العدد 1966 - الأربعاء 23 يناير 2008م الموافق 14 محرم 1429هـ

وَهْم النخبوية يؤرقهم... وخطر العزلة يهددهم...«حراس الأفكار»... أمام تحديات البقاء

«ذكر كثيرا في السنوات الأخيرة بأن المثقف الذي يعيش حرا بقلمه قد أصبح ميتا - أو هو التحق بالجامعة... لقد أصبح النقد الأدبي حرفة على وجهاء الجامعة الذين لم يكونوا يتصوّرون أن يكون بين أهم التزاماتهم تنوير جمهور شعبي مجهول وغير متعلم».

كل من يطلع على هذا القول الذي جاء في كتاب لويس بيري «تاريخ الحياة الثقافية في أميركا» يتساءل: أين مكمن الداء؟ هل هو تعنت المثقف وإصراره على تقديم منتوج نخبوي يستجيب لمستوى رفيع من الإمكانات الأدبية والفنية أم هو قصور القدرة الفكرية لدى المتقبل الذي هجر القراءات المعمّقة إلى منتوجات أكثر سلاسة وأكثر قربا من أوضاعه المعيشية الراهنة وربما أكثر رأفة بذهنه المشغول بعيدا عن كل ما فيه إعمال للعقل؟

من المنطقي أن لكل حقبة تاريخية رجالها وصانعي نهضتها الفكرية والثقافية. ولكن المتأمل في الوضع اليوم يلاحظ الهوّة العميقة التي تفصل المثقف عن المتقبل.

يرى علي حرب في كتابه «أوهام النخبة أو نقد المثقف» أن هذا الأخير لا يعدو أن يكون «حارسا للأفكار» يمارس التفكير على نحو «استبدادي بل فاشي» ويضيف أن المثقف العربي «فقد مصداقيته وفاعليته، وبات أعجزَ من أن يقوم بتنوير الناس وتثقيفهم. بل هو الذي أصبح يحتاج إلى أن يتنور ويعيد تثقيف نفسه...».

وفي الواقع، لايزال المثقف العربي يصر على الجلوس في برجه العاجي، مطلقا نقده، هدمه، أو دفاعه عن توجهات فكرية، عقائدية، أدبية، سياسية. ولكن هذا المثقف لايزال يعتقد أنه على درجة من الرفعة تنأى به عن «الهبوط» إلى المستوى القاعدي، مستوى الجماهير.

يبدو لي أن مقولة بيري تنطبق على الوضع الثقافي العربي. فالمثقفون في الوطن العربي يعيشون وَهْمَ النّخبة التي تسعى إلى قلب المعادلة. فالمثقف يضع نفسه في مرتبة الإنسان الثوري المثالي الذي لا يريد من الدنيا غير تغيير وضعيات الشعوب نحو الأفضل!

والنتيجة كانت أن آلت آمال المثقف العربي، في كل بلاد العرب إلى نتيجة وحيدة، عزلة وإقصاء وفي أحيان كثيرة عدم استيعاب لمتطلبات الجماهير التي يتوجهون إليها بإنتاجاتهم الثقافية وفي ذلك يقول علي حرب: «المثقفون أمسوا آخرَ من يفكر فيما يحدث ويتشكل، وأقلَّ من ينتج في مجال الأفكار التي يتداولونها في خطاباتهم، وأضعفَ من يؤثر في مجريات الأحداث والأفكار. إنهم باتوا الأقل فاعلية، ليس على المستوى السياسي والمجتمعي وحسب، بل أيضا على المستوى الثقافي نفسه».

وفيما يعد سبيلا للخروج من هذا الوضع، وفي محاولة تقرب من الجماهير الشعبية انحدرت فصيلة من المثقفين العرب إلى مستوى السطحية في التعامل مع القضايا والمسائل السياسية منها كما الاجتماعية وبالمثل الثقافية، واعتبر هؤلاء أنفسهم ناطقين بلهجة شريحة عريضة من المجتمعات العربية، يتصيدون ما يحوز إعجابها، ويروّجون ما يروق لها من أفكار، وفي واقع الأمر لا المثقف ولا الجمهور يتحكم في الوضع الثقافي الغربي. وواقع الحال يقول إن رؤوس الأموال تتحكم في الثقافة. ولم يعد الأمر بخافٍ على أحد. ولم يعد أحد يخجل من الحصول على هذا التوصيف. اليوم صرنا نتحدث عن سينما تجارية، تلفزيونات تجارية، كتب تجارية، مقالات تجارية. فلفظة «تجاري» في حد ذاتها لم تعد تصم صاحبها بالعار. بل غدت مصدر افتخار ودلالة قوية على الرصيد المهم من «الدعم».

أما من لم يتمكن من الانخراط داخل هذه المنظومة «التجارية» - ممن اختار أن يحفظ لنفسه مكانة محترمة، واسما يوحي بالاحترام - فقد حاول أن يقف في منطقة وسط بين هذا وذاك، منطقة يرسخ فيها جملة من الأفكار ويدافع عن مجموعة من المسائل من دون السقوط في فخ الطوباوية، ومن دون أن ينحدر إلى الدرك الأدنى مما يوصف بـ «الخطاب الثقافي أو التثقيفي». فاختار أن يصنع مساحة من الحوار مع الجمهور الذي يتوجه إليه، تحفظ مكانته العلمية والفكرية من دون أن يرتهن برهن أطراف خفية، مساحة تضمن له ممارسة نشاطه الفكري والثقافي من دون أن يتحكم فيه وَهْم «النخبوية» التي يعيش المؤمنون بها في سنوات مجد آفلة.

يعرّف علي حرب هذا النمط من المثقفين الجدد بـ «الوسيط». وهو يرى في هذا المصطلح الجديد وسيلة يتخلص فيها المثقف من دور المثقف الرسولي أو النخبوي. وهي أدوار يعتبرها «لم تعد تنتج سوى العزلة والهامشية».

العدد 1966 - الأربعاء 23 يناير 2008م الموافق 14 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً