العدد 2555 - الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 13 رمضان 1430هـ

ابن طفيل والهروب إلى جزيرة الوقواق

صعود الفلسفة في زمن دولة الموحدين (3)

اختار ابن طفيل جزيرة الوقواق مسرحا لروايته الفلسفية واسقط الكلام على شخصيات القصة. فحي (ابن يقظان) هو العارف الذي وصل إلى المشاهدة من طريق المعرفة المكتسبة بالتجربة والملاحظة والتأمل. وآسال هو المتدين (الشريعة) إذ كان «أشد غوصا على الباطن وأكثر عثورا على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل». وسلامان هو الواقعي (رجل الدولة) إذ كان «أكثر احتفاظا بالظاهر، وأشد بعدا عن التأويل، وأوقف على التصرف والتأمل». وكلاهما (آسال وسلامان) مجد «في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى» فهما «من أهل الفضل والرغبة في الخير». مع ذلك اختلفا في الرأي فآسال مع «العزلة» والبحث عن الحقيقة من طريق العبادة، وسلامان مع «ملازمة الجماعة» وأخذ الواقع كما هو وعلى حاله وإجراء الإصلاح على قدر العادة وقدرة الإنسان على التحمل والتأمل. (ص 218 - 219). وبسبب ذاك الاختلاف افترق «آسال» وانزوى في جزيرة العزلة بعيدا عن المدينة وملتها، بينما استمر «سلامان» مع أهله يواصل عبادته في وقت واحد مع أحكام الملة وتطبيقها وفق ضرورات الواقع.

انطلق ابن طفيل في قصته من سؤال ورد من «الأخ الكريم» عن «أسرار الحكمة» التي ذكرها «الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا» وكانت إجابته متشعبة فهو بدأ بوصف حال الفلسفة والشريعة في الأندلس واختلاف الفلاسفة والفقهاء على مسألتي التفسير والتأويل في محاولة الوصول إلى معرفة الواحد غير المتعدد، وانتهى إلى وصف ظروف الأندلس في عصره وخطورة «ما ظهر في زماننا هذا من آراء فاسدة نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها وخشينا على الضعفاء الذين (...) أرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها...» (ص 235). ويحدد ابن طفيل وظيفة قصته بأنها مساهمة منه لإعادة هؤلاء إلى «جانب التحقق» ثم صدهم «عن ذلك الطريق» الذي يدفع نحو الابتعاد عن تقليد الأنبياء.

لا يبدأ ابن طفيل بقصته الفلسفية بل يمهد لها بقراءة سريعة في مناهج الفلاسفة واختلافهم على أمور لها علاقة بالدين والدولة والعقل وإمكان الوصول إلى العلوم من غير تحصيل. فأهل العلم عنده ينقسمون إلى قسمين: أهل النظر (الفلاسفة) وأهل الولاية (المتصوفة). ويحدد شروط إدراك أهل النظر لعالم الطبيعة وشروط إدراك أهل الولاية لعالم ما بعد الطبيعة وأخيرا لقاء واختلاف حقول معرفة كل فريق عن الآخر. وبرأيه إن المشاهدة الصوفية تختلف عن غيرها من المدارك النظرية المستخرجة بالمقاييس «وتقديم المقدمات وإنتاج النتائج». (ص 108). وعنده تكون الرؤية البصرية أكثر وضوحا بعد المشاهدة الروحانية لذلك كانت رؤية «النظار» أكثر وضوحا في فهم «الإدراكات الأخرى» حين وصلوا إلى طور «الولاية». فالفلسفة تستوعب عالم الطبيعة أكثر إذا نجح الفيلسوف في معرفة عالم ما بعد الطبيعة. وهذا ما توصل إليه ابن سينا حين نجح في الجمع بين طريقة أهل النظر (الفلاسفة) وأهل الولاية (المتصوفة) من طريق «الحكمة». فالحق عند ابن سينا يندرج في مراتبه وصولا إلى انكشاف نور الحق في كل شيء وكأنه مرآة تعكس بعضها بعضا. وهذا من الصعب إثباته في كتاب لأنه يأتي بالتجربة وترويض النفس والمجاهدة للوصول إلى «ذات الحق»، وذات الحق لا تتكثر بوجه من الوجوه وهي يمكن الوصول إليها من طريق الممارسة.

قبل أن يبدأ قصته، وهي تشبه الكثير من الأساطير والروايات القديمة والحديثة عن تربية الحيوان لطفل ضاع في جزيرة، يشرح ابن طفيل حال الفلسفة في عصره الذي هو «أعدم من الكبريت الأحمر، ولاسيما في هذا الصقع الذي نحن فيه». وسبب صعوبة الظفر بشيء من الفلسفة في الأندلس يعود إلى أن الملة «الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه، وحذرت عنه» (ص 111).

برأيه أن ابن الصائغ (ابن باجه) هو أحذق من اشتغل في الفلسفة في الأندلس إلا أن علمه لم يكتمل بسبب انشغاله بالدنيا ومن جاء بعده «من المعاصرين لنا، فهم بعد في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال، أو ممن لم تصل إلينا حقيقة أمره» (ص 112).

هذا حال إنتاج الفلسفة في الأندلس وهو ليس أفضل من حال ما وصل إليها من كتب فلسفية. فكل ما وصل منها بعض كتب الفارابي وأكثرها «في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك» (ص 112). أما كتب أرسطو فقد تكفل ابن سينا «بالتعبير عما فيها، وسلك طريق فلسفته في كتاب الشفاء (...) وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو» وهي ما أوردها ابن سينا في كتابه عن «الفلسفة» (ص 113).

ويمتدح الإمام الغزالي على صوفيته وينتقد أفكاره على رغم أن صوفية الغزالي مجرد حادث عارض في مجرى تطوره الفكري. فأساس مشروع الغزالي الإحيائي هو الجانب العملي قبل النظري وهو ما جعل ابن طفيل يتهمه بالتناقض في مخاطبة الجمهور لأنه «يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها» (ص 113). وهذه تهمة سيكررها ابن رشد لاحقا وهي غير دقيقة لأن الحديث عن تناقضات الغزالي هو مجرد تطور في منظومته.

بعد ملاحظاته على ما وصفه تناقضات الغزالي يعود ليمدحه كثيرا لأنه رأى أن الشك طريق اليقين حين يقول «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة» (ص 114). ولا يتردد ابن طفيل في القول إن الغزالي هو «ممن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة. لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا» (ص 115). فابن طفيل متردد في نقد الغزالي خوفا من غضب سلطة الموحدين التي اتهمت آنذاك بأنها استلهمت مشروعها من مشروعه الإحيائي وقامت دولتها على فكره وحاربت دولة المرابطين بعد أن ارتدت الأخيرة عليه وأمرت بحرق كتبه خصوصا «إحياء علوم الدين».

العدد 2555 - الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 13 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً