العدد 315 - الخميس 17 يوليو 2003م الموافق 17 جمادى الأولى 1424هـ

ما هي الثقافة المطلوبة بعد سقوط بغداد؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

كان حكيما سيد هذه الأمة ومعلمها الأول ومخرجها من عصر التخلف والهمجية التي بلغت حدا يئدون فيه بناتهم خوفا من العار حتى قال الله تعالى عنهم: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم) النحل: 58.

كم كان عظيما هذا النبي العربي محمد (ص) وحكيما حين دعا إلى التسامح من خلال صيحته المشهورة عندما دخل مكة فاتحا منتصرا على أعداء آذوه وآذوا أتباعه بشتى الوسائل وشتى أشكال التعذيب (من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن) وكان على رأس قائمة الذين آذوا الرسول كقائد كبير، لقد كان درسا حقيقيا في التسامح عن ألد أعدائه.

وكان الدرس الثاني في التسامح حين أطلق صيحته المعروفة في الدعوة للتسامح من خلال عبارة قصيرة ذات مغزى كبير (أكرموا عزيز قوم ذل)، ماذا تعني هذه الدعوة؟ إنها التسامح الحقيقي، إن القاسم المشترك بينهما هو التسامح وإنهاء عصر الثأر والقضاء على الفتن ليعيش البشر في أمن وسلام في عالم تسوده المحبة والود والوئام.

هذه هي الثقافة التي يحتاجها الشعب العراقي اليوم أكثر من أي شعب عربي آخر، فعندما تسود هذه الثقافة يعني أنك أمام شعب عظيم وشعب عريق له تاريخ وحضارة بل وشعب يؤمن حقيقة بلغة السلام، ويدرك جيدا أن التفكير في الثأر لا يؤدي بالشعوب إلا إلى الخراب الحقيقي.

وكل المؤشرات الأولية التي أعقبت سقوط نظام صدام تؤكد أن العالم أمام شعب عظيم وصاحب حضارة حقيقية لأننا لم نسمع عن عمليات ثارية حدثت ضد الأعضاء في حزب البعث، ولأنه شعب عظيم وواع يدرك أن معظم أتباع النظام العراقي كانوا مسيرين لا مخيرين وأنهم كانوا ينفذون أوامر طاغوت ابتلي به الشعب العراقي والأمة العربية كلها، فوضوي جاء إلى الحكم على قطار أميركي قبل أن تنتهي خدماته بعد أن تجاوز حدود اللعبة المرسومة له عندما ظن أنه بلغ في مكانته مبلغا يتم تدليله بحيث يسمح له بفعل ما يشاء وان من حقه أن يحتل الكويت كهدية مقابل هذه الخدمة الجليلة التي أداها لسادته الأميركان عندما حجم الثورة الإسلامية في إيران وفرض عليها التخلف بعد أن كانت إيران الشاه القوة الخامسة في العالم بحربه معها لثماني سنوات طوال ثقال من دون أن يدرك ان هناك خطوطا حمراء لا يجب تجاوزها مهما كانت الخدمات التي قدمها لسادته.

ولهذا فإن كان بعض القياديين العراقيين مسئولين عما اقترفه هذا القائد الفاشي المتهور الذي قاد شعبه وأمته لهذا المصير المجهول الذي نعيشه اليوم فإن معظم أعضاء الحزب والجيش الجمهوري والجنود والشرطة ما كانوا سوى آلة يقودها سائق حسب هواه، عُمي البصر والبصيرة، تبعوه إما طمعا أو خوفا أو لكليهما ففعل ربما ما لم يفعله القائد المغولي القادم من أقاصي آسيا ومن حق الأميركان على الشعب العراقي أن يقابل مغامرتهم التي زحزحت بها ذلك الجلمود الذي كان يسد مجرى نهر الحياة في العراق بالشكر والامتنان، لكن هذا الشكر والامتنان أيضا له خطوط حمراء أهمها ان تعد الولايات المتحدة بعدم إطالة البقاء على أرض العراق، وأن لا تفرض عليهم عنوة لصوصا آخرين بعد رحيل لص بغداد، وأن تنجز وعدها الذي أعلنته قبل عدوانها الذي تضرر منه الشعب العراقي قبل النظام العراقي وآثاره ومنشآته، وتترك للشعب العراقي حرية اختيار قيادته لا أن تفرض قرضاي جديد أعدته الاستخبارات الأمريكية لهذا المنصب لأن الشعب العراقي غير الشعب الأفغاني.

ولو اتبع الأمريكان هذه الروشته وقبلوا بمقترحات شريكهم توني بلير بعدم البقاء طويلا وعدم وضع بلاد عربية أو إسلامية أخرى على أجندتهم وتركوا استكمال المهمة لكوفي أنان ومؤسسته ووقفوا في عملية فرض خريطة الطريق على إسرائيل مثل الشعب الفلسطيني لظل الأميركان محل تقديرنا وشكرنا، ولكن إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء مما يهين كرامة هذه الأمة وهذا الشعب العريق، فأخرجوا المستبد العربي ليحلوا هم محله فهنا يكمن الخطر ويتحول الأميركان من منقذين إلى محتلين، ولا يغرنهم مباركة الشعب لعملهم اليوم فهذا يأتي من منطلق العذابات التي عانوها من صدام ونظامه، لكن سرعان ما يتنبهون ويقاومون هذا القادم من المحيط الأطلسي، والبدايات تنطق بذلك.

إن الشعب العراقي بحاجة اليوم إلى هضم ثقافة التسامح الإسلامي جيدا مع أولئك الذين صاروا عبيدا يسوقهم نظام صدام، فهم لم يكونوا أوفر حظا من الشعب العربي الذي خدعه دجال القرن، ولهذا يجب أن يتناسوا كل ما حدث لهم وأن يعالجوا جروحهم ويبدؤوا حياتهم من جديد وأهم جانب في هذا التسامح هو نبذ فكرة الثأر لأن الجنود والشرطة وغيرهم لا دخل لهم حتى لو قاموا بتجاوز القانون فهم كانوا تحت أوامر أشهر جلاد عرفه العصر الحديث، بل أكاد أقول إن من أعضاء حزب البعث من هم أيضا أبرياء وما حدث في العراق كان قدرهم ولا داعي لفتح كل الملفات بل يجب الاكتفاء بملفات كبار القياديين منهم إن بقي أحد منهم لم يهرب أو يختفِ ومن خلال القانون لا من خلال الثأر الشخصي، إن خروج هذا النظام من الساحة العراقية ترك آثارا جانبية خطيرة والمشكلة تكمن في كيفية القفز فوق سورها بين المثقفين والطوائف والأثنيات المختلفة، فالعراق من بلدان منطقة الخليج التي بها الكثير من القوميات وكل قومية لها ثقلها في المجتمع العراقي فالأكراد والتركمان في الشمال والشيعة في الجنوب والسنة في بغداد وبينهم طائفة مسيحية وحتى يهودية عريقة ذات جذور تاريخية لا يمكن تناسيها وإسقاطها من الحساب.

ومن بين هذه التركة الثقيلة كيفية إعادة الحياة وبشكل يسودها توزيع الدخل العادل على الشعب وإنهاء مكتسبات ومميزات عناصر كانت تشكل ما لا يقل عن 25 في المئة إن لم تكن أكثر ممن كانوا من أزلام النظام.

فقد فرض العدوان العراقي على الكويت الاستعانة بالأميركان والغرب في الوقت الذي كانت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي رفضت وبكل إصرار الموافقة على تأجير مجرد قاعدة على الأميركان قبل غزو صدام للكويت في أغسطس/ آب 1990، ومن بين هذه التركة الثقيلة التي يكاد يصعب حلها هي تلك المجلات والصحف والفضائيات التي اشتراها والأفلام المأجورة التي سخرها لخدمة النظام العراقي والتطبيل له وتضليل الرأي العام العربي، وللأمانة فقد كان كريما عليها وعلى مأجوريه ولكن على حساب سكان بيوت الصفيح في الجنوب وبؤس الشعب العراقي من هم خارج دائرة عملاء النظام.

وأصحاب هذه الأقلام والمجلات بينهم عناصر قديرة يملكون طاقات ثقافية وبعضهم صاحب حس قومي وقدرات فكرية لكنهم خدعوا أنفسهم فسقطوا في وحل التعاون مع شرير فاشي وهم يدركون مع سبق الإصرار أنه كان أكثر الحكام العرب استبدادا فأوهموا أنفسهم بأنهم يتعاملون مع قيادي قومي جاء ليملأ فراغ عبدالناصر رحمه الله، ولهذا أرى أنهم (أعزاء قوم ذلوا)، فيجب إكرامهم أو على الأقل تناسي خطاياهم فمعظمهم طاقات ثقافية لا يجب أن ننتقم منهم وكذلك الكثير من المواطنين من أعضاء حزب البعث يجب أيضا تجاوز خطاياهم ما داموا لم يبلغوا من الإجرام ما يستدعي محاكمتهم فهم أيضا (عناصر تم تضليلهم) فهؤلاء وأولئك ضحايا لهذا المستبد الذي رحل وجعلهم شماتة و(حجوه) في لسان البشر، مع الاعتذار للفنان عبدالله رويشد.

ولهذا فإنه لا مخرج للشعب العراقي سوى التمسك بثقافة التسامح، وعفا الله عمّا سلف، والتأقلم مع الحياة الجديدة وترك الانتقام من كل ظالم لليوم الذي لا يتسامح صاحبه مع أي مجرم، يوم لا تنفع فيه الرشا، ويوم لا يتجاوز الإنسان الخط الفاصل بين الجنة والنار إلا من أتى الله بقلب سليم.

وعلى الشعب الكويتي أيضا أن ينظر إلى الشعب العراقي والشعب العربي بل وربما حتى لهؤلاء المثقفين الذين سقطوا في مستنقع قذر بخدمتهم لهذا الطاغوت بنظرة جديدة ويتسامح مع ما اقترفوه من خطأ التقويم ووقوفهم مع مستبد (فاشي حاول تزييف التاريخ برفع شعار من أجل الوحدة العربية)، وعندما تأتي الوحدة العربية على حساب تشريد شعب عربي اصيل ومعطاء فهذا يعني أن المقتنعين بهذا الرأي ما هم إلا كالأنعام وأشد ضلالة منها.

إن الشعب الكويتي وقيادته الحكيمة - كما يبدو - أبديا تسامحهما من خلال حسهما القومي الأصيل من دون تردد في دعم كل ما يصب لصالح الأمة العربية وما يفعله الشعب الكويتي وحكومته في تقديم كل تلك المساعدات للشعب العراقي على رغم أن هناك أصواتا شاذة ظهرت هنا وهناك في الصحافة العربية بل وحتى الخليجية أثارت غضب الشباب الكويتي على مواقف من أعمتهم بصيرتهم من الوقوف مع الحق الكويتي الواضح كالشمس فطالبوا بإيقاف المساعدات التي كانت تذهب إلى من لا يستحقها.

لقد أكد أكثر من مثقف كويتي وأكثر من مسئول كويتي كان آخرهم تصريح وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد عندما أعلنها صراحة ومن دون أي تردد: نحن لا نستطيع أن ننسلخ من جسمنا العربي، عكس ما فعله الأخ معمر القذافي الذي انسحب من الجامعة العربية وسلخ نفسه من عروبته والتحق بالاتحاد الافريقي ونسي أن قدره وقدر الشعب الليبي أن الله خلقهم عربا ويضطر شعبه أن يظل عربيا كما قال اللواء محمد عبدالوهاب:

عربا كنا ونبقى عربا.

ومهما حدث من أخطاء فلا أحد يستطيع أن يتهرب من قدره، وكان الأحرى به وبغيره البحث عن حل للخلل العربي بدلا من الهروب من واقعه وإبداء العجز ليريح نفسه عناء المشاركة وهذا داء الضعاف وعادة المتهربين عن تحمل المسئولية.

يكفي ان تعرف قول دبلوماسي مخضرم مثل السفير الكويتي لدى البحرين (أبو مشاري) الذي قلت له وأنا في مكتبه بالسفارة لا يجب مؤاخذة الشعب العربي بما فعله بعض السفهاء من الكتاب أو بعض المثقفين العرب الذين يعملون في المجال الإعلامي ويستخدمون أقلامهم بما يسيء للعلاقة بين الشعبين، ابتسم وقال: من قال اننا لا ندرك ذلك، ثم من قال اننا نتأثر بفعل بعض السفهاء من المثقفين الذين جرفهم التيار مع المخدوعين وانبهروا بنظام مستبد سقط في النهاية وكشف أوراقه للأمة؟ كيف أنه هو وحوارييه تركوا سفينة المقاومة العراقية بعد أقل من عشرين يوما نهبا للرياح لتغرق ونجوا بأنفسهم من خلال صفقة مشبوهة أو كابروا بعدم قبول دعوة عدد من القياديين الخليجيين بالتنحي قبل دك بغداد ممن وجدوا أن الرضوخ للواقع وعدم القفز فوق سور المنطق فضيلة. وقد أثار إعجابي ذلك الحس القومي الذي تعودناه فيهم منذ أيام الزمالة في القاهرة خلال الستينات بعد إساءة عدة من الإعلاميين العرب للكويت ومن بينهم بعض كتابنا في البحرين عندما قال (لا يعتقد أحد أن هناك من هو أعز على قلب المواطن الكويتي من أشقائه في البحرين ولهذا فإنني أجد أن علينا واجبا قوميا مع عدد من الدول الخليجية ذات الإمكانات الاقتصادية القيام بمزيد من دعم الشعب البحريني بل والمشاركة حتى في حل أزماته وخصوصا أزمة البطالة، ولهذا فإن الكويت قد فتحت المجال أمام كل مدرس بحريني يرغب في الالتحاق بالتدريس في الكويت براتب لا يقل عن (520 دينارا كويتيا) وسنحاول قبول زوجته أيضا في التدريس إن كانت لديها شهادات تؤهلها لذلك.

وأضاف بو مشاري «الحل الحقيقي في نظري أن نشارك بمزيد من الدعم لإخواننا في هذا البلد العزيز على قلوبنا في مجال التنمية من خلال قنوات غير بناء المدارس والمراكز الصحية فحسب، بل باستكمال المشروعات التي تم البدء فيها ولم تستكمل مثل مستشفى المحرق»، وأضاف: «لقد استجابت حكومتنا من دون أي تأخير بعد أن كشفت لها ضرورة المشاركة في بناء مكتبة الشيخ عيسى وقدمت مليون دينار كويتي كدعم لهذا المشروع، وقال إن هذا أراه واجبا يجب ألا نتساهل فيه، فشعب البحرين جزء من الشعب الكويتي وأي تساهل في دعمه معناه تساهل في واجب آليناه على أنفسنا حكومة وشعبا ألا نتأخر عنه على الإطلاق»، ومما زاد من إعجابي لهذا الفكر الناضج وهذه الروح الطيبة المتسامحة عندما قال: «إنني أرى ضرورة ان يكون لنا دور في تخفيف أزمة البطالة في البحرين من خلال الوسائل المتاحة للكويت مثل دعوتنا لاستقبال من يرغب في مجال التدريس وحتى غير التدريس إن تمكنا من الحصول على فرص لهم في مجالات أخرى».

أَبَعْدَ هذا يستحق الشعب الكويتي غير الوقوف إلى جانبه وجعله دائما- كما كانوا- في سويداء قلوبنا وفي عمق عيوننا، ألم تتضح الصورة بعد عند بعض الذين فضحونا بوقوفهم مع مستبد تبخر فجأة وذهب مع الريح ولم يصمد هو وجيشه حتى عشرين يوما؟! ترى ما رأي ذلك الزميل الذي صار يحرض الناس في محاضراته ضدهم ويؤكد أن الضربة الأولى خلال العدوان على العراق سيذهب أكثر من 300 ألف قتيل و 200 ألف جريح إضافة إلى آثار جانبية تنعكس على 200 ألف مواطن عراقي، وددت لو أسأل الزميل بعد أن تبخرت القيادة العراقية واستسلم الجيش الجمهوري وغير الجمهوري كم بلغ عدد القتلى والجرحى يا سيدي الزميل؟

ألا يكشف مثل هذا المنطق ومثل هذه الفلسفة ومثل هذا الحماس من قبل أناس وأعين ومدركين لما يجب أن تكون العلاقة عليه ولما يجب أن تتم المشاركة في البحث مع الجهات المسئولة عن حل لأزمات هذا الشعب على رغم ظهور طابور من المسيئين الذين عميت أبصارهم من أن يروا الحقيقة خارج ضباب التضليل وخارج ضباب الادعاءات الكاذبة وخصوصا بعد ان انكشفت الأوراق كلها، بتسليم العراق على طبق من ذهب للجيش الأميركي من خلال تمثيلية مكشوفة، لقد آن الأوان أن يعترف بها من لا يركب رأسه من المثقفين ولا تأخذه العزة بالإثم ويواصل عناده بحجة أن الصورة لم تتضح بعد، كيف حدث ذلك؟ وماذا جرى؟ وأين اختفت هذه القيادة المبجلة؟

ونحمد الله أننا أمام قيادة وشعب عربي خليجي أصيل يؤمن بثقافة التسامح وثقافة المودة، وهذا ما يجب أن يسود أيضا ثقافة الشارع العراقي المتمثلة في نسيان الماضي بكل سوداويته وعذاباته والبدء بحياة جديدة يسودها التفاهم بين كل المواطنين العراقيين ليعود العراق العظيم كما يحكي عنه تاريخه العريق

العدد 315 - الخميس 17 يوليو 2003م الموافق 17 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً