العدد 2605 - الجمعة 23 أكتوبر 2009م الموافق 05 ذي القعدة 1430هـ

ثقافة «الأفكار النمطية»

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

المقصود بالأفكار النمطية، تلك الصيغ التي تشيع بين الناس بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمهم لفحصها وتمحيصها وعرضها على «العقل» و «المحصول المعرفي» لرفضها أو قبولها.

و»الأفكار النمطية» ظاهرة إنسانية - بمعنى أنها توجد (بدرجات مختلفة) في كل المجتمعات - وإن كان ذلك «الشيوع» أو «الذيوع» لا يمنع من وصفها بأنها «ظاهرة إنسانية سلبية».

ففي الغرب، عشرات «الأفكار النمطية» عن المجتمعات والحضارات والثقافات الأخرى. ولدينا أيضا الكثير من هذا الفيض من الأفكار التي يكررها الناس لا لسببٍ إلا لشيوعها وذيوعها.

والذي يحضني على وصف هذه الظاهرة بأنها وإن كانت «إنسانية» إِلا أنها «سلبية» أنها ظاهرة تعمل لصالح «النقل» (وهو الوقود الأكبر لها) وتعمل في نفس الوقت ضد مصلحة العقل (وهو الذي كان يستوجب عرض تلك الأفكار عليه وعلى المحصول المعرفي (من تراكمات العلم والتجربة الإنسانية) للرفض أو القبول.

وفي اعتقادي أن الإنسانية لن تتخلص بشكلٍ مطلقٍ من «الأفكار النمطية» ولكن بوسعها أن تحد من ذيوعها. وفي تصوري أن أهم مصادر استفحال حجم وعدد وتأثير «الأفكار النمطية» هي أربعة مصادر أساسية.

أما المصدر الأول فهو عدم وجود محصولٍ معرفي ثري ومتعدد الجوانب وعصري.

وأما المصدر الثاني فهو عدم شيوع «الحوار الحر والمتواصل» بصفته - في ظني - أكبر أعداء «الأفكار النمطية».

وأما المصدر الثالث فهو عدم خروج (عولمة إنسانية) من رحم إرهاصات العولمة الحالية والتي تقف على أرضية «اقتصادية/ سياسية» أكثر بكثير من وقوفها على أرضية «إنسانية/ ثقافية».

وأما المصدر الرابع فهو التواجد نفسيا في حالة دفاع عن النفس متفاقمة - وسأحاول إلقاء بعض الضوء على تلك المصادر الأساسية وعلى الأدوات الفكرية التي أظن أنها ذات قدرة عالية وفعالية كبيرة في «تحجيم» و»تقزيم» «ثقافة الأفكار النمطية».

أما المصدر الأول من مصادر شيوع «ثقافة الأفكار النمطية» فهو اتسام المحصول المعرفي لأفراد أي مجتمع بوجه عام وأعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة بوجه خاص إما بهزال التكوين أو بمحلية التكوين أو بعدم الاتساع الأفقي للتكوين - وهي كلها عناصر تجعل العقول غير مزودة بالآراءِ الأخرى العديدة المحتملة في كلِ حالة. وقد يكون حتى أعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة أصحاب محصول معرفي لا بأس به ولكنه قد يكون من جهةٍ «محصولا تقليديا» أي لا يضم مستحدثات المعرفة ولاسيما في العلوم الاجتماعية... وقد يكون محصولهم المعرفي لا بأس به ولكنه إما مغرق في الماضوية (بقرونٍ) أو نسبي الماضوية (بعقود) - فما أكثر المثقفين (لا سيما في العالم الثالث) الذين ينتمي محصولهم المعرفي لعقد الخمسينيات والستينيات أكثر من انتمائه للزمن الآني.

كذلك قد تحول ظروفٌ عديدة دون اتسام محصولهم الثقافي بالتخلي عن الإغراق في المحلية والإبحار في ما وراء حدود ذلك. كذلك قد يكون المحصول المعرفي ثريا في جوانبٍ ومفتقرا لجوانبٍ عديدةٍ لا سيما من جوانب العلوم الاجتماعية الأحدث.

وهكذا يتضح أن وجود محصولٍ معرفي (لأفراد أي مجتمع بوجه عام ولأعضاءِ النخبة المتعلمة والمثقفة بوجه خاص) متسم بثراء التكوين وعدم الاستغراق في المحلية والاتساع الأفقي بما يعنيه من ضم مناطق جديدة من مناطق المعرفة هي عوامل تجعل العقل أكثر تحصنا (بشكل نسبي) من المجاراة الكاملة (أو شبه الكاملة) لصيغ الأفكار النمطية - إذ يكون متاحا لهذا العقل التعرف على بدائل فكرية قد تكون (عند التمحيص والمفاضلة) هي اختياره عوضا عن ترديد ما لا قوة دفع له في الكثير من الحالات إلا الشيوع والذيوع والإنفراد بالساحة.

وأما المصدر الثاني من مصادر شيوع «ثقافة الأفكار النمطية» فهو عدم قيام الحياة التعليمية والثقافية والإعلامية على أساس متين من ثقافة الحوار (الديالوج).

فكلما كانت أساليب التعليم على درب التلقين واختبارات الذاكرة وكلما كانت العلاقات في دنيا التعليم بل وفي المجتمع بوجه عام هي علاقات تقوم على المنولوج (أي مرسل ومستقبل) ولا تقوم على الحوار (الديالوج) فإن شيوع الأفكار النمطية يجد مناخه الأمثل، إذ أن «المنولوج» هو أداة انتقال وشيوع وسيادة الأفكار النمطية. والعكس صحيح: فالحوار (الديالوج) هو أداة تحجيم فرص شيوع الأفكار النمطية.

وأما المصدر الثالث من مصادر شيوع «ثقافة الأفكار النمطية» فهو أن أنصار ودعاة العولمة لم ينجحوا بعد في تحويلها من ظاهرة تقف على «أرضية سياسية/ اقتصادية» إلى ظاهرة تقف (في الوقت نفسه) على «أرضية إنسانية/ ثقافية». فلا تزال مفاهيم العولمة بحاجة ماسة لبعد إنساني وبعد ثقافي يجعلها في عيون أبناء العالم غير المتقدم أقل توحشا وأقل قابلية للفتك بمجتمعاتهم (سواء كان الفتك هنا سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا).

وأما المصدر الرابع من مصادر شيوع «ثقافة الأفكار النمطية» فهو وجود مناخ ثقافي ونفسي عام متسم بالرغبة الملحة في الدفاع عن النفس. فالشعور بالإنجاز وصنع التقدم يعطي أبناء أي مجتمع رغبة أقل في أمرين: الأول هو الدفاع عن الذات، والثاني هو إلصاق تهمة عدم الإنجاز والتقدم بالآخرين.

ونحن هنا أمام مصدرين كبيرين ليس فقط من مصادر الشعور القوي بالرغبة في الدفاع عن النفس بل والإمعان في الإيمان بنظرية المؤامرة. ويخلق هذان العاملان مناخا أمثل للأفكار النمطية، إذ تكون الأفكار النمطية عادة في خدمة درء الشعور بلوم الذات (عن عدم الإنجاز والتقدم) وتفعيل عملية الدفاع عن الذات وإلقاء مسئولية الأوضاع (أوضاع عدم الإنجاز وعدم التقدم) على «الآخرين».

وإذا كانت تلك - في تصوري - هي أهم مصادر شيوع ثقافة الأفكار النمطية، وإذا كان القضاء المبرم على الأفكار النمطية مستحيلا (لوجودها في كل المجتمعات بنسب متفاوتة) فإن أدوات التعامل مع هذه المصادر تبقى واضحة وإن كانت نسبية الأثر.

وهنا، فإنني أعتقد أن المهمة الكبرى منوطة بالتعليم (البرامج والفلسفة والمعلم والمناخ التعليمي العام)، إذ إنه القادر على بذر قيمة «التعددية» من جهة وقيمة «العقل النقدي» من جهة ثانية وقيمة «العقلانية» (أي عرض الأفكار على العقل من جهة ثالثة) - وكلها أدوات تحد من إمكانية سيادة ثقافة الأفكار النمطية. إلا أن دور وسائل التثقيف والإعلام أكثر جدوى على المدى القصير والمتوسط: فهي القادرة على فضح تهافت ثقافة الأفكار النمطية وخلوها من الحجة والمنطق - وإيضاح الصلة بينها وبين عيوب أخرى في التفكير مثل «ظاهرة الكلام الكبير» و «المغالاة في مدح الذات» و»الإيمان المتطرف بنظرية المؤامرة» - إذ إن هناك علاقات جدلية لا شك في وجودها بين كل تلك الظواهر الفكرية السلبية.

* باحث وأكاديمي مصري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2605 - الجمعة 23 أكتوبر 2009م الموافق 05 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً