العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ

مراوغة التغيير... وتحدّي التدخل الأميركي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لا نظن أن قضية التغيير مازالت محل شك أو تساؤل، فقد خرجت كما يبدو للأسف من بين أيدينا وأصبحت في يد أميركا... لكن التساؤل المطروح الآن هو كيف يحدث التغيير في بلادنا، وبأية وسيلة وما هو الثمن؟

ونحسب أن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، قد عبّر بشكل من الأشكال للقادة العرب الرئيسيين الذين اجتمع بهم في شرم الشيخ، عن آرائه وأفكاره بشأن ضرورة الاسراع في تغيير المنطقة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا... ربما لم يتحدث بالصراحة نفسها والوضوح عن الاصرار الأميركي على التغيير - حتى بالقوة - ولكنه قال حتما وسيقول شيئا مهما في هذا الصدد ابتداء من شرم الشيخ وحتى الغد القريب والبعيد...

وحتما سيستغل مهمته الرسمية الأولى في المنطقة ليؤكد أهم أهداف استراتيجيته، وخصوصا هدف محاربة الإرهاب - كما يقول التعريف الشائع - وهدف تغيير البيئة العربية الإسلامية التي انتجت هذا الإرهاب.

وما يحاوله الرئيس بوش وإدارته هو أن يكسب الدول العربية والإسلامية الرئيسية إلى جواره في هذا الاتجاه، بعدما جاء إليها بما يعتبره من المكاسب الكبرى، مثل إزاحة نظام صدام حسين، الذي طالما سبب ازعاجا للعرب، ومثل محاولته الراهنة لتفعيل خريطة الطريق، لتضع نهاية للقضية الفلسطينية، التي طالما سببت قلقا للعرب.

ومقابل ذلك فهل يطلب من العرب أن يتغيروا وفق النهج الذي تراه الاستراتيجية الأميركية، بعدما فشلوا في تغيير أنفسهم بأنفسهم وبأيديهم على مدى عقود، وربما قرون. وبعدما عجز الدافع الداخلي في إحداث التغيير، أتى إليهم الآن علنا الضغط الخارجي من دون مواربة... حتى وإن ظل باب التحايل مفتوحا كعادته وكعادتهم!

وقد صدر من إدارة بوش وعلى لسانه ولسان كل مساعديه، أكثر من تصريح ووثيقة ودراسة، عن الأهمية القصوى والاولوية العالية لإحداث تغيير جذري في المنطقة كهدف استراتيجي أميركي، قفز إلى المقدمة بعد الهجمات الرهيبة على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، التي إن كانت قد هزت الدولة الأعظم والقوة المتغطرسة وأسالت دمها على نحو غير مسبوق، فهي غيرت مفهوم الأمن القومي الأميركي ووسعت من مجالاته إلى درجة غير مسبوقة أيضا... فكيف كان ذلك!

لقد أعطت النتائج المفجعة لحوادث سبتمبر هذه، المبررات اللازمة لصقور اليمين الأميركي - الصهيوني، المعروفين بالمحافظين الجدد، والمؤثرين بقوة في صناعة القرار السياسي عند أعلى مراتبه، لكي يعيدوا صوغ استراتيجية الأمن القومي الأميركي وفق رؤاهم التوسعية الراغبة في الهيمنة على العالم، والمؤمنة باستخدام القوة العسكرية إلى أقصى درجة.

ووفقا لذلك توسعت مجالات الأمن القومي الأميركي تحت حجة مكافحة الإرهاب العربي والإسلامي إلى حدود التدخل العسكري في دول مستقلة، كما حدث في افغانستان والعراق، ثم إلى حدود التدخل السياسي الاقتصادي الاجتماعي بحجة ادخال الديمقراطية وتحديث المجتمعات وتغيير مناهج التعليم الديني والمدني واطلاق التطور الاقتصادي، بعدما أدى فشل الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة في إحداث ذلك بنفسها، فكانت النتيجة المأسوية هي تراكم الفقر والاحباط والتعصب الذي أنتج الارهاب.

ويبدو بوش الآن - في ظل صعود نجمه وخصوصا في الداخل، إذ تتراوح شعبيته المرتفعة بين 60 و70 في المئة، بعدما بدأ رئاسته قبل نحو عامين وهو يعاني عقدة النجاح بأصوات مشكوك في نزاهتها - أكثر تصميما على تنفيذ استراتيجيته هذه في المجال الخارجي «ليحمي الأمن القومي الأميركي من خطر الارهاب»، ولذلك فقد أقدم - أو دفع - إلى اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة في أكثر من اتجاه، ليس فقط ليرضي الرأي العام الأميركي الذي لايزال يعاني هاجس الارهاب، ولكن أيضا ليقول للعالم كله أنا ربكم الأعلى!

وحين نتعمق قليلا في دراسة الاستراتيجية الأميركية الجديدة الهادفة إلى تغيير المنطقة حكوميا وشعبيا، سياسيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا، نجد أن ما تم طرحه حتى الآن من آراء ووثائق وتصريحات، يعود إلى فلسفة أقدم ظهرت بداياتها المبكرة مع محادثات كامب ديفيد بين مصر و«إسرائيل» تحت المظلة الأميركية العام 1978، وترجمت عمليا من خلال اتفاق السلام الموقع العام ,,1979.

فقد ربطت المحادثات ثم الاتفاق بين اقرار السلام بين البلدين، وبين تحقيق الازدهار الاقتصادي من ناحية، وتغيير العقليات والمفاهيم السائدة من ناحية أخرى، وهكذا تقرر أن تقدم أميركا للبلدين الموقعين معونات عسكرية واقتصادية مكافأة منها على التصالح وتشجيعا منها على إعادة بناء ثقافة السلام ونبذ الكراهية والتحريض.

وفي الاتجاه ذاته، سار الهدف من عقد مؤتمر مدريد العام 1991، الذي أطلق «عملية السلام» وأطلق معها المحادثات متعددة الأطراف ومؤتمرات التعاون الإقليمي، التي عقدت في الدار البيضاء والقاهرة وعمّان والدوحة على التوالي، ثم أصيبت بالسكتة القلبية نتيجة تصعيد «إسرائيل» عدوانها وانفلات تطرفها، مثلما أصيبت بالسكتة القلبية أيضا مبادرة بيريز الشهيرة «الشرق أوسطية الجديدة»، وكل هذه المحاولات كانت تهدف أساسا إلى ادماج «إسرائيل» في المنطقة العربية، وتعزيز دورها، بتقديم اقتراحات اقتصادية وسياسية للعرب...

وإذا كان الرئيس بوش الأب، ثم الرئيس كلينتون، فشلا من قبل في استثمار كل هذه المحاولات، لأنهما سارا بها في الطريق الدبلوماسي وعبر جهود الاقناع والإغراء، فإن الرئيس بوش الابن يبدو أكثر اندفاعا في طريق الفرض والضغط لإحداث التغيير الذي لم يحدث على مدى أكثر من عقدين، حتى بالقوة المباشرة... أي التدخل السياسي العسكري الأمني من دون مواربة...

وبقدر ما ان الإدارة الأميركية الحالية غيرت من مفاهيمها وأساليبها في العمل لتطبيق هذا الهدف، وخصوصا بعد هجمات سبتمبر كما أوضحنا، بقدر ما ان علينا نحن أن نغير من مفاهيمنا وأساليبنا في التعامل مع هذا الجموح الأميركي الجديد، إذ ان الأساليب التي اتبعت طويلا على الادارات السابقة، وخصوصا المراوغة والتحايل على التغيير والهروب من مواجهة المتغيرات، لم تعد تنفع...

فنحن أمام رئيس أميركي طامع وجامح، تحركه وتسنده بطانة متطرفة وتوسعية عدوانية يسمونها عصابة المحافظين الجدد، وهم شديد والحماس والولاء للصهيونية و«إسرائيل» على نحو غير خافٍ، ونحن أمام انطلاق اسطوري «للقوة الأميركية» الهادفة إلى احكام قبضتها على مقدرات العالم، منحية الحلفاء الأوروبيين والأمم المتحدة، ومتجاوزة الشرعية والقانون الدولي، ونحن أمام آلة عسكرية بلغت ذروة قوتها التسليحية والتكنولوجية تبحث عن ميدان قتال كل يوم تستعرض فيه قوتها، حتى لو تم تغليف كل ذلك بأغلفة ملونة جذابة، مثل غلاف تحديث المتخلفين ودمقرطة المقهورين وتعليم الأميين وتثقيف الجهلاء بثقافة السلام والتسامح وفق القيم الأميركية!

جالسا فوق قمة هذه المنظومة المرتبة، يبدو الرئيس بوش الآن بعد نجاحه في تدمير أفغانستان واحتلال العراق باسم محاربة الارهاب والاستبداد، أكثر استعدادا لخوض معركة التغيير في باقي الدول العربية والاسلامية، بالحسنى ان أمكن وبالقوة ان تطلب الأمر.

وفي سبيل انجاح معركة التغيير هذه، يضع الآن جهده خلف «خريطة الطريق» لتسوية أو انهاء القضية الفلسطينية، مدركا ان هذه القضية قد تكون أحسن المداخل لتغيير المنطقة وتهدئة العنف وتدمير بؤر ما يسمونه الارهاب الاسلامي العربي في فلسطين، من دون ان يضطر الى الضغط القوي على «اسرائيل» استعدادا لكسب اصوات اليهود في معركة تجديد رئاسته العام 2004، وهم الذين لم يؤيدوه في معركة رئاسته الأولى العام 2000!

ومقابل عدم الضغط الحاسم على «اسرائيل» باعتبار حكومتها ديمقراطية منتخبة «كما يقول الأميركيون»، فإن الضغط الاشد يمتد حتما الى الاطراف العربية التي تحكمها نظم فردية استبدادية، ولعل الضغط الأكبر تم من خلال غزو واحتلال العراق «رأس الذئب الطائر» ليكون نموذجا واضحا أمام العيون التي مازالت لا ترى ماذا يمكن لبوش ان يفعل.

أما وان باقي العرب لا يريدون مصير العراق فإن بوش قدم لهم البدائل المتعددة، بديل الضغط السياسي والنفسي والتلويح بالعقاب العسكري على غرار ما فعله مع سورية، التي استجابت وتفهمت المطلوب منها، وبديل الاغراء بتسوية القضية الفلسطينية عبر خريطة الطريق، هو بديل الضغط طلبا للتحديث والتغيير، كما اوضح هو ذلك وتبعته الادارة الحاكمة، في مبادرة اقامة منطق التجارة الحرة بين أميركا ودول الشرق الأوسط المطروحة في التاسع من مايو/ أيار الماضي، أو في مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط التي طرحها وزير خارجيته باول في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول من العام 2002 أو من قبل في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الاميركي الصادرة في 20 سبتمبر 2002م.

كلها تدور حول فكرة رئيسية هي ان محاربة أميركا للارهاب الذي يهدد حقها في التدخل السياسي العسكري الاقتصادي الاجتماعي في الدول التي ترعى الارهاب، وتساعد بيئتها المتخلفة على تفريخ الارهابيين، وعلى أميركا ليس فقط ان تستخدم قوتها العسكرية لتحقيق ذلك. بل عليها ايضا التدخل لتغيير الاوضاع السياسية وادخال الديمقراطية واصلاح التعليم في هذه الدول، ومساعدتها في التغلب على المشكلات الاقتصادية الناجمة عن التغيير والتحول الضروري، كما تقول نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركية «فيزتشيني» المكلفة بتنفيذ هذه المبادرات.

فإن كانت استراتيجيات أميركا واضحة بهذه الدرجة، وان كانت سياسات بوش وادارته ومحافظيه الجدد، محددة هكذا... فأين هي استراتيجياتنا وسياساتنا لمواجهة التحدي وفرض التغيير بالقوة الأجنبية الضاغطة.

الحقيقة ان الكل في مأزق ليس فقط لأنه رأى رأس الذئب الطائر في العراق، ولكن لأن الكل يدرك ان الضغط الخارجي من أجل التغيير، قد لاقى بعض التوافق - وربما الترحيب - من جانب الضغط الداخلي المجهض والمجهد على مر العقود والسنين.

ومأزق الموقف - النظام العربي الرسمي الآن أشد وطأة في ظل العجز تارة والمراوغة تارة أخرى... عجزه عن فهم التحديات الجديدة التي تطرحها أميركا الآن، وبالتالي عجزه عن مواجهة هذه التحديات وخصوصا بعدما حدث في العراق، وبقدر ما ان نجاح التدخل - الاحتلال الأميركي للعراق قد أشاع بين العامة - وخصوصا معارضي نظام صدام - الامل في التغيير والتحول الديمقراطي برعاية جيش الاحتلال، بقدر ما اعطى لباقي النظم العربية حجة جديدة للتحايل على التغيير ومراوغة اجرائه عن طريق التلويح بورقة تقول: هل تريدون ما فعلته أميركا في العراق... انه الغزو والاحتلال وعودة الاستعمار.

الغريب والمريب في الأمر ان تغيير المنطقة وتحديث المجتمعات واحلال الديمقراطية «الغربية» محل الاستبدادية الشرقية، اصبح هدفا استراتيجيا أميركيا صريحا - لانه يحقق مطالب الأمن القومي الأميركي - بينما كان المفروض، ان يصبح ذلك هدفا استرتيجيا عربيا في الاصل والاساس، لكن الواقع لم يرتق الى ذلك حتى الآن، على رغم كل مطالبات وضغوط القوى الشعبية، والسبب هو سيادة عقلية التسويف والمماطلة والترحيل والتأجيل، والتحايل والمراوغة، وصولا الى ازدراء واحتقار مطالب الشعوب بالحرية والتقدم.

الخلاصة

اننا يجب ان نتجاوز الانقسام البادي الآن بين تيارين، تيار يرى التدخل الأميركي لفرض التغيير باعتباره منحة إلهية لا نستطيع رفضها ولا مقاومتها، وتيار يرى ان هذا التدخل الأجنبي نكبة كارثية تعيدنا الى الاستعمار.

وعلى رغم ان هناك دائما طريقا ثالثا، يعرفه الجميع، فإن رضوخنا للواقع الكسول المتحايل على التقدم العاجز عن الحركة، المراوغ لكل اصلاح، يؤدي بنا الى مزيد من التراجع... كارثة!

خير الكلام: يقول الجواهري:

فذو العقيدة مشئوم ومتَهمُ

وذو المواهب محروم ومضطهد

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً