العدد 325 - الأحد 27 يوليو 2003م الموافق 28 جمادى الأولى 1424هـ

الجـامعة والدور المتحول

الوسط - محرر الشئون الجامعية 

27 يوليو 2003

يتميز عمل محمد جواد رضا بعمق الرؤية، وسعة التقصي، وبالاتكاء على منهجية بحث تتسم بالتماسك في أبعادها كافة، لا سيما في بحثه الخاص بالقضايا التربوية في بعدها المتمثل في التعليم العالي/ الجامعي، وفي إلماحاته وإشاراته العديدة بضرورة تشييد نوع من العدالة الاجتماعية المفقودة منذ القدم بين تربية العامة، وتربية الخاصة، لإزاحة الضيم التاريخي المتقادم الذي مزق الكيانات والنظم الاجتماعية إلى علية وسفلة، ما خلق حالة من التفسخ، وقلل سانحات الفرص لدى فئة معينة دون أخرى، إننا نراه دائما تواقا لما يسميه «تربية الأمل» التي تحدق في ملكوت المستقبل، بشروط تأخذ بأسباب العلم، وبمنطقية التفكير المتجدد الذي يعتمد الجوانب الإبداعية والابتكارية. ولهذا السبب يلح «رضا» في معظم أطروحاته على كون التأسيس القوي الذي يستلهم ما توصل إليه العقل البشري في المجال التربوي والتعليمي، قمين بتحرير هذه الذات والمؤسسة سواء بسواء، والتي تعيش في زمن، وتنتمي لآخر، وتلتاع لزمن غير الحاضر، كأحد الاقتراحات المسهمة في تجسير الهوة التي تتجاوز حسابا 3 قرون على أقل تقدير، بين عالمين أحدهما متطور، وآخر لا يزال محاصرا بأسئلة، وبعقلية جرى تجاوزها، وإثبات عدم أهليتها لأن تكون منتجة، بل ومنفتحة.

وسيجد قارئ كتابه «تربية العامة... تربية الخاصة» (2003م) ما يؤشر بوضوح على سعة علمه، واطلاعه، وطريقة بحثه التي تعتمد على تقديم لمحة تاريخية تصل الماضي بالحاضر كاستشهاد وتدليل فحسب، وذلك في سبيل اقتراح تصورات ورؤى منهجية تنظر إلى المستقبل، انطلاقا من معطيات الحاضر، ومثالبه.

ينظر رضا إلى المستقبل مستفيدا من درس الماضي، ومأخوذا بالمنجزات المتحققة واقعا، آملا في إدغامها أو تحريكها لتكون فاعلة ومحركة في النهوض بالمؤسسة التربوية التي يبحث فيها، سواء كانت مدرسة، أو جامعة، أو نظاما تعليميا.

فهو حين يبحث في مسألة الجامعة - أحد محاور الكتاب الرئيسية - نجده معنيا بالدرجة الأساسية في استنطاق الأدوار والوظائف التي قامت بها، وتقوم بها حاليا، وما ينبغي أن تقوم به استنادا على قراءة وفرز المعطيات العامة لما يعتمل في الساحة العالمية من نماذج راسخة القدم من جهة، لكنها تسير خطوة بخطوة مع سلسلة التطورات والانفجارات العلمية والمعرفية، وتكون دائما هي السباقة لا في إحداث حراكها الداخلي، وتطوير منظومات علمها، ولكن في قدرتها على تحريك ما حولها، برفده، وتقويته. لذلك نراه ينتقد في أكثر من سياق كون التعليم العالي قد انتقل وظيفيا من كونه إحدى المهمات الرئيسية التي لا بد وأن تضطلع بها الدولة - وهو ما يرصده في معظم البلدان العربية التي قلصت موازنات التعليم - إلى مشروع يأخذ في حساباته الربحية والخسارة، ويؤسس لطبقة اجتماعية معينة، لتتقلص من ثم سبل وطرائق الترقي في المجتمع لمصلحة فئة معينة قادرة على تعليم أبنائها في هذه الجامعة الخاصة أو تلك... وبهذا المعنى فإن رضا يراهن في جل ما يطرح على أهمية هذا البعد، كونه يسهم إسهاما جليلا في نمو الأفراد والأوطان وتطورها، انطلاقا من كون الجامعة قائدة البناء العقلي والأخلاقي للمجتمع، لذلك فهو يشدد على مسألة البعد القومي في التعليم الجامعي بوصفه أولوية وطنية، دون أن يصادر حق الاستثمار في هذا الجانب، ولكن ليس بإطلاق.

ويرى رضا في معرض تنقيبه في هذا الدور/ الأدوار أن الجامعة العربية منبتة الصلة مع ماضيها العلمي، وكذلك مع حاضرها المتطور، وذلك من خلال إهمالها تدريس علم المعرفة عند العرب والمسلمين، ووقوفها راضية مرضية دون تطوير إزاء التحولات الجارية في العالم... وكلا البعدين - كما يقول رضا - يوضحان بجلاء أن المعرفة في صيغتها القديمة، وفي صيرورتها الحالية هي نتاج تجاذب وتلاقح وتفاكر بين مزيج من الثقافات، دون وجود رؤية انغلاقية تتحكم في المشهد العام، كما نجده يعيب على الجامعة العربية الوقوف مكتوفة أمام ثورة تداخل الاختصاصات، وشح الجوانب التطبيقية، علاوة على عدم تواصلها مع الدور الرئيسي الثالث للجامعة، وهو خدمة المجتمع الذي يعني تحويل أو تخليص المعرفة من أطرها المتداولة داخل القاعات والمعامل إلى أفعال.

ويؤكد رضا في سياق آخر بشكل جازم الدور الذي لا بد أن تقوم به الجامعة كونها تمثل أعلى مراتب الشأن التربوي، وتقع في الخط الأمامي للمواجهة مع هذا الانفلات العلمي الرهيب، ومع ما يدور عالميا... يؤكد ما يسمى بالحق الأكاديمي الذي هو الخلاصة السعيدة لعمل أية جامعة، وهذا الحق الأكاديمي تتمثله ببساطة عبارة «البحث عن الحقيقة وإذاعتها وتعليمها».

تلك هي صورة الجامعة التي يدعو إليها «رضا»، إنها صورة جذابة، لكنها في الوقت نفسه مؤلمة، لجهة التباعد الحاصل بين عالمين يلتقيان قليلا، ويتباعدان كثيرا، وما تقدم أحد علائم التباعد الرئيسية

العدد 325 - الأحد 27 يوليو 2003م الموافق 28 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً