العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ

تطور قانون الغوص

قد بدأ البحث عن اللؤلؤ في المحار المتواجد على الشواطئ ثم انتقلوا للمناطق القريبة من الشواطئ ومع زيادة التطور الملاحي وزيادة الطلب و الحاجة للكميات التجارية الكبيرة للؤلؤ بدأت عملية غزو مناطق أكثر بعدا و بدؤوا يطيلون في الأسفار. ومع هذا النوع من الرحلات الطويلة احتاجت العملية للتنظيم وسن القوانين. و قد بدأ نظام الغوص بقانون منصف للغواصين ولا يؤدي للتبعية المطلقة من الغواص للنوخذة ثم تطور القانون ليقل فيه الإنصاف جزئيا و بعدها بدأ القانون يشجع على الظلم واستعباد الغواص و تكبيله بالديون. هنا سنتتبع تلك المراحل الثلاث ونحاول تتبع بداية كل مرحلة.

بداية ظهور الأنظمة المنصفة للغواص:

عند الحديث عن جزر البحرين أو سواحل الخليج العربي في القديم فلم تكن مستنزفة أو تتبع أملاكا خاصة بل كانت أشبه بالسواحل البكر, وكان محار اللؤلؤ متوفر على السواحل, وقد كانت هناك العديد من مغاصات اللؤلؤ القريبة من الشواطئ بالإضافة لمغاصات توجد في المناطق العميقة, وكانت تكفي القوارب الصغيرة لعملية الغوص، أضف إلى ذلك عدم توجه رؤوس الأموال الكبيرة لمثل هذه التجارة, كل ذلك شجع على تكون نظام معين للغوص ربما كان هو السائد, فكانوا يخرجون في مجموعة صغيرة في حدود الخمسة أشخاص في قارب صغير يقومون باستئجاره و يقومون بانتخاب أحدهم ليكون الرئيس, يدلنا على ذلك قول الشاعر المسيب بن علس:

كَجُمانَةِ البَحرِيِّ جاءَ بِها غَوّاصُها مِن لُجَّةِ البَحرِ

صُلبُ الفُؤادِ رَئيسَ أَربَعَةٍ مُتَخالِفي الأَلوانِ وَالنَجرِ

فَتَنازَعوا حَتّى إِذا اِجتَمَعوا أَلقَوا إِلَيهِ مَقالِدَ الأَمرِ

هذه الطريقة في الغوص لم تنقرض بل تطورت عبر الزمن لتعطي مجموعة من أنماط الغوص وهي تلك المجموعة التي يقوم فيها الغواصون بتنظيم عملية الصيد بأنفسهم سواء عن طريق تأجير قارب الصيد أو بالتشارك مع نوخذة يملك قاربا صغيرا للصيد, وهذا النوع يعتبر أكثر ربحا للغواصين الذين يتولون بأنفسهم جميع أمور حملة الغوص, و يرى البعض أن هذا النوع يتلاءم أكثر مع التركيب السكاني الذي يغلب عليه النمط التقليدي المبني على العلاقات القبلية من جهة وضعف نسبة رأس المال التجاري المستثمر من جهة أخرى. و ينقسم هذا النظام لعدد من الأنظمة الفرعية يمكننا إجمالها كالتالي:

1 - غوص المرابعة:

و هي صورة طبق الأصل من النموذج القديم حيث يتفق عدد من الأشخاص فيما بينهم و يقوم بتأجير قارب صغير و يرشحون أحدهم ليكون الرئيس, و يقوم جميعهم بتحمل تكاليف الغوص كاملة, و من بعد ذلك يتقاسمون الربح بالتساوي فيما بينهم, و قد استمر هذا النوع زمن طويلا حتى بعد إقرار قانون الغوص, و لم يكن هذا النوع من الغوص خاضعا لقانون الغوص.

2 - غوص العزاب:

وهو شبيه بالسابق حيث يتولى الغواصون أمر كل شيء لحسابهم الخاص وذلك على ظهر سفينة صغيرة تعود لأحدهم أو مؤجرة و يقومون فيه بعدة رحلات قصيرة للغوص مدتها ما بين 15 - 30 يوما و ذلك إلى الأماكن الأقل عمقا و عادة ما يتم ذلك في الفترة التي تسبق الغوص الكبير.

3 - غوص المطامس:

و هو شبيه بالسابق تماما و لكن ما يميز هذا النوع عن غيره أن يكون موعده قبل الغوص الكبير حتى أنه يسبق غوص الخانجية, و كذلك البحارة الذين يذهبون فيه يكونون حديثو العهد بالبحر ليتعلموا طريقة الغوص و ليتدربوا على حياة البحر حتى يستعدوا لدخول الغوص في مواسمه الرسمية.


بداية استئجار الغواصين:

مع بداية اهتمام بعض رؤوس الأموال في الاستثمار في الغوص, بدأ التجار في استئجار الغواصين للعمل لحسابهم, و في هذه الحالة يقوم التاجر بتمويل رحلة الغوص و استئجار الغواصين و مساعديهم و يتم تعيين أمين في كل سفينة من قبل التاجر, و قد وردت إشارات عن هذا النظام في كتاب الجواهر وصفاتها ليحيى بن ما سويه (توفي سنة 857م) كما مر علينا في الحلقة السابقة, وهذا النوع أيضا استمر لفترات طويلة و نتج عنه أنوع من الغوص نفصلها كالتالي:

1 - الخماميس:

وفقا لنظام الخماميس (جمع خماس) فإن النوخذة يتولى بمفرده تمويل رحلة الغوص. وهو لا يقدم للغواصين أية قروض أو التزامات. و بعد انتهاء الغوص وبيع المحصول ومن ثم اقتطاع جميع النفقات, بعدها يأخذ النوخذة العشر و يتم تقسيم ما تبقى على البحارة بنسب معينة.

2 - غوص الخانجية والردة وأرديدة

هذه أنواع من الغوص تتميز بالإبحار في سفينة تكون من السفن الصغيرة وقليلة العدد، فيغوصون قرب الساحل, و تتميز بأن ناتج الغوص من نقود تكون جميعها للبحار ولا يأخذ النوخذة منها شيئا لتحصيل الدين (إن وجد) على الغواصين. وغوص الخانجية يكون في شهر أبريل قبل الغوص الكبير, أما غوص الردة، فيكون بعد انتهاء موسم الغوص الكبير في آخر شهر سبتمبر و ينتهي في شهر أكتوبر حيث البحر بارد, أما غوص أرديدة وهو تصغير الردة، فيكون بعد انتهاء الردة أي في شهر نوفمبر ويكون البحر شديد البرودة.


نظام السلفية و التأسيس لظلم الغواصين:

لقد كان نظام السلفية هو السائد في صناعة اللؤلؤ في البحرين على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر و حتى بدء انحدار هذه الصناعة في الثلاثينيات من القرن المنصرم و انهيارها التام فيما بعد. ويعتمد في هذا النظام تقديم سلفية للغواصين كأجر مقدم ثم خصم هذه السلفية من أجر الغواص بعد بيع المحصول والحصول على العائدات التي تقسم بنظام معين فيحصل كل غواص وعامل على ظهر السفينة نصيبه من المحصول بعد أن تخصم منه السلفيات المقدمة للغواص. وهنا يمكن تقسيم دفوعات النوخذة للغواصين إلى ثلاثة أقسام:

-1 التسقام: وهو مبلغ يدفع في نهاية موسم الغوص (بعد حوالي شهرين من انتهاء الموسم الأساسي) وبعد أن يتم تصفية الحسابات بشكل كامل، ويقصد منها توفير المال للغواصين في فترة عدم العمل.

-2 السلف: وهو مبلغ يدفع للغواصين في بداية موسم الغوص لتوفير إمكانات المعاش لعائلة الغواص خلال موسم الغوص ولتسهيل مهمة الغواص في شراء مئونة أهله وعدة غوصه.

-3 الخرجية: مبلغ يدفع خلال موسم الغوص لمساعدة الغواص على شراء ما يحتاجه (وهو مبلغ بسيط).

رغم أن هذا التقسيم يبدو منطقيا ومفهوما إلا أنه لا يمثل القضية كلها، فالعائدات المذكورة هنا لا تتوفر إلا بعد العودة من موسم الغوص وبالتالي فإن عوائل الغواصين لا تستطيع أن تنتظر عودتهم بل لابد لها من الحصول على ما تحتاجه من مال قبل بدء موسم الغوص، وهنا تصبح المشكلة عويصة، لأنها تعتمد مبدأ تقديم القروض للغواصين وهذا ما يجعلهم مدانين بشكل مستمر وقد لا يستطيعون تسديد ديونهم كاملة خصوصا إذا لم يكن موسم الغوص مربحا. هذه واحدة من المجالات التي استدعت إجراء إصلاحات في العشرينيات من القرن المنصرم. وقبل العشرينيات من القرن المنصرم كان النواخذة يتعمدون تقديم السلفة العالية لكي يضمنوا بقاء الغواصين والسيوب معهم لأن تلك السلفة بمثابة الرهن. و حتى لا نكون متحاملين على هذا النظام فإن هناك نواخذة أنصفوا الغواصين, إلا أن وجود مثل هذا النظام يؤسس للظلم ولا توجد هناك أي مواد تضمن حقوق الغواص, وهكذا أصبحت النظرة العامة لمهنة الغوص على أنها مهنة الظلم.

لا نعلم بالتحديد متى وأين بدأ نظام السلفية نظرا لعدم وجود أي معلومات دقيقة حول تاريخ نشأة هذا النظام إلا أن البعض يرجح أن بداية ظهور هذا النظام ظهرت في حقبة تاريخية سادها الاستقرار الدائم والمتصل الذي سمح بازدهار التجارة وتراكم الرأسمال التجاري لدى البعض, أي قرابة منتصف القرن الثامن عشر ويتطلب هذا النشاط الاقتصادي بطبيعته أمرين:

أ - تكثيف العمل بأكبر قدر ممكن من حيث الوقت و ذلك بإطالة وقت العمل واستخدام السفن الكبيرة التي تسمح باستيعاب أكبر عدد من الرجال و تسمح بالبقاء لأطول مدة ممكنة في مغاصات اللؤلؤ دون الحاجة للعودة إلى البر.

ب - امتلاك رأسمال معقول يسمح بتموين جميع التحضيرات اللازمة لرحلة الغوص وإعداد السفينة و صيانتها قبل الغوص, و دفع نفقات الأفراد لهم و لعائلاتهم خلال موسم الغوص الطويل, وفي النهاية لابد من انتظار ريع المحصول و كل ذلك يتطلب رأس مال نقدي جاهز.


النظام المالي للغوص :

بعد العودة من الغوص، إذا كان النوخذة قد اتفق مع تاجر (مسقم) واستلم منه أموالا فحينها يقوم النوخذة بتسليم ما جمع من لؤلؤ للمسقم أو التاجر، وهو الشخص الذي دفع أموالا سلفا لطاقم سفينة الصيد، بتخفيضات من 15في المئة - 20في المئة من سعر السوق، وهذا يعني أن المسقم قد حصل على فائدة بهذه النسبة في مقابل المال الذي دفعه سلفا. وقد يكون مالك السفينة (الذي قد يكون هو النوخذة أو مالك آخر) هو الممول نفسه, أيا كان الممول فبعد بيع المحصول يقسم المال على طاقم السفينة (النوخذة والغاصة والسيوب وبقية أفراد السفينة) حسب نظام يعتمد على حصص وأسهم متفق عليها بشكل عام.

فمالك السفينة يحصل على خمس الفوائد الكلية بعد خصم كل المصاريف الأخرى, والغيص يحصل على ثلاثة أسهم, والسيب يحصل على سهمين, والرديف يحصل على سهم واحد, والوليد وغيره يدفع لهم الغاصة والسيوب والنوخذة من حصصهم. ويلاحظ أنه يخصم من سهم كل عامل ما عليه من الديون.


محكمة «سالفة الغوص»

وهي محكمة مختصة بالنظر في قضايا الغوص والفصل بين جميع أطراف النزاع العامة في مجال صناعة اللؤلؤ. وهي في الواقع لا تملك الوضعية والقوة اللتين تؤهلانها للإفلات من نفوذ النواخذة. والكم الغالب من القضايا المطروحة أمامها تتعلق بالسلفية والديون واحتجاجات الغواصين واعتراضاتهم على صحتها, وحول ديون الموسم الأخير. والمحكمة مشّكلة في الأساس من نواخذة بارزين ومن أشخاص تابعين لهم في الغالب لا يعرفون القراءة أو الكتابة مما يجعل حصول الغواص على العدالة أمرا غير مؤكد عبر وسائل عملها التقليدية و البالية. وفي حال استمرار الغواص في الطعن بأمانة النوخذة و الإصرار على دعواه بماله من حق فإن المحكمة تلجأ إلى إخضاعه لأداء القسم. ويلجأ بعض القضاة إلى التحايل في إجراء أداء القسم بحيث يتمكن النوخذة من الإفلات من ذلك.


إصلاحات النظام المالي للغوص في البحرين

كما سبق أن قلنا إن النوخذة يقدم دفوعات سلفا للغواصين. وقبل العشرينيات كان النواخذة يتعمدون تقديم السلفة العالية لكي يضمنوا بقاء الغواصين والسيوب معهم لأن تلك السلفة بمثابة الرهن, خصوصا وأن الفائدة التي يتقاضاها النواخذة على قروضهم للغواصين مرتفعة جدا وقد يحدث أن يبقى بعض الغواصين مدانا للنوخذة طوال حياته بحيث يصبح مستحيلا عليه التخلص من قيود الديون وأعبائها فيعيش كالعبد المرتهن لدى سيده. وبعد تكرر المشاكل والشكاوي سعت الحكومة لإدخال الإصلاحات, وتتضمن هذه الإصلاحات التي وضعت موضع التطبيق في عام 1924م الأمور التالية:

1 - إلغاء توارث الدين الذي كان سائدا.

2 - تثبت الحكومة سنويا الحد الأعلى للسلفية المقدمة للغواصين, و كذلك تحديد نسبة الفائدة عليها.

3 - و ضع نظام للمحاسبة والتدقيق يلزم النوخذة بالاحتفاظ بدفترين نظاميين للمحاسبة تقدمها الحكومة بحيث يختص الدفتر الأول بالحساب العام للنوخذة بينما الآخر خاص بحساب الغواص, و يتم تسجيل المصاريف والمدفوعات والسلفيات, و يقوم موظفون حكوميون مختصون بالتدقيق في ذلك.

4 - يحضر ثلاثة غواصين بيع اللؤلؤ للمراقبة.

5 - تحريم العمل غير المدفوع خارج موسم الغوص.

و قد عمدت الحكومة على ضمان تسديد ديون الغواصين للنواخذة بعد ترك الغواصون لهم والعمل في الشركات والوظائف التي ظهرت بعد اكتشاف النفط العام 1932م.


سلبيات تعديل النظام المالي وما ترتب عليه

هذه الإصلاحات أدت لحدوث بعض المشاكل التي كانت تعكس صعوبة وضع الغواصين من جهة وعدم استيعاب الحكومة للمشكلة الأساسية من جهة أخرى. صحيح أن استهداف رفع الغبن عن الغواصين سياسة جديدة، إلا أن تخفيض الدفوعات المقدمة مع عدم توفير البدائل لسد حاجة الغواصين لم تكن إلا تمهيدا لاحتجاجات واسعة في أوساط الغواصين كما حدث في اضطرابات ديسمبر/ كانون الأول 1926م. وقد كانت تلك الاضطرابات نقطة تحول مهمة في الموقف الشعبي من القضايا ذات العلاقة المباشرة بحياة الناس, كما كانت بمثابة الجرس الذي قرع أسماع السلطة البريطانية التي كانت تظهر الحرص على إيجاد قدر من المساواة بين المواطنين ومنع تمادي البعض في الإجحاف والظلم تجاه الآخرين. ومما زاد الأمر سوءا هو تخلف النواخذة عن العمل بالإصلاحات المطلوبة مما أدى لتراكم المشاعر السيئة في نفوس الغواصين، واستمر الوضع متوترا طوال السنوات التالية حتى انفجر العام 1932م من جديد. وهكذا نرى تأزم صناعة الغوص في نهاياتها حتى هجرها أهلها ومع استنزاف مخزون الهيرات و ترك الغاصة العمل انقرضت صنعة الغوص.

العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً