العدد 369 - الثلثاء 09 سبتمبر 2003م الموافق 13 رجب 1424هـ

ضياع المواطن بين السياسيين

لغة الجمعيات السياسية بحاجة إلى نضج

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

في المنعطفات التاريخية لأي شعب يكون الوطن بحاجة إلى أبنائه، وفي مرحلة تقرير المصير ليس مسموحا لفئة قلّت أم كثرت أن تأخذ لنفسها حق الوصاية والقرار أو تنوب عن الآخرين لأن المصلحة الوطنية ستكون بالتساوي للجميع.

إننا نمر بمثل هذا المنعطف التاريخي، وشاءت الجمعيات السياسية أم أبت وسواء تحتفظ ذاكرتها أم لا تحتفظ، علينا أن نعترف بأن تغيرات حدثت على يد جلالة الملك، وهذا من نافلة القول ذكره وتكراره، ولولا ذلك لما قامت هذه الجمعيات أصلا ولما استطاعت أن تنطق بهذه الحرية وبهذه الشفافية.

فهذا حق من الحقوق وتأخّر حصوله و لكن كما تقول مسرحية (في انتظار جودو) «أن يأتي جودو ولو متأخرا خير من ألا يأتي».

لكن هذه الحرية وهذه الشفافية وهذه الإصلاحات وإن كنا في انتظار المزيد، فإنه لا يسمح للجمعيات أن تزايد وتجيش وتهول وتستعدي الشارع من أجل فرض استكمال البقية من خلال المواجهة الساخنة.

وفي اعتقادي أن القيادات السياسية لهذه الجمعيات حتى وإن كان معظمهم خارج البلاد واستقرّ بها المُقام هنا أوهناك ولم يعانوا ما عاناه من بقي ملتصقا بالأرض وما شاهده من مآسٍ وخصوصا في سنوات المواجهة الساخنة. نحن أقدر منها على المقارنة بين ما كان وبين ما حدث، ولهذا أيضا نحمد الله على نعمة التغيير، لكننا لا نفعل ذلك من منطلق الخوف أو من منطلق الضعف. بل من منطلق الحقيقة والأمانة.

اتضح أخيرا أن الجمعيات السياسية غير متفقة، لأن هناك جهات تعتقد أنها وصية على الشعب من دون غيرها، وأنه يحق لها التحدث باسم كل الشعب لأنها تضم أكثرية في الأعضاء ما يخولها ذلك، وجمعيات أخرى تعطي لنفسها حق الوصاية على اعتبار أنها أعرف بمصالح الشعب وأنها تعيش على مجدها السابق وغير مستعدة لأن تتنازل عن برجها فهي أشبه بذلك الرجل الذي تمّ العثور عليه في إحدى الغابات في اليابان مختبئا فيها ظنا منه أن الحرب العالمية لم تنتهِ بعد.

وهناك جمعيات أرادت من منطلق إحساسها بأهمية الالتقاء والتعاون فانضوت تحت لواء المجموعة فوجدت نفسها فيما بعد تعاني مرض الازدواجية فأفكارها وأهدافها التي قامت على أساسها صارت تتضارب في جانب منها مع أطروحات أولئك، بينما تتوافق في جانب آخر، ومع الأيام اتضح لبعضها أن الجانب الأكبر من أهدافها وأساليبها تختلف معها فعلا.

وجمعيات سياسية أخرى ترغب في عدم العزف المنفرد لأن أعضاءها يفرضون عليها ضرورة التجمع والانضواء تحت لواء المجموعة لكن الإدارة تضيق ذرعا بهذه الضغوط الداخلية لأنها تشعر أنه من الصعب تقبل أطروحات تجدها متطرفة، فلا أولئك يرتضون التعديلات التي تراها تخفف من غلواء الطرح وتشدده ولا هذه تشعر بأن بيانات تلك واقعية ومعتدلة ومقنعة بالنسبة إليهم، وأكاد أقول الجميع يعيش مرض الازدواجية، فالكل يريد أن يمثل الشعب، والشعب مغَيَّب ولا يعرف مَن الذي يمثله ومَن هو أقرب إلى تحقيق مطالبه وصار يسأل:

- هل المتشدد الذي يجيّش الشارع ويرفع صوته في عملية تحدٍّ واضحة هو الأقدر على تحقيق مصالحه فيتبعه؟

- هل الذي يرفع شعارات إما كل شيء أو لا شيء من خلال البيانات الملتهبة التي تعيده إلى أيام الخمسينات وصراخ المذيع أحمد سعيد أيام عبدالناصر رحمه الله؟

- هل يسير خلف المعتدل الهادئ الخجول الذي يعتبر أن حوار «وجادلهم بالتي هي أحسن»(النحل، 521) سيليّن قناة القيادة ويعيدها إلى الأيام الخوالي في أعقاب إعلان المشروع الإصلاحي الذي كان يتطلع إليه المواطن مع كل صباح وما كانت تروجه الصحافة وأجهزة الإعلام عن المكرمات التي هطلت فترة مع الأمطار الموسمية ثم توقفت وتجعل القيادة الإصلاحية تتعاطف مع الطرح الواقعي والهادئ الرصين فتحول تصريحاتها، التي لم تتوقف حتى بعد انحسار زمن المكرمات عن إبداء حسن النية والرغبة في مزيد من الإصلاحات لكنها أصبحت مجرد (جعجعة من دون طحن) على حد تعبير الإعرابي، إلى أفعال.

والطريف في مجمل هذه الأمور أن كل هذه الجمعيات أصبحت عاجزة عن تحقيق حلم المواطن في مزيد من «المكرمات» الصباحية وفي مزيد من الإصلاحات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي فلا الذي لبس جلد الأسد وصار يزأر قادر على فعل شيء ولا من رفع سيف عنترة استطاع أن يحرر (حرائر) قبيلة بني عبس وأغنامها التي سرقتها القبيلة المعادية ولا سعيد بن جبير المتصوف البائس ذي البنية الضعيفة يستمع الحجاج لاحتجاجاته وينصاع لصوته.

قرأت للمتصوف القنوع كلمة في منشور له فوجدت فيه طرحا رائعا ومعتدلا وقولا لا مزايدة فيه ولا مناقصة ولم يلبس أصحابه جلد الأسد ولا رفعوا سيف عنترة إذ قالوا خلال هذه الكلمة: «يحتاج المجتمع البحريني إلى الحوار وليس إلى آلمواجهة أو الشد السياسي، إن المشكلات الكثيرة التي يعاني منها المجتمع نتاج عقود طويلة من هيمنة قانون أمن الدولة وغياب المشاركة الشعبية، منذ أن بدأت عملية التحول الديمقراطي في البلاد حتى ظهرت كل القضايا دفعة واحدة، لم يكن بالإمكان إيجاد الحلول الفورية لهذه القضايا، ولكن المهم أن تتوافر النية المخلصة لها، وأن يجري البدء بحلحلة هذه المشكلات وإيجاد مخارج لها، وان تبدي السلطة التنفيذية من جانبها سعة الصدر في التعامل مع المطالبات الشعبية بحل هذه القضايا، لأن الشعب يهمه تحسين الأوضاع المعيشية والتغلب على الصعوبات الكثيرة التي يعاني منها، وليس متوقعا في مناخ الديمقراطية والحريات من الناس ألا تطالب بالمزيد من الحقوق، وخصوصا مع وجود السلطة التشريعية وطرح الكثير من الملفات للنقاش والحوار، لكن في الجهة الأخرى على المعارضة أن تتحلى هي الأخرى بالواقعية السياسية وبإدراك التعقيدات الكثيرة سواء داخل البلاد أو المنطقة، وأن تغلب المرونة في التعاطي مع القضايا المختلفة بدل دفع الأمور نحو المواجهة، لأن الأمور لن تحل إلا عبر إشاعة مناخ الحوار وتفعيل المجتمع المدني ليكون قوة مطلبية ضاغطة ضمن الأطر والقنوات الشرعية كالنقابات والاتحادات المهنية والجماهيرية المختلفة، ضمن هذه الروحية يمكن لعملية الإصلاح أن تشق طريقها، على رغم الصعوبات، وتصل إلى مستويات جديدة».

بعد أن استكملت قراءة العمود تساءلت أليس هذا هو الكلام المنطقي والواقعي الذي يدل على النضج السياسي إذ لا تقرأ فيه لغة التحدي والادعاء والمواجهة والتجييش والصراخ والتهديد تلك اللغة التي نبذها واستهجنها رئيس مجلس النواب يوما واعتبرها هي التي فرضت الخوف على القيادة الإصلاحية ودعتها إلى تغيير موقفها وتراجعاتها إذ رمى بالكرة في ملعب بعض الجمعيات السياسية التي قُلتُ عنها إنها تلبس جلد الأسد أو ترفع سيف عنترة.

ولكن السؤال الذي أود طرحه على رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني ألا يشفع لهذا الشعب هذا الصوت المنطقي، الهادئ والرصين الذي يلبس أسمال المتصوفة فما المطلوب بعد ذلك؟

وكأني أسمع سعادته يرد قائلا لي: «هذا الصوت لا يمثل تلك الشريحة الواسعة والمهم أن يهدأ الجميع وعلى كل القيادات السياسية أن تتفق على لغة المتصوفة لا لغة قارعي طبول الحرب، أما وأن تجد القيادة الإصلاحية كل سيوف الخوارج مشرعة وهم على حق خلافا لما يرى قائدهم فعليهم أن يتحملوا تبعات أقوالهم وبياناتهم وضجيجهم وأعمالهم».

وكأني به يضيف: «وحين يصبح الجميع واقعيا بعيدا عن الخيال و شطط التفكير والإدراك الحقيقي لمعنى (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) ويعي أن الإصلاحات وإنهاء الأزمة ومرحلة قانون أمن الدولة لم تأت من خلال معركة تم حسمها لصالحها بل جاءت من خلال المرسوم رقم (01) بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني، إذ قال الملك فيه: نحن حمد بن عيسى آل خليفة أمير دولة البحرين:

رسمنا بالقانون الآتي

المادة الأولى

يعفى عفوا شاملا عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني التي تختص بنظرها المحكمة المنصوص عليها في المادة (581) من قانون العقوبات التي وقعت من مواطنين قبل صدور هذا القانون.

المادة الثانية

لا يشمل العفو الجرائم المنصوص عليها في المادة السابقة، إذا نجم عنها موت شخص، أو اشتملت على إحدى الجرائم الماسة بحياة الإنسان المنصوص عليها في المادتين (333، 633) من قانون العقوبات.

المادة الثالثة

يشمل العفو الموقوفين والمتهمين والمحكوم عليهم ممن تسري عليهم أحكام هذا القانون من المواطنين الموجودين داخل البلاد، أو خارجها، على أن يتم تنفيذ العفو على المواطنين الموجودين في الخارج وفق الإجراءات المعمول بها.

ومع عدم المساس بحقوق الغير، لا تسمع الدعاوى المترتبة عن العفو الصادر بموجب هذا القانون والمراسيم والأوامر التي صدرت في هذا الشأن.

لكنه يجب الاعتراف بأن هذا المرسوم لم يأت من دون تضحيات الشعب ونضالاته الطويلة والقاسية ومع ذلك يجب الاعتراف أيضا بأن إرادة الطرفين التقت عند نقطة معينة، قائد عاقل وحكيم وعى الأوضاع العالمية وخطورة استمرار الشعب في تقديم كل هذه التضحيات مع إدراك حقيقي لما قاله الشاعر التونسي المرحوم أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلابـــد أن يســتجيب القـدر

ولابــد للــيـــــل أن ينجلـــي

ولابــــد للـقـيــد أن ينكـــسر

فهل تتوصل الجمعيات السياسية إلى لغة رصينة ناضجة واضحة وهادئة تصل إلى القيادة الإصلاحية لا تحمل التهديد والوعيد والإحساس بالانتصار الساحق من خلال ثورة فرضت هذه الإصلاحات عليها.

فلا داعي للبس جلد الأسد أو رفع سيف عنترة في الوقت نفسه لا يجب أن تلبس أسمال المتصوفة.

وهل ترى القيادة الإصلاحية أن تأجيل تحقيق مزيد من الطموحات الشعبية والوعود التي آلت على نفسها أن تفي بها يفقد المشروع الإصلاحي جانبا من صدقيته، فتعيد زمن «المكرمات» الصباحية على حد تعبير الصحافة المحلية وأجهزة الإعلام؟

إن المواطن البحريني في حيرة من أمر القياديين للجمعيات السياسية بين لا بسي جلد الأسد الذين لا يتوقفون عن الزئير داخل القفص وخارجه وآخرين يحملون سيف عنترة وكأنهم يشعرون أنهم ما زالوا في زمن قبائل بني عبس وربيعة ومضر وبين سياسيين متصوفة زهدوا في الدنيا وآثروا السلامة وقيادة طالت بها فترة التأمل والتريث.

لقد آن الأوان لأن نكون واقعيين ونستخدم لغة وسطا تحفظ كرامة الشعب من دون أن تتساهل في حقوقه ولكنها لا تسيء إلى الآخرين وتشعرهم بأن هناك من يريد أن يملي عليهم بالقوة ما يشاء، مع عودة لإرادة الالتقاء عند نقطة المصلحة العامة.

العدد 369 - الثلثاء 09 سبتمبر 2003م الموافق 13 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً