العدد 2555 - الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 13 رمضان 1430هـ

رمضان... ميدان الجهاد ضد شهوات النفس الإنسانية

«ها هي ذي الأيام تمضي ويهل علينا شهر رمضان بخيره وبركته، فهل سنفاجأ بقدومه أم أننا قد أعددنا العدة لاستقباله؟ فالسعيد منا من رتب أوراقه وهيأ نفسه للاستفادة من هذا الشهر المبارك من أول يوم يهل علينا فيه، ولم لا ومعظمنا يشكو من ضعف إيمانه وقسوة قلبه، فالسجدة بلا روح، والصلاة بلا خشوع، وآيات القرآن تُقرأ بلا تدبر.

لقد شغلتنا الدنيا عن الآخرة وأحاطت بنا مباهجها وزخارفها، ومن رحمة الله وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الدنيا محطات نقف فيها مع أنفسنا لنحاسبها على تقصيرها في جنب الله، ولنقوي فها إيماننا ونجلو الصدأ من على مرآة قلوبنا.

ومن هذه المحطات الرئيسية... شهر رمضان».

يقول (ص): «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له...»

فمن لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟! أيغفر له وهو غارق في بحر الدنيا بعيد عن الآخرة؟ أم يُغفر له وهو يلهث وراء الدرهم والدينار وطلبات الزوجة والأولاد؟

نحن لا نتألى على الله، ولكن للمغفرة أسبابا، ولدخول الجنة تكاليف، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولقد بيَّنت الكثير من الآيات والأحاديث أن للجنة ثمنا لا بد أن يوفى ممن يريد دخولها، يقول تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعِدت للمتقين. الذين يُنفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون».

- فهل من مُشَمِّرٍ للجنة؟

يقول (ص): «ألا هل من مُشَمِّر للجنة، فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة جميلة، وحُلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في حلة عالية بهية، قالوا: يا رسول الله نحن المُشَمِّرون لها، قال: قولوا إن شاء الله، قال القوم: إن شاء الله».

إن دخول الجنة يحتاج منا بعد التعلق برحمة الله كثيرا من المجهود نبذله في طاعة الله، ولِمَ لا وما هي إلا أياما معدودات نمكثها في هذه الحياة الدنيا، ثم يعقبها سنوات طوال في ظلمة القبور، ثم البعث والحساب، ودخول إحدى الدارين: الجنة أم النار.

ليتخيل كل منا الندم والحسرة التي تملأ قلوب الغافلين عندما يتعرضون للحساب الرهيب جزاء تقصيرهم في عبادة خالقهم ومولاهم.

يقول تعالى: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين. قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم تعلمون. أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا تُرجعون».

نحن لازلنا في الدنيا، والفرصة سانحة أمامنا للتزود لما بعد الموت، وها هو شهر رمضان يدعونا لذلك، فهيا بنا نشمر عن سواعدنا ونهجر فراشنا ونوقظ أهلنا ونرفع راية الجهاد ضد أنفسنا ورغباتها وشهواتها.

- هيا نتواص بالاجتهاد في فعل الخيرات

فلنعمل على:

1 - المحافظة التامة على أداء الصلوات الخمس في المسجد، ولنُبَكِّر في الذهاب إليه، ولننتظر الأذان، ولنشهد تكبيرة الإحرام، ولنتذكر أن من صلى أربعين يوما في المسجد لا تفوته تكبيرة الإحرام، كُتِبت له براءة من النار وبراءة من النفاق، ورمضان فرصة عظيمة نحو تحقيق ذلك.

2 - إحياء السنن التي كثيرا ما ننشغل عنها طوال العام مثل: الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى شروق الشمس نذكر الله ونقرأ القرآن، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال، وصلاة الضحى، واتباع الجنائز، واستعمال السواك، وانتظار الصلاة، وترديد الأذان، والتبكير لصلاة الجمعة.

3 - ختم القرآن أكثر من مرة: فرمضان شهر القرآن، قال تعالى: «شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...».

فنختم القرآن مرة في البيت مع الزوجة والأولاد، ومرة في المسجد، ولو أتيحت لنا فرصة أداء العمرة وزيارة مسجد النبي (ص) فلتكن لنا ختمة في الحرم النبوي، وأخرى في المكي، فلقد كان السلف يضيف إلى مناقب الشخص عدد مرات ختمه للقرآن في الحرم النبوي وفي الروضة الشريفة وفي الطواف حول الكعبة.

4 - مراجعة المحفوظ من القرآن: فمعظمنا نسي الكثير مما حفظه، ورمضان فرصة عظيمة لاستعادته، فليضع كل منا لنفسه خطة لذلك، وليتذكر أن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة اقرأ ورتل وارق، كم كنت ترتل في الدنيا، فمنزلتك عند آخر آية تقرؤها، ولنتذكر جميعا أن من ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب.

5 - المحافظة التامة على الصلاة ولنبكر في الذهاب إلى المسجد ولنصل في الصفوف الأولى، ولنجتهد في إتمامها، ولا ننصرف حتى ينصرف الإمام لننال الأجر الذي وعدنا به الرسول (ص)، ولنصحب معنا الزوجة والأولاد كلما تيسر ذلك.

6 - الإقلال من الطعام والشراب والنوم والمخالطة والكلام - ما أمكن ذلك - فلقد أكلنا كثيرا، وشربنا كثيرا، وضاعت منا الكثير من الساعات في النوم واللغو والسمر واللهو.

ولا يخفى عن الكثير منا أن هذا كله من أدوات النفس للسيطرة علينا فهي تجد راحتها ولذتها في هذه الأشياء، فمن أراد أن يسيطر على نفسه ويمتلكها فعليه تضييق هذه المنافذ فلا يتكلم إلا لضرورة، ولا يأكل إلا ما يحفظ به صحته، ولا ينام إلا القدر المعقول، ولا يخالط الناس إلا في الخير فقط.

وهذا لن يتم إلا إذا توفرت الأجواء المناسبة لذلك، وأي جو أنسب من جو رمضان حيث الصيام بالنهار والقيام بالليل، والقرآن يملأ جنبات النفس والشياطين مصفدة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة؟

7 - التنافس مع أهل البيت في العبادة وقراءة القرآن والذكر ولا نرهقهم بطلب إعداد الولائم والموائد، فرمضان شهر التسابق في فعل الخير وليس شهر التلذذ بطيب الطعام، فيكفي صنف أو صنفان نتناولهما عند إفطارنا وسحورنا لتتفرغ الزوجات والبنات للعبادة.

8 - لنتذكر الفقراء والمساكين طوال هذا الشهر تذكرة عملية فنعد لهم وجبات الإفطار ونجلس معهم نشاركهم طعامهم ونشعرهم بأخوتنا لهم.

9 - ليكن لكل منا ورد خاص من الذكر المطلق بجوار أذكار الأحوال، فعلى سبيل المثال: استغفار ألف مرة، تسبيح ألف مرة، صلاة على الرسول ألف مرة.

10 - الحرص على بر الوالدين وتلبيه طلباتهما والعمل على راحتهما والاجتهاد في ذلك، فمن توفي أحد أبويه أو كلاهما فليكثر من الدعاء لهما والتصدق وقراءة القرآن، وإطعام الطعام، وليهب ثواب ذلك كله لهما.

ومع الحرص على بر الوالدين لا ينبغي لنا أن ننسى أرحامنا فلنتفقد الأقارب، ونسأل عن الغائب، ونعطي المحتاج، ونعُود المريض، ونسعى في قضاء حوائجهم ونصلح بينهم.

11 - ليكن رمضان فرصة للعفو والصفح عن الآخرين فنعفو عمن ظلمنا، ونصل من قطعنا، ونعطي من حرمنا، ولنحرص على سلامة صدورنا تجاه الآخرين، ولنكن نحن البادئين بالسلام والعفو والصفح.

12 - مداومة الإنفاق في سبيل الله، وليكن لنا لك يوم صدقة - وإن كانت قليلة - نخرجها لله، لنربى أنفسنا على هذا الخُلق الكريم، ليكون بعد ذلك طبعا راسخا داخلنا، ولتُكتب أسماؤنا مع المتصدقين طوال رمضان.

ولنتذكر أن الرسول (ص) كان أجود ما يكون في رمضان.

- الانشغال بالنفس

13 - الانشغال بالنفس ومحاسبتها على ما مضى من أعمال، ولكي تسهل عملية الحساب علينا تحديد جوانب تلك المحاسبة، فنحاسبها على الجانب العبادي، وهل أدينا العبادة على الوجه المطلوب أم كان هناك تقصير؟

ونحاسبها على الجانب الإيماني، فنسأل أنفسنا: هل كنا مداومين على التوبة إلى الله؟ وهل كنا نخشاه حق الخشية، ونتوكل عليه حق التوكل، وهل كنا نتحاكم إليه ونتخاصم من أجله، ونُنِيب إليه؟

ونحاسبها على الجانب الأخلاقي والسلوكي: هل كنا نؤدي الأمانة، ونفي بالوعد، ونقبل العذر، ونحرص على الصدق، ونصفح عن الآخرين ونَحلُم عليهم، ونسارع في خدمة المحتاج، ونجدة الملهوف، ونصرة المظلوم؟

ونحاسبها كذلك على حقوق الآخرين علينا: مثل حقوق الوالدين، والزوجة، والأولاد، والأقارب، والجيران.

ونسألها عن واجب الدعوة إلى الله، وهل كانت الدعوة هي شغلنا الشاغل؟!.

ولا نفس حسابها عن الجانب المهني، من ناحية الإتقان والورع والأمانة.

فبهذا الحساب يعرف كل منا أين يضع قدميه، وفي أي الطرق يسير، فإن وجد أنه قد انحرف عن الصراط كانت هذه المحاسبة هي البداية لتصحيح المسار.

وتأتي أهمية إجراء هذه المحاسبة في رمضان لأن الجو العام يساعد على ذلك، فالشياطين مصفدة والأجواء مشبعة بالقرآن والذكر، والنفوس طيعة، فمن لم يستطع أن يحاسب نفسه في هذه الأيام فمتى يحاسبها؟! أفي الأسواق؟ أم في المنتزهات؟ أم بين مشاكل الحياة التي لا تنتهي؟!.

14 - الإكثار من الدعاء إلى الله بذل وخشوع عساه - جل وعلا - أن يفك أسرنا ويفرج كربنا ويعيننا على أنفسنا، ولتكن لكل منا دعوتان ثابتتان يدعو بهما في كل وقت بجوار ما يفتح الله عليه من أدعية أخرى، ولتكن إحداهما عامة للمسلمين والأخرى خاصة بكل منا.

وليكن دعاؤنا كدعاء المضطر المشرف على الغرق الذي لا ينجيه إلا تعلقه بالحبل المتين، والركن الشديد، الفعال لما يُريد، القائل للشيء كُن فيكون.

15 - استصحاب نية الاعتكاف عند دخول المسجد في أي وقت ولو للصلاة فقط، من رمضان، فإن لم نتمكن فالليالي الوترية، فإن لم نتمكن ففي أي وقت تسمح ظروفنا بالاعتكاف فيه، فالمقصد هو إحياء سنة الاعتكاف والحرص على بلوغ العناية منه، وهو عكوف القلب على الله والانجذاب التام إليه، وطرد الدنيا بخواطرها وزخارفها من قلوبنا وتجريد القلوب لله، وتحقيق معنى الافتقار إليه كما قال تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد».

وفي النهاية أُذَكِّر نفسي وإياكم بأننا فقط المستفيدون من تطبيق هذا كله فالله غني عنا وعن أعمالنا، ومع غناه عنا فإنه عز وجل يمنحنا الفرصة تلو الفرصة لنعيد حساباتنا ونفر إليه قبل فوات الأوان.

يقول تعالى: «ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفورٌ رحيم».

العدد 2555 - الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 13 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً