العدد 2290 - الجمعة 12 ديسمبر 2008م الموافق 13 ذي الحجة 1429هـ

ساركوزي ناطق باسم محكمة!

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والتي هدد فيها الرئيس السوداني عمر البشير بأن أمامه أياما فقط لإحراز السلام في إقليم دارفور وإلا سيرى «الويل والثبور وعظائم الأمور» في المحكمة الجنائية الدولية، ليست بتصريحات رئيس مسئول أو رجل دولة، بل هي أقرب إلى «هرطقة شماسة» أي «كلام الصعاليك» منها الى أقوال زعيم في الاتحاد الاوروبي. ولسوء الطالع تزامنت التصريحات مع الذكرى الستين لإعلان حقوق الإنسان، وفي وقت يؤدي فيه البشير مناسك الحج.

فإعلان حقوق الإنسان يقوم على العدالة، وقد وقّع في العاصمة الفرنسية باريس العام 1948، فيما سعى الرئيس السوداني من جانبه بكل السبل لتحقيق المصالحة في دارفور من دون جدوى بسبب تشجيع مثل هذه التصريحات المتمردين في الإقليم بالاستمرار في الحرب.

إن التهديدات الفرنسية لشخص الرئيس السوداني ليست في مصلحة المواطن الدارفوري البسيط الذي يقبع هناك في صحراء لا حياة فيها ولا ماء، لأنه إذا ما سارت الأمور كما يريدها ساركوزي فان ذلك يعني المواجهة من خلال التدخل الدولي في الإقليم وتأزيم الوضع أكثر، وعندها السؤال الذي يطرح نفسه... من سيعاني أكثر على ارض الواقع؟.

يعلم الرئيس الفرنسي أن المحكمة الجنائية الدولية التي يتحدث باسمها رفضت حتى الآن المعلومات الناقصة التي قدمها مدعيها العام لويس مورينو اوكامبو بشأن ارتكاب البشير جرائم إبادة جماعية في دارفور لان تلك المعلومات جمعت من خارج السودان ومن جهات معادية له، إذ لم يكلف اوكامبو نفسه كثيرا بزيارة الإقليم وإجراء تحقيقات ميدانية مع الضحايا والجهات ذات الصلة. وحتى المعلومات بشأن اتهام المدعي للمتمردين لم يقتنع بها قضاة المحكمة حيث طلبوا مزيدا من الأدلة رغم أن كل ما يحدث في الإقليم مرده إلى الفضائع التي ارتكبتها الحركات المسلحة تجاه المواطنين وممتلكاتهم.

كان الأجدر بالرئيس الفرنسي أن يحتفظ بهيبته من أن يكون متحدثا باسم محكمة ليست لها سلطة ونفوذ للقبض على البشير وان انطبقت السماء على الأرض. لستُ هنا محاميا أو مدافعا عن الرئيس السوداني ولا حكومته فهما ارتكبا أخطاء كثيرة على المستوى القومي منذ العام 1989، ولكن هذه الأخطاء لا ترقى إلى التدويل إذ يمكن إصلاحها داخليا.

وكان ينبغي على ساركوزي اخذ الحكمة من الرئيس الأميركي المنتخب باراك اوباما الذي أعلن انه سيتبنى سياسة حذرة تجاه السودان وانه لن يسارع إلى فرض إجراءات دبلوماسية أو حتى عسكرية على هذا البلد.

فرغم أن اوباما قد يصغي إلى بعض الصقور في إدارته الذين يعتقدون أن حكومة البشير هي المسئولة عن مقتل مئات الآلاف في دارفور(مع غض الطرف عن الأعمال الوحشية للمتمردين) إلا أن الرئيس الأميركي المنتخب ليس أمامه إلا اتباع قواعد العدالة في هذا الصراع وحبذا لو استمع إلى أهل الإقليم في الداخل. ولكن يبدو أن ساركوزي استلهم بعض المواقف المتطرفة لأعضاء في إدارة اوباما ومنهم وزيرة الخارجية المعينة هيلاري كلينتون التي دعت إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح برعاية حلف الناتو في دارفور، في حين حثت سوزان رايس التي اختارها اوباما لتكون سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، الولايات المتحدة أو الناتو إلى شن هجمات جوية وفرض حصار بحري على الميناء الرئيسي في السودان.

وفي الواقع الخيارات العسكرية لن تكون فعالة اليوم كما لم تكن في العام 2000 عندما بلغ العنف ذروته في دارفور، ومساعدة البشير قد تكون ضرورية لتحقيق الحل الإقليمي للازمة، فهو يمثل الآن الضامن الوحيد لتنفيذ اتفاق السلام في جنوب البلاد الذي شهد حربا أهلية دامت أكثر من عشرين عاما، وأي اهتزاز في حكومة المركز سيؤدي إلى فوضى في نحو 25 إقليما سودانيا كل واحد بحجم مساحة فرنسا.

ثم لماذا لم يتشاور ساركوزي مع القائمين على المبادرة القطرية للسلام في دارفور الذين يجرون الآن اتصالات مكثفة لتقريب وجهات النظر المختلفة وإقناع قادة المتمردين للدخول في التفاوض. ومن المعروف أن باريس تأوي قائد أكبر فصيل متمرد في دارفور وهو عبدالواحد محمد نور والذي رفض حتى مبدأ التفاوض. اعتقد أن الرئيس الفرنسي وعده بدخول الخرطوم فاتحا على ظهر دبابة. لماذا لم يأخذ قصر الاليزيه برأي الأحزاب السياسية السودانية التي طالبت أخيرا مجلس الأمن الدولي بوقف الإجراءات في المحكمة الجنائية ضد البشير، أليس أهل مكة أدرى بشعابها؟

لقد جرب الغرب في السنوات الماضية العواقب الوخيمة للتدخل العسكري في شئون الدول النامية، الامر الذي يعزز من مفهوم أن سياسة الجزرة خير من سياسة العصا. فالحل في دارفور سهل وممكن تحقيقه بمجرد توافر وسطاء مخلصين في نواياهم، ولكن يبدو أن الأهداف والمرامي الخفية للرئيس الفرنسي وأمثاله ستجعل المجتمع الدولي يفتقد الأيام العجاف للرئيس الأميركي جورج بوش بل ويغني لها

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 2290 - الجمعة 12 ديسمبر 2008م الموافق 13 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً