العدد 1971 - الإثنين 28 يناير 2008م الموافق 19 محرم 1429هـ

فلسطين «من النهر إلى البحر»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اتفاق الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقرا لها على مسألة تحرير فلسطين «من النهر إلى البحر» أعاد طرح السؤال بشأن التسوية واحتمالات السلام في «الشرق الأوسط». فالاتفاق الذي جرى إعلانه في بيان ختامي وبحضور 900 شخصية في المؤتمر الذي عقد بين 23 و25 يناير/ كانون الثاني الجاري يشكل نقطة عبور لإعادة هيكلة مشروع أولويات تتعارض مع نهج اعتمد سياسيا منذ العام 1973.

شعار تحرير فلسطين من نهر الأردن إلى البحر المتوسط ليس جديدا على برنامج منظمة التحرير الفلسطينية ومهمات حركة «فتح». فالموضوع أخضع مرارا للسجال والتناظر. إعادة تجديده بعد «مؤتمر انابوليس» تؤشر إلى وجود قوة نامية لم تعد مقتنعة سياسيا بالتسوية التي أحبطتها مرارا «إسرائيل» بدعم مباشر من الولايات المتحدة. والعودة إلى الشعار الجذري لها ما يبررها منطقيا.

التسوية تعني استعداد كل طرف تقديم ما هو مطلوب منه حتى تكتمل عناصر نجاحها وتتوصل القوى إلى صوغ مشروع سلام يضمن الحقوق وتوازن المصالح. هذا النوع من التسوية العادلة رفضته حكومات تل أبيب وغلقت الأبواب أمامه وأصرت على مقولة القوة وتوازن القوى وضعف الدول العربية وعدم جاهزيتها على الصمود والتصدي والمواجهة والتحرير.

تل أبيب تعاملت مع سلسلة المبادرات العربية باستخفاف ورأت أن قوتها العسكرية تتكفل بتخويف المحيط العربي ودول الجوار التي أظهرت مرارا ضعفا بنيويا في منع «إسرائيل» من التمدد والاقتلاع والتمكّن والتوطّن.

منذ العام 1981 طرحت الدول العربية في مؤتمراتها وقممها الدورية مجموعة مبادرات كانت دائما ترد عليها حكومات تل أبيب بالتشاوف والمزيد من التشنج. حتى حين التقت الدول العربية مع «إسرائيل» في «مؤتمر مدريد» برعاية أميركية دولية بعد أزمة الكويت وتحطيم العراق في العام 1991 تهربت حكومة تل أبيب آنذاك من مواجهة الحقائق الميدانية وما تتطلبه القرارات الدولية من تراجعات لتأمين الحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولة «قابلة للحياة». وبعد «اتفاقات أوسلو» وما استتبعته من لقاءات بإشراف أميركي ورعاية دولية أقدمت «إسرائيل» لاحقا على تعطيلها وعدم الالتزام بها والتحايل عليها. وهذا ما أدى إلى انفجار انتفاضة الأقصى وتحول المسار الفلسطيني من «السلام» إلى المواجهة الميدانية.

كل هذا حصل قبل قمة بيروت في العام 2002 وهي قمة تلت اجتماعات سورية - إسرائيلية برعاية مباشرة من الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون ولم تسفر عن تفاهمات تتوافق مع روح القرارين 242 و338.

قمة بيروت كانت واضحة في مبادرتها العربية والتزاماتها الدولية. الا أن حكومة ارييل شارون تعاملت معها باستخفاف مستفيدة من تبدل الأجواء الدولية وما أنتجته هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 من تداعيات. وبعد خمس سنوات جددت الدول العربية في قمة الرياض دعوتها إلى السلم وأكدت التزامها بما نصت عليه مبادرة بيروت... وردت حكومة ايهود أولمرت عليها بالمزيد من التهديد والتصعيد. وهذا الموقف الإسرائيلي المقفل على كل الاتجاهات جرى تجديده بعد «مؤتمر انابوليس» إذ وافق أولمرت على بعض الكلام لفظيا وعاد إلى تل أبيب ليصعد حربه ضد السلطة الفلسطينية التي انقسمت إلى حكومتين.

حكومة أولمرت لم تقرأ جيدا المبادرات العربية وتعاملت معها باستخفاف ومن دون إدراك للتفاعلات السياسية والانفعالات الميدانية الفلسطينية العربية. فهذه الحكومة ردت على الاستعداد للتفاوض والتفاهم بالمزيد من الهجمات التي لم توفر قرية أو مدينة في الضفة والقطاع. وأردفت تصعيدها العسكري بإعلان حصار غزة ومعاقبة شعبها جماعيا وإذلاله وتجويعه. كذلك أقدمت على توسيع رقعة الاستيطان في القدس والضفة من دون اعتبار للمصالح الفلسطينية والمبادرات العربية.

هذا الاستخفاف بالمشاعر والحقوق كان لا بد له في النهاية أن يصل إلى حده الأقصى ويولد اتجاهات مضادة تعيد النظر في المبادرات العربية ومفهوم التسوية. فالتسوية تنازلات متبادلة. وإذا رفض الطرف الآخر التراجع فمعنى ذلك أن لا قيمة للتفاوض على حقوق عادلة في جوهرها التاريخي والإنساني والدولي. وإذا كان لا معنى للتسوية عند الجانب الآخر فإن المسألة تصبح قابلة للانتكاسة أو العودة إلى الأصول الأولى. وهذا بالضبط ما يمكن فهمه من شعار «من النهر الى البحر».

التأكيد على التحرير الكامل للتراب الفلسطيني يصبح من المواضيع المفهومة منطقيا حتى لو اتجه الى تسجيل مخالفة سياسية. فالمنطق الرياضي يقوم على معادلة وإذا كان الطرف الآخر لا يقرها وغير مستعد لاحترامها فانه يكون قد اعطى شرعية سياسية لنقض المعادلة والتراجع عنها. وهذا الأمر لم يدركه عقل أولمرت المحكوم بهواجس الخوف والتخويف.

بين المنطق والسياسة

المسألة بسيطة في المعادلة الرياضية وهي تقوم على فرضيات تعتمد مبدأ توازن المصالح. فإذا رفضت تل أبيب التحرير الكامل، وأيضا رفضت نصف تحرير التراب، وأصرت على رفض مطلب ربع التراب وأقل من الربع وربما ما دون الصفر فمعنى ذلك أنها قررت الحرب أو على الأقل أرسلت اشارة واضحة أنها لا تريد التفاوض وغير مستعدة للتنازل وغير جاهزة للسلم. وحين يتساوى رياضيا الواحد مع النصف مع الربع مع الصفر تصبح معادلة التسوية غير قابلة للانجاز أو للاستمرار فيها.

منطق الأمور إذا أوصل المعادلة إلى طور جديد يقوم على فكرة العودة الكاملة والتحرير الشامل «من النهر إلى البحر». فالمسألة سيان بين الكل والجزء وحين يكون الطرف الآخر غير مستعد للتراجع عن الجزء يصبح بإمكان الطرف المضاد إعادة المطالبة بالكل مع كامل وعيه بأنه غير قادر على تحرير لا الجزء ولا الكل.

الفصائل الفلسطينية التي عقدت قمتها الخاصة في دمشق في الشهر الجاري قرأت منطقيا المعادلة واستنتجت رياضيا أن «إسرائيل» غير جاهزة وهي في وضع نفسي لا يسمح لها بأن تقبل نصف تسوية أو ربع تسوية. هذا التحليل المنطقي للعجز الصهيوني عن دخول مغامرة التسوية والسلم يقابله تحليل منطقي مضاد يرى أن الوضع العربي بدوره عاجز عن الدخول في مغامرة المواجهة والحرب والتحرير. المنطق إذا متساوٍ في معادلته الرياضية لكنه ليس كذلك في رؤيته السياسية. فالفصائل التي تتخذ من دمشق عاصمة لها طرحت فكرة التحرير «من النهر إلى البحر» انطلاقا من معطى ايديولوجي يفتقد العقلانية والواقعية. فالفكرة صحيحة منطقيا و «إسرائيل» تتحمل مسئولية إعادة إنتاجها وتسويقها ولكنها سياسيا مجرد أطروحة غامضة وعامة تحتاج إلى آليات تحدد سياقها الميداني وأولوياتها. وعدم الإشارة إلى استراتيجية عربية مشتركة تحدد الوسائل الواجب اتباعها لتحقيق هذا الهدف يكشف عن خفة في التعامل مع موازين القوى.

طرح مسألة «من النهر إلى البحر» من دون برنامج عملاني يرتب أولويات مشروع التحرير يكشف في النهاية عن ضعف سياسي وضحالة في الرؤية الاستراتيجية. فالفكرة طرحت على الطاولة مقطوعة الرأس لأنها حددت الهدف النهائي وتناست عن عمد أو عجز أو ضعف أو خوف الخطوات المطلوبة لنقل الموضوع من المنطق إلى الفعل. الفصائل مثلا لم تحدد مجموعة عناصر تقتضيها مسألة التحرير الشامل والكامل. والعناصر حتى تكون ناضجة ذهنيا لابد أن تعمل على الإجابة عن أسئلة من نوع: أين وكيف ومتى؟ هل ستعتمد الفصائل الدمشقية على لبنان للقيام بمهماتها الجغرافية والتاريخية في وقت تبدو كل الجبهات العربية مقفلة وممنوعة من الكلام؟ وهل ستشعل جبهات القتال انطلاقا من جبل عامل وجبل الشيخ وجبل العرب دفعة واحدة أم أنها ستترك بلاد الأرز ساحة مفتوحة ومكشوفة لحسابات ليست بالضرورة تصب في مصلحة معادلة «من النهر إلى البحر»؟

عدم وجود آليات يطرح علامات استفهام بشأن مدى جدية الكلام عن العودة إلى مسألة «من النهر إلى البحر». فالكلام العام لا يقدم ولا يؤخر وإنما يزيد من الفوضى ويضع المنطقة أمام مسئوليات كبرى تقتضي من القوى الفاعلة على الأرض البحث عن مخارج ومداخل تساعد على تحقيق توازن يعطل التمدد الإسرائيلي في الضفة ويكسر طوق الحصار عن غزة ويمنع انزلاق المقاومة في لبنان إلى أتون فتنة أهلية. الكلام الفضفاض عن التحرير الكامل والشامل لا معنى له في السياسة حتى لو اكتسب شرعية منطقية وقانونية. فالموضوع يتجاوز المزايدات وإطلاق الصواريخ الايديولوجية وهو ببساطة يتطلب بعض الجهد لوقف التمدد الاستيطاني في الضفة وكسر العقاب الجماعي ضد أهل غزة ومنع استدراج المقاومة إلى مناكفات شارعية في بيروت ولبنان تحت بنود «الثلث الضامن» واسترداد «حقوق المسيحيين».

الكل عادة يبدأ من الجزء. والتحرير الكامل والشامل ليس نظرية منطقية وإنما هو سياسة عملية وميدانية تعتمد آليات تبدأ بالأجزاء التي أخذت تنفلش وتتفكك من غزة إلى لبنان. وإذا فشلت الفصائل الدمشقية في منع الأجزاء من التعطل والانهيار فإنها تكون ساهمت في إطلاق رصاصة الرحمة على مسألة «من النهر إلى البحر».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1971 - الإثنين 28 يناير 2008م الموافق 19 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً