العدد 2540 - الأربعاء 19 أغسطس 2009م الموافق 27 شعبان 1430هـ

لويز بروكس: لقد أخفقت في كل ما فعلته... عزائي الوحيد أنني حاولت

عندما انتقمت «هوليوود» بكل لؤم من أجمل فاتناتها وأغرب نجماتها

في تلك السنوات الذهبية كانت هوليوود، عاصمة السينما في أميركا والعالم، تجتهد لاجتذاب أهل السينما، سواء أكانوا ممثلين أو مخرجين أو فنيين. وكانت أوروبا الوسطى هي المكان الذي تبحث فيه هوليوود عن المواهب لتأتي بها إلى تلك الشواطئ الكاليفورنية حيث تساهم في صنع وتألق فن سابع كان يراد له في ذلك الحين ان يكون أميركيا خالصا. من هنا لم يكن من الأمور غير المألوفة مشاهدة عشرات الألمان والدانمركيين والروس والمجريين، حتى الفرنسيين والايطاليين، وهم يتوجهون إلى عاصمة السينما العالمية ويضيفون على أساليبها ومواضيعها روحا جديدة ويضخونها بدم جديد.

بشكل عام، كانت الرحلة في ذلك الحين تسير في اتجاه واحد: من أوروبا إلى أميركا، على عكس ما كان يحدث في عالم الأدب، حيث كان الأدباء الأميركيون يتدفقون على أوروبا. في مجال السينما لم تكن هوليوود لتسمح بأي خرق للقاعدة، ومهما كانت الأسباب والمبررات. وهذا القانون خبرته في ذلك الحين، ودفعت غاليا بسبب خرقه فاتنة كانت من أجمل فتيات هوليوود وأكثرهن وعدا بالنجاح: «لويز بروكس»، الصبية الرائعة التي انطلقت في هوليوود انطلاقة قوية ومذهلة، قبل أن يقودها حظها (الطيب أو التعس) إلى أوروبا، حيث قامت ببطولة الأفلام الثلاثة التي سوف تخلد اسمها إلى أبد الآبدين، في الوقت الذي كانت فيه - تلك الأفلام نفسها - سبب دمارها وذريعة انتقام هوليوود منها. إذ، حين عادت لويز بروكس من أوروبا، بعد «مغامرتها» الأوروبية، اكتشفت أنه لم يعد لها مكان هناك. اكتشفت أنها انتهت، أن هوليوود لا ترحم. وهي ستعيش نحو ستة عقود من السنين بعد ذلك، فقط على أمجاد أفلامها الأوروبية، حاقدة على هوليوود متسائلة عن الجريمة الحقيقية التي اقترفتها حتى تعاقبها عاصمة السينما كل ذلك العقاب.


«إننا منحطون»

لويز بروكس التي كانت اعتادت أن تصف نفسها بأنها «شقراء ذات شعر أسود»، كانت هي التي افتتحت في هوليوود، أيام السينما الصامتة، تيار النجمات الفاتنات اللواتي يقوم دورهن في إغواء الرجال وتحطيمهم. كانت تيدا بارا قد سبقتها إلى ذلك، لكن شيئا ما لدى لويز بروكس كان يجعلها تبدو مختلفة ورائدة: قصة شعرها العابقة بالحداثة ربما، أو نظراتها النارية القاتلة، أو ربما ثقافتها، تلك الثقافة التي عرفت كيف تكونها لنفسها باكرا على رغم حياتها المضطربة في عهد الصبا. أو ربما أيضا حريتها المطلقة، فلويز لم تكن لتنظر إلى نفسها إلا على أنها امرأة حرة بشكل جديد وشديد الحداثة: حرة من كل قيد. لا تقدم حسابا لإنسان. ومن المؤكد أن هذه السمة الأساسية من شخصيتها، شكلت سحرها، لكنها كمنت أيضا وإلى حد ما، خلف تعامل هوليوود السلبي معها. على أية حال حين نضجت لويز بروكس وصارت كاتبة، لمجرد أن تثأر من هوليوود، كتبت عبارتها الشهيرة: «إن مشكلتنا تكمن في أننا منحطون أكثر من اللازم بالنسبة إلى قسم من هوليوود، وأقل من اللازم بالنسبة إلى القسم الآخر». وهوليوود تجاهلت بروكس وحطمتها ولكن في المقابل لم يفت أوروبا أن تعيد إليها اعتبارها حتى حين أصبحت عجوزا، إذ إن هنري لانغلوا، رئيس «السينماتيك الفرنسي» كرمها في الخمسينيات عبر عرض أفلامها الكبرى (الأوروبية)، كما أن جماعة «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية بجّلتها بوصفها أجمل فاتنة عرفتها السينما، ومفتتح الحداثة الأنثوية في القرن العشرين.


صدمات متتالية

كل هذا، لم تكن الطفلة لويز بروكس تتوقع أن يحدث لها حين كانت مجرد ابنة صغيرة لعائلة ريفية. فهي حين ولدت في العام 1906 كانت مجرد طفلة من ملايين الأطفال الذين يولدون في المدن الأميركية المعزولة الضائعة، فيعيشون حياة كئيبة عادية ويتزوجون ويربون أطفالهم ثم يموتون. وكان مقدرا لهذا أن يكون مصير لويزا لولا أن أقدم صديق للعائلة على إغوائها، وكانت بعد في الرابعة عشرة من عمرها، وهي حين اشتكت إلى أمها أنبتها هذه الأخيرة بدلا من أن تؤنب المعتدي متهمة إياها بإغوائه بحركاتها ونظراتها. وعلى الفور اكتشفت لويزأن لديها سلاحا يمكن أن يساعدها على أن تكون مختلفة عما يرسم لها من حياة دعة وتفاهة في بلدتها الصغيرة بولاية كانساس. وهكذا، مع اكتشافها لقوة جسدها، قررت أن تتعلم الرقص وانضمت إلى مدرسة محلية اكتشفها فيها وهي في الخامسة عشرة، مدرب رقص شهير في ذلك الحين يدعى تيد شاون وتعاقد معها هذا على أن ترقص في استعراض جوال كان من بين نجومه الأساسيين الراقصة الشهيرة مارتا غراهام. وهنا بدأت لويز حياة جديدة قادتها إلى التجول في ولايات أميركية عديدة. لكنها بعد عامين من العمل مع تلك الفرقة وجدت نفسها مطرودة: فإدارة الفرقة رأت أن تصرفاتها شديدة الغرابة، أقرب إلى تصرفات فتيات الهوى منها إلى تصرفات راقصة تحترم فنها.

كانت الصدمة كبيرة، غير أن لويز لم تخلد إلى اليأس، بل قررت أن تجابه قدرها هذا. وهكذا، بدلا من أن تعود إلى بلدتها مهزومة، توجهت إلى نيويورك حيث قررت أن تقيم. وهناك انضمت إلى فريق جورج وايت الراقص الذي كان يقدم استعراضا عنوانه «فضائح». لم يكن ذلك الاستعراض كبير الأهمية، لكنه قادها إلى لندن في أحد جولاته، واكتشفت، كما بفعل السحر، أنها تنتمي وجدانيا إلى أوروبا أكثر من انتمائها إلى أميركا. غير أن هذا الأمر بقي لديها أشبه بـ»حديقة سرية»، وإن كانت قد قررت أنها ستعود إلى أوروبا حين يدعوها أحد إلى القارة القديمة. ولسوف تأتي تلك الدعوة بعد عشرة أعوام.


نجمة في برودواي

أثناء ذلك كانت لويز قد عادت إلى نيويورك، وتركت فرقة جورج وايت لتنضم إلى فرقة زيغفيلد الذي جعل منها، في برودواي، واحدة من أبرز نجمات استعراضه الشهير «جنون زيغفيلد». وهناك في برودواي بدأت شهرة لويز بروكس تضرب الآفاق، وخاصة أنها صارت جزءا من الليالي الساهرة، وأنها أبدت قصة الشعر التي سرعان ما صارت على الموضة وباتت لا ترى إلا وفي يدها اليمنى كأس وفي يدها اليسرى سيجارة. كان واضحا أن لويز تهرب من شيء: من العادية على الأقل. وكان واضحا أنها تبالغ في رسم صورة لنفسها. غير أن تلك المغالاة كان لابد لها أن «تثمر» في نهاية الأمر. فالصبية التي كانت تبدو امرأة ناضجة كاملة الأنوثة، مغوية وهي لم تصل العشرين من عمرها بعد، كانت أضحت نجمة الليالي النيويوركية. وكان لابد للسينما أن تكتشفها. وكانت شركة «باراماونت» هي التي اكتشفتها عن طريق «صيادي النجوم»، فاقترحت عليها عقدا من خمس سنوات وقعته لويز بحماس، لتقول لاحقا، بعد ثلاثة أرباع القرن تقريبا، في مذكراتها: «لم أكن أدرك لحظة ذاك، أنني لم أبع هوليوود ساعات العمل وموهبتي فقط، بل كنت أبيعها روحي وحياتي الشخصية في الوقت نفسه».

المهم في الأمر أن ذلك العقد جعل لويز تنتقل من المسرح إلى السينما، ومن نيويورك إلى هوليوود. غير أن خيبتها لم تكن هينة، حين راحت هوليوود تعطيها أدوارا في أفلام صامتة، لا تتوخى من خلالها إلا استغلال شكلها الخارجي، ونظراتها القاتلة وقصة شعرها الصبيانية. أفلام عديدة مثلتها لويز في هوليوود في ذلك الحين. لم يكن لأي منها أهمية حقيقية، باستثناء فيلم هوارد هاوكس «فتاة في كل مرفأ» (1928). هذا الفيلم كان هاما في حد ذاته، لكن أهميته بالنسبة إلى لويز بروكس، كمنت في مكان آخر تماما. وبشكل لم يكن ليخطر لها في بال.


نجاح أوروبي ساحق

ففي ألمانيا، في ذلك الحين، كان المخرج الكبير بابست، قد أعد سيناريو سينمائيا مقتبسا من مسرحيتين للكاتب فرانك ودكند، بعنوان «لولو». وكان كل شيء جاهزا لتصوير الفيلم، باستثناء الممثلة التي يفترض بها أن تلعب دور لولو المغوية الفاتنة. وكانت مئات الأسماء والصور عرضت على بابست، لكنه رفضها جميعا، لأنه كان يريد امرأة من نوع خاص، لم يكن هو نفسه قادرا على تحديده. وفي لحظة من لحظات يأسه قرر ان يسند الدور إلى مارلين ديتريش. ثم حدث له أن شاهد فيلم هوارد هواكس «فتاة في كل مرفأ» فذهل وقال لمن معه: «إنني أريد هذه المرأة. هي لولو نفسها. هكذا تخيلتها منذ البداية». الذين كانوا يعرفون شيئا عن لويز بروكس، في ذلك الحين، وافقوه على اختياره لكنهم حذروه: «عليك أن تنتبه». إنه لمن السهل وقوعك في شراك غرامها. لو حدث هذا، سوف يقضي الحب عليك. وسوف يصبح مشروعك مقبرتك». ولم يكن من شأن هذا الكلام إلا أن زاد من رغبة بابست في إسناد الدور لها. وهكذا اتصل بها واستدعاها، فقبلت على الفور وقد تذكرت حلمها الأوروبي القديم. ولنتخيل هنا هذا المشهد الذي ظلت لويز بروكس تقول إنه كان يمثل واحدة من أجمل لحظات حياتها: بابست والسيدة حرمه ينتظرانها في محطة القطار. الزوجة قلقة النظرات. والزوج يحمل باقة زهور. تنزل لويز من عربة القطار وتتقدم منهما مرحة ضاحكة. فيقدم لها الرجل باقة الزهور في اللحظة نفسها التي يقع فيها في غرامها. وهكذا يصبح الفيلم فيلمان. وتصبح لويز جزءا من السينما الأوروبية. فهل نحن في حاجة لأن نقول هنا أن الفيلمين الذين أخرجهما بابست من بطولة لويز بروكس في العام نفسه 1930. سيكونان أحسن فيلمين حققهما في مساره السينمائي الطويل، وأنهما بالنسبة إلى لويز بروكس، سيظلان حتى النهاية، إضافة إلى فيلم مثلته في العام نفسه في فرنسا، قمة ما وصله أداؤها كممثلة وتألقها كامرأة؟ كانت تلك هي الافلام الثلاثة التي ستعتبر علامات في تاريخ السينما الأوروبية. والعلامات الثلاث الرئيسية في حياة ومهنة لويز بروكس نفسها: «لولو» و»يوميات فتاة ضائعة» لبابست و»جائزة الجمال» لأوغستو جنينا. والحال أن هذه الأفلام كانت الوحيدة التي تعرض في كل مرة كان يراد فيها تكريم لويز بروكس، بما في ذلك التكريم الذي خصت به لويز في العام 1999، بعد عقد ونصف العقد من رحيلها، من قبل الدورة الثانية والخمسين لمهرجان كان السينمائي، ما شكل مناسبة للعودة إلى الحديث عنها.


«هوليوود» لا ترحم

كان نجاح الأفلام الثلاثة صاخبا ومدهشا. وفيها أثبتت بروكس أنها ليست امرأة جميلة وحسب، وليست امرأة حرة وحسب، بل أنها ممثلة من طراز رفيع أيضا. وهي، حين كانت ترتاح لنجاحاتها في أوروبا، كانت تشعر أنها الآن تهيء نفسها لعودة صاخبة إلى هوليوود: خيل إليها أنها ستغزو عاصمة السينما الآن عن حق وحقيق. وأن هوليوود القاسية التي لا ترحم، سوف تعاملها كفنانة كبيرة، لا كمجرد امرأة وجسد مشتهى وفاتنة ذات سلوك معيشي غريب الأطوار.

كل هذا كان يدور في رأس لويز بروكس وهي في الطائرة عائدة إلى القارة الجديدة محملة بالمجد الذي أسبغه عليها نجاحها في القارة القديمة.

لكنها منذ وصولها اكتشفت، من جديد، كم أن هوليوود لا ترحم!

وكانت أول صدمة تلقتها، من شركة «باراماونت» نفسها، الشركة التي اكتشفتها. والحال أن مشكلة لويز مع هذه الشركة كانت غامضة بعض الشيء. فلويز حين سافرت إلى ألمانيا، استجابة لدعوة بابست، كانت لاتزال من نجوم السينما الصامتة. وبعد رحيلها اضطرت الشركة إلى دبلجة آخر فيلم مثلته لويز وهو «قضية الكناري المقتول»، ولما لم تجد لويز لتسجيل الحوار، سجلت على الفيلم صوت ممثلة أخرى، معتبرة لويز خائنة متخلية عن عملها. ولدى عودة هذه الأخيرة إلى هوليوود لم تكن «باراماونت» نسيت هذا الأمر. وهكذا، بدلا من أن تستقبلها استقبال نجمة كبيرة وتمنحها أدوارا تليق بها، عرضت عليها أدوارا غير ذات أهمية، اضطرت لويز إلى قبول بعضها، لأسباب مالية بحتة. وكان ذلك في العامين1931 و1932. وبعدهما اختفت لويز عن الأضواء تماما، وراح كثيرون يتساءلون أين عساها تكون، ثم بالتدريج نسيت ولم يعد أحد يتساءل. والحقيقة أن لويز، ليأسها من استعادة مكانتها في هوليوود، قبلت في ذلك الحين عرض زواج قدمه لها ديرنغ دايفيس، بعد أن كانت تزوجت مرة أولى من المخرج ادي ساذرلند ولم تعش معه سوى عام واحد، ومع دايفيس لم تعش لويز سوى ستة أشهر على أية حال، قالت بعدها أنها لم تخلق للزواج. وكانت أثناء ذلك قد أغضبت هوليوود مرة أخرى برفضها التمثيل في فيلم «عود الشعب» فأعطي الدور إلى جين هارلو. وهكذا، في ظرف شهور قليلة انتهت لويز بروكس، حتى وإن أعطيت بضعة أدوار طوال السنوات الثلاثين، كان آخرها في فيلم «رعاة بقر» إلى جانب جون واين. كانت لويز في الثانية والثلاثين من عمرها حين انتهت، هوليووديا. وهذا ما جعل كاتبا لسيرة حياتها يقول بكل مرارة: «إن نقاد السينما والمؤرخين في السنوات الثلاثين لم يدركوا أبدا مستوى السلطة السحرية التي كان يمكن أن تمارسها هذه الفنانة التي كانت رمزا للأنوثة وللجمال، والتي كانت مقلقة حتى الفضيحة». أما الكاتب آدو كيرو، اخصائي السوريالية فكتب يقول عنها: «إن لويز بروكس هي المرأة الوحيدة التي كان في إمكانها أن تحول أي فيلم إلى عمل فني كبير». قد يكون في هذا الكلام شيء من المغالاة. لكن هوليوود بالغت، من ناحية أخرى، في تجاهل هذه الفاتنة التي كانت الأجمل بين النساء، والأقدر بين الممثلات دون أدنى شك. بعد ذلك عاشت لويز بروكس خمسين سنة تقريبا، فهي رحلت عن عالمنا في العام 1985، وحيدة منسية في الثامنة والسبعين من عمرها. وهي إبان ذلك كرمت كثيرا، ووضعت عنها كتب ودراسات، أجمعت كلها على أن «جريمتها» الكبرى في نظر هوليوود كانت في رغبتها أن تكون مختلفة. وهي دفعت غاليا ثمن تلك الرغبة. لكنها عرفت، في مقالاتها والنصوص العديدة التي كتبتها، كيف ترد الصاع صاعين إلى عاصمة السينما. ثم أخيرا، عرفت هي التي اختارت دائما حياتها كما يحلو لها، أن تختار العبارة التي طلبت كتابتها على قبرها: «لقد أخفقت في كل شيء، ولم يكن إخفاقي بسبب عدم محاولتي. فانا حاولت دائما. ومن كل قلبي».

* من كتاب «حكايات صيفية»

العدد 2540 - الأربعاء 19 أغسطس 2009م الموافق 27 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً