العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ

الصديقان

ميلو ودَحْدَح، صَدِيقَان يَعِيشَان في قمقمِ ذاكرَتِي، نَجحتُ طويلا في منعِهمَا منَ الخروجِ منه لئلا يتعكر مزاجي، لا أدري كيفَ انفلتا مِنْهُ الليلةَ مَعا، هكذا فجأة ودونَ سابقِ إِنْذَارٍ رأيتُهما يَكْسِرَان فُوَّهةَ القمقمِ ويمشيان سويّا في دهاليزَ وممرَّاتٍ تفصلُني عنها مسافةٌ زمنيّةٌ طويلةٌ جدّا، وبِشَكْلٍ ضبابيٍّ لمحتُ ميلو برأسِه الكبير وشعرِه الأسود الفاحم رغم أطنانِ القشرةِ والغُبارِ التي تُغَطِّي نظراتِه الكسيرةِ يتحدَّثُ بطلاقةٍ إلى صاحبِه و يدخِّنُ أعقابَ السجائرِ التي تركتُها في منفضتِي هذا المساء، ورَأيتُ دحدحَ مطاطئا رأسه الحليق بالموسِ، بسمرته الداكنةِ وضخامتِهِ اللافتةِ يعَضُّ على يدِه ويبكي بصوتٍ عالٍ فيما ميلو يحتضنُه ويهدهدُ رأسَه بحنو بالغ.

لم تفزعْني التماعةُ عيني دحدح لحظةَ ناولَه ميلو عقبَ سيجارةٍ أخيرةٍ كانَ قد احتفظ بِها لنفسه لتعديل حالة مزاجه، تلقفها منه بلهفة ودخنها بشراهةٍ فيما كانَ منصتا لحديثِ صاحبِه باهتمامٍ واضحٍ، تارة يهزُّ رأسَه بصورةٍ توحي بالفهم وتارة أخرى يصفق بحرارة حين تطرقُ أسماعَه شتيمةٌ كانَ يودُّ لو أنَّه قائلُها في زمانٍ مضي، فيما ارتسمتْ على وجهِ ميلو ابتسامةُ رضى إذْ وجدَ أخيرا من يتابعُ حديثَه باهتمامٍ دون أنْ ينفجرَ أمامه بعاصفةٍ من السبابِ أو الاتِّهَاماتِ التي كانَ مستمعيه يقابلونَه بها فيما مَضى.

ميلو ودحدح، لم يكونا يوما أصدقاء، بلْ انهما لم يتبادلا التحيةَ قطْ، كما أنّني لا أتذكَّرُ أنَّني لمحتُهما سويّا في زمنٍ واحدٍ، أو مكانٍ واحدٍ، يبدو أن ذاكرتي هيَ المكانُ الوحيدُ الذي جمعَهُمَا بهذهِ الصورةِ كإلفين حميمينِ، يظهران معا، ويختفيان معا، وما أن تومضَ صورةُ أحدِهما في رأسي حتى تقفزَ صورةُ الآخرِ معَهَا، دون أي تفسيرٍ منطقيٍ، سوى أن الطفلةَ التي رأتْهما في زمنينِ مختلفينِ، أمكنَها أن تلمحَ تشابها بينهما لم يرهُ الآخرون فيهما، لهذا وحدتْهُما في ذاكرتِها في حين لم يعدْ يتذكرهما أحدٌ.

لم تكنِ الملابسُ الرثةُ هي الشيء المشترك الذي يدعوها لجعلِهمَا توأمين في ذاكرتِها، ولا الطريقةُ التي كانا يرتديان الملابسَ بها، فكلاهما كان يرتدي ثيابا كثيرة بعضها ضيق وبعضها فضفاض، لا يمنعهما صيفٌ أو قيظٌ من التخلي عن أي منها، كلاهما كان يحملُ صرَّة من القماشِ يضعُ بها ما تجودُ به نساءُ المدينةِ من أرغفةِ خبزٍ وبقايا طعامٍ، حتى المعطفُ الشتويُ الذي كان كلٌّ منهما يتدثرُ بهِ صيفا وشتاء كان يحملُ نفسَ الرائحةِ ونفسَ بقعةِ الملحِ الشاسعةِ الممتدةِ من تحتَ الإبطين إلى الظهرِ، رغمَ أنَّ معطفَ ميلو بدا أكثرَ قذارةٍ بفضلِ لونِه البيج الفاتحِ الذي يشبهُ معطفَ التحري كولومبو، ولولا المسافةُ التي تفصلُ بينَ مدينةِ جرَش الأثريةِ والولاياتِ الأمريكيةِ لظننتُ أن كولومبو أهداه إياه في أحد الأعياد أو في ليلةِ شتاءٍ قارصةٍ، بينما ظلَّ معطفُ دحدح أقل قذارةٍ ، لعلَّه لونه الرمادي الغامق جعله يبدو كذلك، إلا أنّ خيوطَ الصوفِ كانتْ تنسلُ منه وتلامس الأرض، وحيثما مشى كانَ يُسمعُ لمروره حفيفٌ خفيفٌ.

يا إلهي، كيف أمكنني تذكرَ هذه التفاصيل، وتذكرَ الالتماعة في عيني دحدح وقد دأبتْ على إخافتي ودفعي للركضِ في كلِّ مرَّةٍ أراه بها هائجا باتجاهِ الرصيفِ المقابلِ غير آبهةٍ بنفير السيارات وهي تمرُّ أمامي؛ لتنبيهي من الخطرِ المحدِّق بي، كان يكفيني تذكر علامات الغضب على وجهه؛ كي أرمي بنفسي تحت أقرب سيارةٍ خوفا من أن ينقضَّ علي، قيل لي آنذاك أنه مجرمٌ شرسٌ ويؤذي الفتياتِ اللواتي يشفقنَ عليه ويقدِّمنَ له الحلوى إذا لمحَ أحداهنَّ قريبة منه ساعةَ هياجه.

عاشَ دحدح حياتَه حتى نهايةِ صيف عام 68 من القرن الماضي دونما حاجة للكلام، لذا بدا في مُعظم الأحيانِ صامتا، عدا في الأوقاتِ التي يبالغُ صبيةُ الحي بمضايقته بها، كان يصرخُ صراخا يمزَّقُ سكونَ الظهيرةِ، ويعَضُ على يديه حتى ترتسمَ علاماتُ الألمِ على وجهه الغاضبِ وتبرز عينيه بشكلٍ مخيفٍ، وحينَ يبلغُ به الضيقُ درجة لا احتمال لهُ بها كانَ يصفعُ وجهه بقسوةٍ ويبدأُ بالسُبابِ بلغةٍ لا يفهمُها أحدٌ، يبدو أنّها كانت لغة خاصة به وحده، يطلقُها لحظاتِ الغضبِ لإخافة الأولاد، أو لتقريع نفسه على عدم قدرته على صدِّ حبات الطماطم/ أغطية المياه الغازية/الأحجار التي يقذفُها الصبيةُ عليه وهمْ يضحكونَ وينعتونَه بالجنونِ وبالهبلِ/ وانتهى به المطافُ محترقا بنارِ موقدِ «الكاز» الذي اشتعلَ في القش الذي افترشه ذاتَ ليلةٍ شتويةٍ في خانٍ كانَ صاحبُه يشفق عليه ويسمحُ له بالنوم فيه شتاء.

وعلى العكسِ من دحدح، كان ميلو لا يتحرك إلا ضمنَ دائرةٍ ضيقةٍ جدّا، ويكتفي بالجلوسِ طوال اليومِ على تنكةٍ صدأةٍ مقلوبةٍ ومغطاةٍ بكيسٍ بلاستيكي قرب دكان صغير يقع بين بيت جدي الكائن في السوق القديمة بمدينةِ جرش والمسجدِ، و كانَ نادرا ما يغادرُها إلا لقضاءِ حاجة في حمامِ المسجدِ، كما أنَّه كانَ نادرا ما يصمتُ، وأغلبُ الظنِّ أنّه كان يضطرُّ مرغما للصمتِ حين يغافلُه النومُ، وأحيانا يتغلبُ على سلطان النوم وهو جالسٌ فيبدأ بالهذيان، وتبدأ حركة يديه باستثارة فضول المارةِ، فيتحلقونَ حوله لمحاولةِ فهم ما يقولُه، وكان في الغالب خطابُه إليهم سياسيّا جريئا يسبُّ به الخونةَ والملوكَ ويحمِّلُهم كافةَ المسؤوليةَ عن الهزيمةِ وضياعِ الأرضِ، واختفى فجأة في أيلول الأسودِ معَ منْ اختفوا بتهمةِ الجاسوسيةِ والتآمرِ على أمن الوطن.

ميلو ودحدح، رجلان عاشا عَلى هامشِ الحياةِ، جاءا فجأة، ورحلا فجأة، لم يجمعْهما زمان أو مكانٌ سوى ذاكرةِ طفلةٍ كانت تجوبُ أزقةَ المدينةِ الأثريةِ؛ بحثا عنهما كل صيف، لتطمئنَّ على أحوالهما وتمنحهما قطعَ الحلوى وبعضَ الاهتمام.

سمر الأشقر

العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً