العدد 1952 - الأربعاء 09 يناير 2008م الموافق 30 ذي الحجة 1428هـ

حراسة الماضي

إرجاع الزمن الى لحظة البداية، اختزال، بل هو محْوٌ لتاريخ الإنسان وحضوره وإنجازه منذ أن وجد على سطح هذا الكوكب. وهو اختزال ومحْو يقول فيما يريد قوله - بوعي أو من دون وعي - أن ما عداه من إنجاز وحضور، يظل «عابرا» فيما هو «المقيم» والمحرّك ... ان ما عداه يظل ثابتا فيما هو المتحول على مستوى التأثير والإضافة... ان ما عداه متلقٍ وتابعٌ وممتثل، وعليه أن يكون كذلك. مثل تلك الرؤية التي ما زال بعض مريديها يؤكدونها... من أن الماضي ضمن تصور تلك الرؤية هو المرجعية المطلقة والوحيدة... تدفع الى تعميق حال من المسوّغات وتنشئ نوعا من «الحراسة» على الماضي خوفا من انفلات الحاضر ومساءلة المستقبل!.

***

مثل تلك الرؤية، هي في العميق من ذهاب السلطة بعيدا عن الحدود التي من المفترض أن تتحرك وتدعو وتبشّر بما تريد التبشير به... وبمعنى آخر، هي قمع وإن اجتهدتْ في تبريره على أكثر من مستوى، إنْ على مستوى القياس كمدخل رئيسي تنطلق منه تلك الرؤية لفرز وتصنيف وفي النادر قراءة ما عداها من رؤى، أو على مستوى التقرير !.

تكشف مثل تلك الرؤية عن «إكراهات» مدروسة، وعلى رأس أجندتها - من دون أن توحي بذلك - إكراهات تهدف إلى إيجاد «نظمية» تعتقد بها في مرحلة أولى، وتفرضها في مرحلة ثانية. لحظتها لا يعود الحاضر حاضرا بقدر ما يعود «ماضيا» بأدوات تحريك مغايرة... لا يد لها فيه... ولا يعود المستقبل مستقبلا، بقدر ما يعود حاضرا معاصرا ومعاشا له أجندته «المعاينة والملموسة» والتي يمكن تحديد الدقيق من إمكان تمثلها وتطبيقها!.

***

إذنْ هو تواطؤ على المستقبل، وتلك هي الخطورة... فالحاضر في امتداده العربي الإسلامي لا يشي بانقلاب - على الأقل على المدى القريب - من الإملاء في في السياسة والإجتماع والتربية و... لا يشي بالمضاد من تلك الرؤية، وبالتالي يصبح الزعم بخلق أو إنتاج حال من «الكونية» المتوازنة على مستوى تلك الحقول ضربا من «التنجيم» بالنظر الى وضعية التواطؤ تلك وبالنظر الى تبني الإختزال والمحْو!.

***

مثل تلك الرؤية، تكريس لتوجه «تماثلي»... وحين تُكَرَّسُ حال «التماثلية» تلك، يصبح الحديث عن التعدد ضربا من السماجة والضحك على الذقون، بمعنى آخر هي دعوة الى «باطل كوني» مقدمته وبالضرورة نتيجته من ذات السنخ!.

***

مجتمعات هي في الصميم من تحكّم تلك الرؤية لا يُتوقعُ منها غير أن تديرَ ظهرها للمشكلات التي تواجهها...إذ هي جزء من ذلك الإختزال والمحْو... ومثل إجراء كذاك يدفع بتلك المجتمعات لأن تكون بمعزل عن حركية العالم في بعدها المتغير والمنتج... وأية محاولة للإنعتاق والتمرد على تلك الرؤية تكون بمثابة تعدٍّ على عدد من المفهومات والثوابت ...التي تدّعي الخوف عليها: الهوية ... الأصالة... الذات الجمعية المتفردة!.

***

تظل الذات «محور العالم»... الذات في بعدها المنطلق للدخول في متطلبات الجماعة والتفاعل مع تلك المتطلبات.. بحيث تتحول إلى أداة فاعلة تهدف إلى وضع نفسها في تصرف التحرك والتفاعل الجمعي سعيا وراء الخروج من حال «الخاص» الى حال «الكوني»... على مستوى التكيّف... الإنسجام... التغيير بصفته ضرورة تثبت حركية الحياة!.

***

وفي مواجهة إرجاع الزمن الى لحظة البداية بكل ما يتطلبه ذلك الإرجاع... والقول ضمن - عدد من المقولات - «بأن ثقافة شعب ما أفضل من ثقافة شعب آخر»، وبشكل قاطع وفي المطلق، تدفعنا الى إعادة النظر وقراءة ما توصل اليه كلود ليفي - شتراوس في عدد من أبحاثه من خلال تأكيده أن التعصب لمثل رؤية كتلك انما تكشف عن حال من الإستلاب إزاء الثقافات الأخرى... وفي جانب ، هيمنة معايير الثقافة تلك على البشر المنتمين اليها والتبعية لها.

الثقافة التي لا تدشن أسئلتها حول العالم كفضاء كلي ومفتوح انما ترمي الى تغييب حال من «التكامل»، وتصرُّ زورا على حال من «التفاضل»!.

***

ثمة تجاذب في الزمن «العربي - الإسلامي» الخاص... أو لنقل ثمة حال من «الهدْر» لتلك القيمة وبمعزل حتى عن النصوص والوصايا والهدْيين القرآني والنبوي... وحين أشرت الى وضعية إرجاع الزمن الى لحظة البداية لم يكن ذلك الإرجاع على ارتباط أو صلة بفاعلية وحسمية تلك القيمة بقدر ما هو ارتباط به ضمن إطاره التقريري الجاهز بعيدا عنه وهو في الصميم والمركز من التحكم في فاعليات البدء ونوعية النتائج.

***

زمن يمعن في «زخرف» الممارسة فيما هو بمنأى عن «لب» الحضور وتأثير ونتائج تلك الممارسة... زمن بمنأى عن النموذج الأول ... ولن يكون مقنعا القول: ان ما استحدث واستجدّ في حاضر الزمن يظل علامة فارقة عن بدائية المتاح وقتها... إذ ما تم تحققه يضاف الى رصيد ما يفترض إنجازه وبنوعية عالية... من دون أن ننسى أن مساحة كبيرة مما أنجز وأتيح من أدوات أنتجهااستثمار الزمن لدى الآخر الذي ظل في موضع الإتهام وعرضة لأن يكون تحت مجهر «التفاضل» ومقصى عن الإيمان به كطرف رئيس في حال من «التكامل»!.

العدد 1952 - الأربعاء 09 يناير 2008م الموافق 30 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً