العدد 2306 - الأحد 28 ديسمبر 2008م الموافق 29 ذي الحجة 1429هـ

العدوان محكوم بالتوقيت وشروط المكان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخل العدوان الأميركي - الإسرائيلي على قطاع غزة يومه الثاني ويرجح أن يستمر إلى فترة زمنية محدودة على رغم أن وزير الدفاع ايهود باراك أعلن في مؤتمر صحافي أن العملية مفتوحة إذا اقتضت الضرورة العسكرية. انفتاح العملية مسألة مستبعدة لأن المواجهة محكومة بالجغرافيا التي تفرض شروطها الميدانية. وبسبب ضيق المساحة الجغرافية وكثافة السكان والظروف الحياتية التي تتحكم بأهالي القطاع يرجح ألا يستمر العدوان إلى مدة زمنية مفتوحة.

المسألة لا تقتصر على الوقت والجغرافيا وانما هناك مجموعة عوامل لوجستية تلعب دورها في تحديد مسار العدوان. فهناك احتمال أن تقتصر العملية العسكرية على الضربات الجوية بهدف تقطيع أوصال القطاع كما حصل خلال العدوان الأخير على لبنان. وهناك احتمال أن تكتفي تل ابيب بتسجيل اقتحامات محدودة على القشرة بقصد دفع المقاتلين إلى الداخل. وهناك احتمال أن تتدحرج العملية ويتحول العدوان إلى معركة شاملة تستهدف تحطيم البنى التحتية والسكانية تمهيدا لإعادة الاحتلال.

الاحتمالات مفتوحة ولكنها في النهاية محكومة بالجغرافيا والمدة الزمنية ومدى استطاعة حكومة ايهود اولمرت تحقيق أهدافها المعلنة. تل ابيب حددت الغاية من العدوان بنقطة واحدة، وهي وقف اطلاق الصواريخ. وهذا يعني أن العملية ستستمر حتى يتوقف انطلاق الصواريخ من غزة. في المقابل أكدت الفصائل الفلسطينية العاملة في القطاع عزمها على الرد والتصدي وتوسيع رقعة المواجهة ونقلها إلى الأراضي المحتلة في العام 1948.

بناء على هذه المعطيات يمكن توقع انعطافات في المعركة إذا نجحت الفصائل الفلسطينية في انزال ضربات موجعة في قوات الاحتلال أو إذا استطاعت القيام بعمليات داخل المدن الإسرائيلية. وفي حال حصول مثل هذه الانعطافات في المواجهة تصبح حكومة اولمرت في موقف صعب لأنها تكون خسرت المعركة معنويا وبدأ الرأي العام الإسرائيلي ينقلب عليها ما يؤدي إلى جرجرتها إلى المحاكمة بتهمة التقصير والاخفاق من جديد.

حتى الآن تبدو المعركة في بداياتها. تل ابيب لجأت إلى الخداع ونجحت في توجيه ضربة عسكرية غادرة في الساعات الأولى ثم انكفأت إلى سياسة الإغارة أو القصف عن بعد. وهذا في العلم العسكري يشكل نقطة تراجع وبداية انكفاء عن زخم الموجة الأولى، بعد أن تلاشت مضاعفاتها. المفاجأة الاستراتيجية اخذت مداها الأقصى في الساعات الأولى والآن جاء دور الفصائل الفلسطينية لتظهر قدرتها على الرد وتوجيه ضربة غير متوقعة.

مسألة الرد الفلسطيني مرهونة بالقدرة البشرية في اعتبار أن المدى الجغرافي للصواريخ وكثافة النيران ونوعية الأسلحة محسومة لمصلحة الجانب الإسرائيلي الذي يمتلك أدوات وتقنيات تسمح له بالسيطرة على الأجواء والمياه الاقليمية والتحكم بالمداخل والمعابر وقشرة الحدود. إذا فشلت الفصائل الفلسطينية في الرد النوعي واستخدام القوة البشرية لتعديل ميزان القوة يصبح القطاع في حكم الساقط عسكريا نظرا لظروفه الحياتية وكثافته السكانية وضيق مساحته الجغرافية. فهذه العوامل الثلاثة تلعب لمصلحة تل ابيب لأن القطاع محاصر ولا يمتلك العمق الجغرافي الذي يوفر للمقاتلين الدعم اللوجستي كما هو حال لبنان خلال عدوان صيف 2006.

لا شك أن تل ابيب استفادت من عنصر المفاجأة ونجحت في تضليل قيادة «حماس» وسجلت ضدها ضربة استباقية مؤذية. كذلك اختارت التوقيت المناسب لعدوانها مستفيدة من التغطية الأميركية التي اتهمت «حماس» بالاستفزاز وحملتها مسئولية البدء في معركة الصواريخ. والموقف الدولي الذي صدر في قرار مجلس الأمن اشار إلى ضرورة «وقف عمليات العنف» لم يختلف كثيرا عن الولايات المتحدة حين ساوى بين العدوان والصواريخ المحلية الصنع.

ذريعة الصواريخ

العامل الدولي - الأميركي لا يزال يعمل لمصلحة «إسرائيل» إلا أنه لن يستمر طويلا إذا واصلت حكومة اولمرت عدوانها تحت شعارات مفتوحة على الزمن. فعامل الوقت محدود بالأيام وليس بالأسابيع أو الأشهر كما تحاول تل ابيب الايحاء بذلك باعتبار أن ذريعة «الصواريخ» لا يمكن لها أن تستمر من دون نقد ونقاش في تبرير العدوان إلى مدة مفتوحة. ايضا هناك العامل العربي الذي بدأ يتحرك على أكثر من صعيد ويرجح أن يتطور في الأيام المقبلة ليشكل قوة ضاغطة اقليميا ودوليا لكبح جماح العدوان الإسرائيلي. فالدعوة إلى عقد اجتماع على مستوى مجلس وزراء الخارجية العرب يمكن أن تشكل خطوة سياسية في سياق توحيد الموقف المشترك الذي يرجح أن ينتهي إلى اقتراح خطة عمل واعتماد آليات لوقف العدوان.

خارج السقف الدولي - العربي تبدو الأمور متأرجحة ومتقلبة بين الوضوح والغموض. فلسطينيا لا تستطيع السلطة تطوير موقفها من دون دعم عربي قوي ومتماسك نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها الضفة. ومصريا لا تستطيع القاهرة تجاوز الاتفاقات الدولية الموقعة بشأن الوجود العسكري في سيناء أو معابر الحدود المتصلة بغزة. وأردنيا لا تستطيع عمان التحرك خارج نطاق الخط الدولي الفاصل الذي نصت عليه اتفاقات وادي عربة. وسورية لا تستطيع الخروج على اتفاقات الهدنة في الجولان وخصوصا أن دمشق حددت قبل أسبوع أولوياتها بأنها تبدأ بتطوير المفاوضات مع «إسرائيل» إلى درجة أعلى وباشراف أميركي. وإيران حليف سورية الاقليمي تبدو في موقف ضعيف وغير قادرة على التحرك وتنتظر عملية التسلم والتسليم في واشنطن لتبدأ اتصالاتها المباشرة والعلنية مع الولايات المتحدة.

كل الدول المحيطة بفلسطين وصولا إلى إيران تعتمد مجموعة أولويات لا تتناسب مع حاجة «حماس» وظروف القطاع. حتى الأطراف التي تؤيد اطلاق الصواريخ تمر في ظروف حادة لا تسمح لها بكسر برنامج اولوياتها في مرحلة دولية انتقالية تحتاج إلى فترة زمنية للاستقرار.

يبقى لبنان خارج الصورة. فهذا البلد الصغير لايزال يعاني من سلبيات العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006، وهو يمر في ظروف داخلية تختلف عن الفضاءات التي كانت موجودة في تلك الفترة. فهناك القرار 1701 والقوات الدولية (يونيفل) المنتشرة على الحدود الفاصلة مع «إسرائيل». وهناك التجاذبات الأهلية والانقسامات السياسية والمخاوف من وجود «صفقة سرية ما» تقضي بتدمير الدولة وتقويض الكيان ومحاصرة المقاومة... وكل هذه العناصر مجتمعة تخفف من احتمالات الانجرار أو التورط في معركة ستكون أقسى من ذاك الصيف الرهيب.

عوامل عدم انجرار أو تورط لبنان في المعركة أقوى من كل الاحتمالات، ولكن ترجيح «توريط» البلد الصغير من خلال عملية الدفع الآلي الاقليمي مسألة واردة ولا يمكن تجاهلها أو اسقاطها كليا من الحسابات. فالدفع الجغرافي الجواري لبلاد الأرز قد يكون من العناصر غير المرئية في الصورة اللبنانية - الاقليمية ما يعني أن هناك خطوة خفية تستهدف التوريط لتحقيق غايات بعيدة المدى يدفع كلفتها لبنان الدولة والمقاومة.

الصورة اللبنانية غامضة حتى الآن والاحتمالات مفتوحة على عدم التورط من جانب وإمكان التوريط من جانب، ولكن المرجح هو عدم الانجرار إلى مواجهة محكومة في النهاية بالجغرافيا والتوقيت الزمني الذي اختارته تل ابيب بذريعة وقف اطلاق الصواريخ.

العدوان دخل يومه الثاني واحتمال تدحرج الحرب تبدو محدودة ومشروطة بعوامل الزمان والمكان. حتى «توريط» لبنان لمصلحة تحسين شروط التفاوض الجواري مع أميركا و«إسرائيل» تبدو احتمالاتها متراجعة قياسا بالظروف التي عاشها البلد الصغير في العام 2006. فالتوقيت الذي حددته تل ابيب، والهدف الذي روجته دوليا، والمكان الذي اختارته ساحة لعملياتها... كلها عناصر تؤشر إلى أن زمن العدوان ليس مفتوحا ولا يستطيع التمدد إلا إذا دخلت الميدان احتمالات خارج التوقعات والمشاهدات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2306 - الأحد 28 ديسمبر 2008م الموافق 29 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً