العدد 2550 - السبت 29 أغسطس 2009م الموافق 08 رمضان 1430هـ

العرب بين ثقافتي الخوف من الحاضر والأمل بالمستقبل

نبيل علي صالح- كاتب وباحث سوري والمقال ينشر بالتعاون مع كومند غراوند 

29 أغسطس 2009

لا تزال أسئلة الحوار والنهضة العربية تفرض نفسها بقوة على ساحة الفكر والثقافة في داخل اجتماعنا السياسي والديني الراهن منذ أن انطلقت مفاعيلها الأولى في بداية القرن العشرين على شكل صياغات استفهامية: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟!..

ولعلنا لا نغالي كثيرا عندما نؤكد على أن مشهد الخوف والإحباط واليأس والظلم والاستضعاف هو من المشاهد الأكثر حضورا وتأثيرا على حركة الإنسان العربي الذي مارست بحقه الدولة العربية الحديثة أفظع أنواع القسوة والعنف الموزع ماديا ورمزيا على معظم امتدادات ومواقع هذه الأمة البشرية والطبيعية.

ويبدو لنا هنا أن تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي الممتدة أفقيا وعموديا في مجتمعاتنا منذ بداية أزمة الخلافة والحكم الإسلامي الأول، كان من الأهداف الرئيسية التي سعت دول الاستقلال الأولى (الوريثة الشرعية لأنظمة القمع والطغيان التاريخية) - وكل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) التي جاءت بعدها، والتي ارتكزت سياساتها جميعا على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل، أقول: كانت قد سعت إلى تعميق تلك الثقافة بالقوة على أرض الواقع، من خلال عملها على صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائما، كي تتمكن من إلحاقه بها والسيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو - على الأقل - احتواء مطالبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهمية، وشعارات فضفاضة لم تحقق لمواطنيها المستضعفين إلا الدمار والخراب الروحي.. فكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المأزومة أن الدولة العربية الحديثة:

1. فشلت فشلا ذريعا في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى شاطئ وبر الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به.

2. وتفرّغ القائمون عليها للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة..

لأن الفقير لا يجرأ دائما على رفع رأسه، كما أن الجائع لا يعرف السياسة، ولا وقت عنده للحديث والاستماع للسياسة والسياسيين، إذ إنه مشغول كليا بتحصيل لقمة عيشه وكفافه اليومي. وهكذا يبدأ هذا الفقير الجائع والمحروم - مع مرور الأيام - بفقدان إنسانيته، ونسيان ذاته وفاعليته الوجودية، ويُختصر إلى جملة من الغرائز والمكبوتات، بما يؤدي لاحقا إلى تدمير القيم السامية والأخلاق الحميدة والمثل العليا التي طالما تفاخر بها، واعتز بانتمائه إليها.. وهكذا كانت النتيجة أيضا أن وصلنا إلى حافة الهاوية على كل المستويات والأصعدة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

والشيء الذي ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا هنا هو أن خطورة هذا الوضع المأساوي العام الذي يرزح تحته عالمنا العربي الآن يتزايد أكثر فأكثر يوما بعد يوم على مستوى عدم استجابة معظم النخب العربية السياسية الحاكمة لاحتياجات الناس، ومتطلبات التنمية الاقتصادية والسياسية الحقيقية، وهذا ما يؤسس باستمرار لأجواء ضعف (أو عدم وجود) المساءلة والنزاهة والشفافية المطلوبة، والتي لا يمكن النهوض والارتقاء من دونها، مما يجعل من تلك المجتمعات مرتعا خصبا لانعدام الفعالية والنشاط والكفاءة.. وهذا الأمر نجده يفرض ذاته بقوة علينا، خصوصا بعد أن أخذت الولايات المتحدة الأميركية زمام المبادرة والمبادأة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في العالم كله. مما يدعونا جميعا لمواجهة هذا التحدي الكبير من خلال ضرورة انفتاح الأنظمة على شعوبها، واعترافها بالتقصير عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها والتزاماتها التي سبق أن وعدت بها. ولكننا لم نشهد ذلك حتى الآن. حيث لا تزال الفجوة (بما فيها الكراهية والحقد المتبادل) قائمة بين الشعوب العربية والأنظمة الحاكمة، وهي تتسع وتتعمق يوما بعد يوم. في الوقت الذي يفترض أن تتوجه جهود أبناء مجتمعاتنا كلهم - حكاما ومحكومين - إلى تركيز الطاقات باتجاه العمل والتنمية والسعي للنهوض بواقع أمتهم في محاولتها الرامية لاستيعاب المعرفة بمختلف جوانبها، والعمل على اكتسابها، ونشرها، وتعميمها. وذلك من أجل الارتقاء بواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مواجهة عالم كبير يتحكم فيه منطق القوة وغريزة القوة والمصالح الآنية الجزئية، وتستحوذ أميركا فيه على حصة الأسد من كل الثروات والمصالح والمتع.

طبعا نحن لا نريد أبدا أن نصور أميركا والغرب عموما وكأنهم قضاء وقدر حتمي مفروض على شعوب وحضارات العالم أجمع، ولكننا نريد أن نعطي للواقع العالمي الراهن صورته الواقعية الصحيحة لكي نتمكن من إنجاز شروط مواجهته بحسب المنطق العلمي والعقلي القائل بأن النتائج تأتي تبعا لمقدماتها.. إذ إن مواجهة الحقائق الواقعية، وتقدير حجم وقوة العدو الحقيقية هي من أهم أسباب تحقيق النصر الحاسم في ساحة المعركة.

وبالإضافة إلى ذلك فنحن لا نريد الخضوع أو إيهام الناس بصحة وصوابية «نظرية المؤامرة دائما» وأن هناك من يقف أمام تقدمنا وتطورنا دائما... ولكننا نقصد أنه طالما أن الشعوب العربية تظن وتتصور أن هناك - وعلى الدوام - من يتربص بها الدوائر ويحيك لها المؤامرات ويريد أن يسرق خيراتها وثرواتها... أقول: طالما أن الأمر كذلك فلن نشهد نهضة عربية حقيقية في أي شكل من الأشكال. والذي يبدو أمامنا هنا أن الحكومات العربية والإسلامية عموما تعمق هذا التصور المريض في داخل ذهنية أفراد مجتمعاتها، لتخفي من خلال ذلك نهبها لطاقات أوطانها، وزيادة سيطرتها على ثرواتها وموارد مواردها التي تشكل قاعدة النهوض والتطور والتنامي الفردي والجماعي.

ويجب ألا يغيب عن أذهاننا وتصوراتنا أننا نعيش حاليا في ظل حضارة عولمية وإنسانية واحدة بالإطار العام. إنها حضارة عصر الإنترنت وحقوق الإنسان والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وحضارة المؤسسات الحديثة الحقوقية والإنسانية والعلمية. ولسوء حظنا لم نستفد كثيرا من مزايا تلك التطورات الهائلة، ولم نؤسس لتواصل هادف مع الآخر.. ومازال القمع والظلم سائدا وطاغيا في كل حياتنا السياسية والاجتماعية، وكذا والأمية والفقر تفتك بهذه البلاد.

وهذا الضغط للأسف قادنا إلى ما نحن عليه الآن من أن أغلبية العرب والمسلمين المحقونين بالشعارات الطنانة الرنانة آثرت القعود، والاستكانة للحل السلبي وهو العبث واللا مبالاة، والامتناع عن ملاحقة ومتابعة متغيرات الواقع، أي الامتناع عن العيش في العصر. إنه الموقف الهروبي من الواقع كله الذي لم يشارك مواطننا العربي في تمثله وصنعه، والذي لا يمتلك القدرة على التأثير فيه ولو بنسبة ضئيلة جدا. والنتيجة الواقعية هي في تحول هذا الفرد إلى محصلة صفرية غير فاعلة تعيش ليومها من دون أدنى تفكير خلاق ومبدع بالغد والمستقبل. ولسان حاله يقول: «اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا».

وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي تحقيق الاستشفاء الذاتي لوحده، بل إنه بحاجة ماسة لمن يأخذ بيده قبل كل شيء، وبالمثل لا يمكن لبلداننا تحقيق بديهيات التنمية والتقدم بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى.

وشعوبنا العربية والإسلامية تواقة للإصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها أن تغض النظر عن مصدر التغيير وآلياته وأساليبه. ويبدو أن انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والإسلامي، هو الذي يدفع تلك الشعوب باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو (الغرب وأميركا).

والواضح أمامنا في هذا الاتجاه - أن هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا العربية، وقد انتقلت تأثيراتهما إلى البلدان الأخرى:

الأولى: الشعور العام المطبق بانعدام آفاق التغيير والإصلاح نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والإسلامية الفاسدة عبر العقود الماضية، والتي كانت تحظى، حتى عهد قريب، برضى المصالح والسياسات الدولية المتصلة مع نظيرتها المحلية.

الثانية: استشراء واستشراس ثقافة العنف التي وجدت في التراث الإسلامي حاضنة لها مما ساهم في نمو حركات العنف والتدمير في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني.

ويبدو لي أن ضغط هاتين الحقيقتين على مختلف مواقع الفعل والتأثير السياسي والحضاري المعاصر محليا ودوليا، سيدفع هؤلاء جميعا للعمل من أجل التعاون المثمر والهادف إلى تحقيق مجتمع تسوده قيم الحرية والحوار والعقل والعدل. يحترم فيه الإنسان من حيث أنه سيد الوجود والحياة. مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر مختلفة. مجتمع يشعر فيه الإنسان عمليا بأنه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته إلا بتوزيع الأدوار وتعدد واختلاف المسئوليات. مجتمع يتبنى النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنوانا لحركته وتطوره

العدد 2550 - السبت 29 أغسطس 2009م الموافق 08 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً