العدد 369 - الثلثاء 09 سبتمبر 2003م الموافق 13 رجب 1424هـ

التونسيون والشيعة... من الدولة الفاطمية إلى المسألة العراقية

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

«التونسيون والشيعة» عنوان هذا المقال مثير للمخاوف، لهذا ترددت كثيرا قبل استعماله أو التطرق إلى موضوعه. فكل ما من شأنه أن يحرك النزعات الطائفية، التي لاتزال للأسف كامنة في ثقافتنا الشعبية ووجداننا التاريخي، يعتبر لعبا بالنار وتهديدا مباشرا لمقومات الوحدة. لكن في المقابل لا يجوز القفز فوق المشكلات إذا كانت قائمة فعلا، وإن التصدي لها بجدية ووعي هو السبيل لحلها وتفكيك الألغام المرتبطة بها.

إن الشيعة جزء حيوي من تاريخ الأمة وحاضرها، ولم يعد ممكنا، منذ قيام الثورة الإيرانية على الأقل، الاستمرار في إغفال دورهم ومطالبهم المشروعة. وقد توالت الحوادث والتطورات على أكثر من صعيد لتؤكد ذلك بشكل قطعي، آخرها ما يجري في العراق المهدد في وحدته ووجوده. هذه التطورات التي يتابعها التونسيون بألم وذهول وبكثير من الأفكار المسبقة والإسقاط الخاطئ الذي لن يزيد الرؤية إلا غبشا ولن يزيد الصورة إلا تعقيدا.

كل من يزور تونس، يكون من المفيد أن يتوجه إلى مدينة «المهدية». ولا تكمن أهمية هذه المدينة الساحلية في جمالها الطبيعي، ولكن أيضا في الدور التاريخي الذي قامت به، إذ كانت عاصمة الدولة الفاطمية التي أقامها الشيعة بعد عمل طويل ومضنٍ من محاولات نشر دعوتهم في منطقة شمال إفريقيا. ومن هذه المدينة توجه المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر لكي يساهم بقدر كبير في بناء مدينة القاهرة. لكن رحيله عن تونس لم يكن فقط رحيلا سياسيّا وإنما استتبعه مباشرة رحيل مذهبي، إذ سرعان ما استرجع السنة المالكية مواقعهم، وقضوا على جميع مظاهر التعددية المذهبية التي كانت تتميز بها كثير المدن التونسية. وللأسف كانت خاتمة تلك المرحلة دموية مثلها مثل الكثير من محطات الانتقال السياسي والمذهبي في تاريخنا الإسلامي.

إلى أن جاءت الهزة الإيرانية

منذ ذلك التاريخ، غاب من ذاكرة التونسيين أي حديث عن الشيعة إلا داخل أوساط المختصين، على رغم استمرار حفاظ الشارع العريض بعادات موروثة عن المرحلة الفاطمية. ولم يستأنف الجمهور الخوض في هذه المسألة إلا بعد انتقال الإمام الخميني من باريس إلى طهران مؤذنا بنهاية أقوى نظام في منطقة الشرق الأوسط. لم تكن الثورة الإيرانية فقط حدثا سياسيّا استثنائيّا، بل شكلت أيضا هزة قوية للوجدان الشيعي ورجة شديدة للغالبية السنية في داخل العالم الإسلامي وخارجه. في تلك اللحظة الحاسمة من سنة 97 أخذ التونسيون يسألون شيوخهم ومثقفيهم وساستهم عن الشيعة: من هم؟ هل هم مسلمون؟ هل حقا يعتقدون بأن عليّا كان أولى بالنبوة من محمد (ص)؟ وبماذا يختلفون عن بقية المسلمين؟ ومن أين استمدوا كل هذه القوة المعنوية التي مكنتهم من إنجاز ثورتهم؟ وكانت تلك الأسئلة، على بساطتها وسذاجتها أحيانا، كاشفة عن حجم الجهل في جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة وثقافتها، ولكن في الآن نفسه حملت في طياتها بداية وعي جديد بالذات، وإدراكا بأن وحدة المسلمين قائمة على قدر واسع من التعددية ومشروطة بتعايش عميق بين مختلف مكوناتها.

حتى الحركة الإسلامية التونسية الإخوانية النشأة والتكوين، فوجئت بدورها بالصعود السياسي والايديولوجي للشيعة، وكادت أن تتورط في ردود شبيهة بتلك التي صدرت في البداية عن حركات إسلامية سنية، لكنها سرعان ما حاولت أن تتعامل مع الثورة الإيرانية بشكل برغماتي يعزل السياسي عن المذهبي، وكانت بحكم عوامل داخلية من أول الحركات السنية التي اندفعت إلى تأييد الثورة ممثلة فيما عرف بـ «خط الإمام». كما وجدت نفسها مدعوة إلى أن توفر لكوادرها وأنصارها أدبيات سريعة وعامة عن الشيعة، بعد أن كانت برامجها التكوينية خالية تماما من هذا البعد. وازدادت العملية تعقيدا، عندما تأسست نواة شيعية في الجنوب التونسي، حاولت أن تستفيد من نجاح الثورة، وبتشجيع من بعض الجهات الإيرانية والعراقية، في الترويج للمذهب الشيعي داخل الأوساط الشعبية وطلاب المدارس، بما في ذلك استقطاب عناصر تابعة أو موالية لحركة الاتجاه الإسلامي، ما خلق حالا من الصراع كادت أن تؤدي إلى فتنة سواء في تونس أو بعض الدول العربية الأخرى، لكن الأمر سرعان ما تم تطويقه، إذ بادر بعض علماء شيعة إيران إلى التحذير من الخلط بين فلسفة الثورة وبين تحويلها إلى مدخل لتصفية الحسابات التاريخية بين السنة والشيعة.

ومن اللافت إلى النظر أن السلطة في عهد الرئيس بورقيبة، حاولت من جهتها أن توظف هذا البعد في معركتها ضد الحركة الإسلامية المحلية. وعلى رغم أن هذه السلطة ترتكز على خطاب علماني، فإنها اعتبرت ظاهرة الإسلام السياسي غريبة عن البيئة التونسية، التي بحسب اعتقادها أن «من خصائصها التجانس الذي فرضته الأشعرية في العقيدة والمالكية في الفقه والتصوف الطرقي في التربية».

التونسيون أصبحوا أكثر اعتدالا

بعد مرور أكثر من عشرين عاما على هذه الحوادث، يمكن القول إن موقف التونسيين لم يعد معاديا للشيعة أو متحاملا عليهم، لكنهم لايزالون مختلفين بشأن تقييم دورهم في هذا الحدث السياسي أو ذاك. فعموم المثقفين ورجال السياسة رافضون لمقولة ولاية الفقيه التي يعتبرونها متعارضة مع المنظومة الديمقراطية وخصوصا في جانبها المتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان. كما أن جزءا واسعا من الرأي العام يتعامل بقلق مع ما يحدث في إيران حيث يمر الحلم الثوري الكبير بحال تقلص متسارع.

وفي المقابل، هناك إعجاب بالدور النضالي لحزب الله في جنوب لبنان، إذ يحمل التونسيون عنه وعن قيادته انطباعا إيجابيّا، وخصوصا بعد اضطرار «إسرائيل» إلى الانسحاب والتراجع تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية التي شكل الحزب طرفا رئيسيّا فيها.

ثم جاءت حوادث العراق بمفاجآتها وأهوالها لتجعل التونسيين يدركون أن موضوع الشيعة ليس موضوعا إيرانيّا فقط أو مرتبطا بها، وإنما هو أيضا جزء حيوي من التركيبة السياسية والثقافية العربية. لقد تابعوا بذهول تلك المسيرة المليونية التي قام بها شيعة العراق نحو العتبات المقدسة بمناسبة عاشوراء، وإذ صدمتهم مشاهد اللطم والدماء التي ركزت عليها وسائل الإعلام، فإنهم علموا بحجم الإقصاء والتعسف اللذين تعرض لهما شيعة العراق منذ العهد الملكي وفي ظل حكم حزب البعث، على رغم أنهم يشكلون غالبية الشعب العراقي. غير أن السياسيين وكتاب الصحف والمتابعين للشأن العراقي لايزالون يتساءلون منذ أسابيع عن الأسباب والدوافع التي جعلت القيادات الشيعية أو غالبيتها الواسعة تتبنى المقاومة السلمية للاحتلال الاميركي، ولا ترى مانعا من التفاوض مع أجهزته العسكرية والسياسية أو المشاركة في الهياكل التي أوجدها أو زكاها مثل «مجلس الحكم الانتقالي».

الحالة العراقية مربكة ومعقدة

يعود هذا الارتباك في فهم خلفية مواقف الأطراف الشيعية إلى تعقد الوضع العراقي من جهة، وعدم وضوح استراتيجية هذه الأطراف سواء فيما يتعلق بخطط معالجة المستجدات، أو بالنسبة إلى مستقبل العراق والمنطقة. فالشيعة يجدون أنفسهم منذ قرون خلت لاعبين رئيسيين في تحديد هذا المستقبل بكل ملابساته وتعقيداته. لهذا لم يكن غريبا أن يقع اغتيال آية الله محمدباقر الحكيم بتلك الشراسة والقوة، وذلك بقطع النظر عن هوية الجهة التي خططت ونفذت. حتى الإدارة الاميركية الحالية التي حولت صدام حسين إلى الشجرة التي تخفي الغابة، فوجئت بهذا الدور السياسي المتصاعد للشيعة في المنطقة، ووجدت نفسها غير مهيأة أو مؤهلة للتعامل مع رموزهم وطموحاتهم في ظرف إقليمي يتسم بالتفكك وتعدد دوائر الفراغ. وما يقال عن دور إسرائيلي خطير داخل العراق يجب أخذه بكثير من الجد والمسئولية.

الخط الفاصل بين التعددية والطائفية

ما يمكن أن يقال عن التونسيين ليس سوى مثال مصغر لما هو مشترك بين شعوب المنطقة ونخبها. وما يتعلق بالشيعة لا يخصهم لوحدهم، فهم جزء حيوي من أمة تتهددها مخاطر التفكك والاختراق من كل جهة. لهذا بقدر ما يتحمل زعماؤهم ومراجعهم مسئولية دقيقة في حسن التعامل مع هذه المرحلة المليئة بالألغام والتهديدات، بقدر ما يجب على بقية القيادات السنية والكردية والتركمانية والأمازيغية في منطقة المغرب العربي والقبطية في مصر، ومختلف الفرق المسيحية في لبنان والشام، تعزيز التعاون الوثيق والصادق من أجل عدم تحويل حق التعدد الطائفي من عنصر إثراء وقوة للأمة إلى حقل ألغام يفجر كياناتها القطرية جزءا بعد جزء. من هذه الزاوية تعتبر محاصرة المتطرفين المذهبيين ودعم التعاون السني الشيعي داخل العراق وخارجه صمام أمان ليس فقط لحماية دولة العراق من التفكك والزوال، ولكن أيضا لتأمين مستقبل الأمة والمنطقة.

العدد 369 - الثلثاء 09 سبتمبر 2003م الموافق 13 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً