليها، فالأسرة الصفويّة ذات النفوذ الصوفيّ (في إيران وتركيا) إنّما اكتسبت قوّتها من حماس وتأييد القبائل التركمانية بآسيا الصغرى وليس الفارسيّة. وكانت اللغة المعتمدة في البلاط الصفويّ لفترة لا بأس بها هي التركيّة، وفيما ظلّ الأتراك يشغلون المراكز الحسّاسة باعتبارهم أركان الدولة، فإنهم لاحقا أسندوا المناصب الإدارية للطاجيك الإيرانيين (المثقفيّن) مع احتفاظهم بالمناصب السياسيّة والعسكريّة.

هذه الدولة التي تشكّلت حركتها الأولى من مزيج بين التسنّن الصوفيّ والتشيّع بعدما انتظم في حركة الشيخ الصوفي صفيّ الدين الأردبيليّ (ت 1252) الشيعة المطرودون مذهبيا والملاحقون سياسيا كوّنت نواة قوة عسكرية سُمّيت بـ «القزلباش» من ذوي القبعات الحمر ذات الشقوق الاثني عشر رمزا للأئمة (ع)، وأصبحت هذه القوّة بعد ذلك معيار استقرار الدولة أو اضطرابها، ولتشهد الحركة بذلك تحوّلا من جُبّة العبادة وحلقات الذكر إلى ساحات المعارك مع العثمانيين والقوميّات والمذاهب الأخرى، وطبعا تدثرت الحروب البشعة دائما (لكي تكون مشروعة) بالمذهبيّة بشكل فجّ من جميع الأطراف.

ولمّا كان التشيع الأناضوليّ المتطرّف بلا جذور ولا تراث فقهيّ راسخ، فإنّه اتجه إلى الخارج، إذ استقدم علماء ولاسيّما من جبل عامل؛ لملء الفراغ الفقهي والدستوريّ، وأدّى ذلك إلى وجود نوع من التفاهم بين السلطة والمؤسسة الدينية تعرّض لتراجعات بسبب ممارسات غير مشروعة بالبلاط الصفويّ، ولعلّ أكثر الشخصيات الدينية تأثيرا أيام الشاه إسماعيل الأول المحقق الشيخ علي بن عبدالحسين الكركي (ت 1533) الذي رسّخ جذور الدولة مذهبيا ودستوريّا، إلا أن تاريخه لم يخلُ من صدام في بعض المفاصل معها، ولاسيّما مع تأكيده خطورة التصوّف على الفقه الشيعيّ، ما فتح بابا لصراع بين الفقهاء والصوفيّة (محضن القزلباش) كان أحد أسباب انهيار الدولة.

من خلال التفاصيل التي أوردها المؤلف يغدو من غير المعقول أن ينصّب أحد نفسه حاميا عن حِمَى الدولة الصفويّة، ويطّهر ساحتها ممّا ارتكبته من فظاعات وحماقات لم يقبل بها حتى شيوخ الإسلام الكبار كالكركيّ ومحمد المفيد (ت 1625)، كما ليس من المعقول أن تصنّف تلك الدولة مذهبيا (بكلّ الدلالة السلبيّة)، وتقصى (دون مثيلاتها) بعيدا عن الحضارة، وتلصق بها كلّ جرائم الإنسانيّة، وتغدو «سُبّة» يُرمى بها بعض مَنْ لا يمتّون إليها بصلة. كما لا يمكن فهم تاريخ هذه الدولة بمعزل عن تعقيدات الوضع المحيط، وهو ما يؤكّد الحاجة إلى دراسة جادّة تعيد إنتاج ما كتب عن تلك الحقبة، وهي مهمّة تقتضي التجرّد والموضوعية لمعالجة تاريخ دولة ولدت من رحم ونبتت في رحم آخر، وقاومت قرنين من الزمان حتى انتهت، وبقيت ذكراها رمزا «يمرّر» عبره الكثير والكثير بانتقائية واضحة.

العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً