العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ

بين صُوْر عُمان وصُوْر لبنان

يطرح تشابه اسمَي صُوْر عُمان وصُوْر لبنان سؤالا عن كيفية حدوث ذلك، فهل كان هذا التشابه بمحض المصادفة أم أن هناك تاريخا واحدا مشتركا يجمع بين الصُوْرين؟

الواقع أن التشابه لم يأتِ مصادفة، بل إنه يمتد إلى فجر التاريخ إلى عصر ما بعد الطوفان. فقد ظهر آنذاك عالم جديد يتكوّن من ذرية نوح (ع) وهم سام، حام ويافث. هؤلاء الأولاد الثلاثة أنجبوا ذراري تفرقوا في أنحاء المعمورة. وأنجب حام - كما ورد في سِفْر التكوين في التوراة - أربعة أولاد هم كوش، مصرايم، فوط وكنعان، وسكن كوش مع ذريته في أرض بابل (العراق)، وكان من هؤلاء النمرود الذي كان جبارا في الأرض. وأما كنعان، فقد كان له 11 ولدا هم صيدون، حثّ، يبوس، آمور، جرجاش، حوّي، عَرقي، سيني، أرواد، صمار وحماة، وقد سكن هؤلاء جنوب بلاد كوش، أي على ساحل الخليج العربي حتى حَضْرَمَوْت.

ويقال: إن في جزائر البحرين هناك جزيرة باسم أرواد، وجزيرة باسم صُوْر. ويقال: إن فيهما هياكلَ أشبه بهياكل الفينيقيين. ولكن هؤلاء الكنعانيين هجروا بلادهم هذه، وقد تعددت أقوال المؤرخين في سبب هذه الهجرة، فيقول هيرودوث: «إن زلازلَ توالت عليهم في بلادهم أكرهتهم على الاغتراب عن وطنهم نحو سورية». ولكن مؤرخين آخرين أرجعوا هذه الهجرة إلى نزاع وقع لهم مع حكام بابل ملوك الكوشيين من ذرية نمرود. وهذا ما تؤيده أقوال الكثير من مؤرخي العرب الذي ذكروا مهاجَرَة الكنعانيين إلى سورية، وجعلوا سبب هجرتهم حربا تلظت بينهم وبين سلالة نمرود.

وبعد أن انتقلوا إلى سورية، توطّنت ذرية صيدون في صيدا وما جاورها وأسموها باسمه. وأما حثّ فقد توطنوا في بلاد ما بين نهر العاصي ونهر الفرات وجبل الكام (الأمانوس) وفصيلة منهم سكنت حبرون، - أي: الخليل الآن - وجوارها. وأشهر مدن الحثيين هي قادس التي كانت تقع على نهر العاصي قرب حمص، وأيضا مدينة كركميش أو جرابلس الحالية الواقعة على نهر الفرات قرب الحدود السورية مع تركيا. وكان لقادس معاركُ كبيرةٌ مع المصريين دوّنتها آثار الفراعنة في الكتابة الهيروغليفية. وأما كركميش، فقد دخلت في صراع مستمر مع الآشوريين، وقد دوّن هؤلاء هذا الصراع في آثارهم المسمارية. وأما اليبوسيون والآموريون، فقد توطنوا في فلسطين وخصوصا في منطقة القدس وجوارها، أي في الضفة الغربية الحالية. وتوطن الجرجاشيون في الأردن، وطبريّا، والجولان. وأما العرقيون، فقد سكنوا في عرقا وجوارها في عكار (شمال طرابلس لبنان). وتوطن السينيون في الساحل السوري بين جبلة شمالا والمرقب جنوبا. وأما الأرواديون، فقد توطنوا في جزيرة أرواد السورية وما قابلها في اليابسة، وخصوصا طرطوس وعمريت. وتوطن الصماريون بين منطقة عكار واللاذقية شمالا. والحماتيون هم سكان حماة على العاصي وباسمهم سُمّيت.

وعلى رغم اشتهار قادس وكركميش، فإن ثمة بلادا كنعانية أخرى شهدت ازدهارا وشهرة هي بلاد الفينيقيين، أي: سكان ساحل سورية. وكان اليونان أول من أطلق اسم الفينيقيين عليهم. ويرجح العلماء أن يكون هذا الاسم مشتقا من كلمة «فون» أو «بون» التي عبّرت بها أقدم الآثار المصرية عن بلاد العرب الشرقية (عُمان) وشاطئ الخليج العربي من حيث أتى الكنعانيون.

وكانت صُوْر أعظم مدن الفينيقيين وكان لها سطوة على جميع مدن فينيقيا الأخرى. واشتهر الصُوْريون خصوصا والفينيقيون عموما، بالتجارة وخصوصا في البحر، إذ كانوا بحارة ماهرين مخروا البحار ووصلوا إلى إسبانيا التي أسموها ترشيش وبنوا فيها عدة مدن أهمها قرطاجة ومالقا.

كما أن ديدو أخت ملك صُوْر بيجامليون هربت من صُوْر مع جالية من قومها وأسست في تونس قرطاجة الجديدة نحو العام 840 قبل الميلاد. وكان لقرطاجة هذه عز وسلطان، ولكن توالت غزوات الآشوريين والكلدان والمصريين على بلاد الفينيقيين فخرِّبت. وجاء الرومان فخربوا قرطاجة، فمضت حضارة الفينيقيين، ولكن شواهدهم لاتزال باقية. ولعل أهمها هي أحرف الكتابة التي نقلها قدموس إلى بلاد اليونان ومن هناك انتقلت إلى كل أوروبا والعالم. كما أن آثارهم في صُوْر عُمان وفي صُوْر وصيدا وجبيل لبنان، وفي أرواد وعمريت سورية، لاتزال إلى الآن شاهدا على عظمة ذاك الشعب وعلى ازدهاره في سالف الزمان.

محمد خليفة

* كاتب من الإمارات

العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً