العدد 2631 - الأربعاء 18 نوفمبر 2009م الموافق 01 ذي الحجة 1430هـ

نظام الأفلاج والثقب أو قنوات الري تحت الأرضية

في سبيل إيصال الماء من العين للمناطق البعيدة التي لا يوجد بها عيون تم حفر قنوات ضخمة وتم تغطيتها فأصبحت كالقنوات التي حفرت تحت الأرض. هذه الطريقة في توزيع الماء عرفت في البحرين باسم «الفقب» أي الثقب وذلك إشارة للحفر أو الثقوب المتجاورة التي تظهر على سطح الأرض كالمداخن خارجة من تلك القنوات التحت أرضية. بينما في مناطق أخرى في الخليج وبالتحديد في سلطنة عمان مثلا عرف هذا النظام باسم الأفلاج ومفردها «فلج». وكلمة فلج لها عدة معاني، فمن الناحية اللغوية تعني «شق في الأرض»، والجدول المائي الصغير والقناة التي تروي المياه. والفلج يعني أيضا بئرا رئيسية حفرت في المناطق الجبلية، إضافة إلى عدة آبار أخرى بجانبها، يتم توصيلها من تحت الأرض بشكل انحداري من خلال استخدام قناة تسمح بجريان المياه الجوفية من البئر الأولى وحتى البئر الأخيرة، ثم تستمر القناة في الجريان متجهة نحو سطح الأرض. وتسمى أول عين أو بئر متصلة بالقناة بأم الفلج, أما أول مكان يخرج منه الماء إلى سطح الأرض فيسمى الشريعة, وتعرف الفتحات التي تتصل بالقناة والتي تكون كالمدخنة باسم الثقبة أو الفرضة. وملخص ذلك أن الفلج وجمعها أفلاج مصطلح شامل لنظام ري قديم متبع في الكثير من الأماكن في العالم، ويكثر في منطقة الجزيرة العربية، وعمان والإمارات بشكل خاص، ويعتبر الفلج من الأنظمة الفريدة للحصول على المياه من باطن الأرض عبر آبار عديدة تربط بينها قنوات أرضية تصل في آخرها إلى سطح الأرض.


تاريخ نظام الأفلاج في الخليج العربي والشرق الأوسط

هند القصيبي وأسماء أبا حسين (2000) في بحثهما عن قنوات الري ترجحان أن منشأ نظام الأفلاج في العراق القديمة، إذ تبين بعض المصادر التاريخية أنه يعتقد أن نينوى وهي من أقدم المواقع في العراق كانت تحصل على الماء بواسطة نظام القنوات كما تشير المصادر التاريخية إلى أن المصريين شقوا القنوات المائية قبل أكثر من 5000 عام وذلك لنقل الماء إلى الأراضي المرتفعة في موسم الفيضان, أما الاهتمام بقنوات الري والصرف في العراق فإنه يرجع إلى ما قبل السومريين أي إلى حوالي 3000 سنة قبل الميلاد, إذ مارس سكان ما بين النهرين الزراعة المروية من القنوات التي كانت تنظف من الطمي سنويا، واعتبروها شريان الحياة في الأراضي الزراعية. وقد نصت قوانين حمورابي (1760 ق. م.) على اعتبار أن الماء وأقنية الري أساس دعم الدولة, تجب صيانتها وتنظيفها سنويا, ويعتبر الاعتداء عليها جرما يعاقب عليه القانون. وقال بختنصر ملك بابل يفتخر بما حققه من منجزات في هذا المجال إذ يقول «.... حفرت القنوات، وبطنتها بالطوب المحروق والقار....».

إلا أن لايتفوت (Lightfoot 2000) في بحثه عن تاريخ قنوات الري في الجزيرة العربية وما حولها المدعم بالأدلة الأركيولوجية وطرق تحديد العمر المختلفة يرجح الأصل الفارسي لهذه القنوات، إذ صمم الفرس تقنية الري التحت أرضية في وقت ما بين القرن العاشر والثامن قبل الميلاد. الملك الآشوري سارجون الثاني (722 - 705 ق. م.) ذكر على إحدى الألواح أنه تعلم نظام الري بالقنوات التحت أرضية من الفرس وذلك خلال حملته حول بحيرة يورومية في شمال أرمينية. وقد بنى سناشريب ابن الملك سارجون قصره في نينوى قرابة 700 ق. م. وزوده بالماء بواسطة نظام القنوات. وأثناء السيطرة الأخمينية (559 - 330 ق. م.) بنى الفرس قنوات خلال معظم مملكتهم. الأدلة التاريخية والأركيولوجية ترجح أنه خلال هذه الفترة (أي الأخمينية) تم إدخال نظام القنوات في حضارة ما بين النهرين, وسوريا والأردن وفلسطين ومصر. الفرس الأخمينيين استخدموا نظام القنوات ليوفروا المياه لواحة خارقة المصرية قرابة 525 ق. م. وقد عثر على قطع فخار فارسية قديمة في قنوات في وادي القرافة في فلسطين مما يرجح أنها بنيت أثناء الحكم الفارسي لهذه الأراضي (537 - 332 ق. م.). وقد سيطرت الامبراطورية الأخمينية على بابل ومابين النهرين بعد 537 ق. م. وفي قرابة هذا الوقت أيضا تم ضم سوريا كإقليم تابع للامبراطورية الأخمينية.

وقد شجع الملوك الأخمينيون على بناء نظام القنوات وكانوا يمنحون من يبنيها أرباحا لهم ولأبنائهم ونزولا حتى الجيل الخامس من أبناء باني القنوات. وقد أعطى التخطيط السليم والدقيق لنظام الأخمينيين الفرصة لقيام آلاف المزارع والقرى في كل فارس والأراضي التابعة لها في الامبراطورية الأخمينية.

وقد تابعت الامبراطورية البارثية (250 ق. م. - 229م) العمل الذي بدأه الأخمينيون وسيطروا على ما بين النهرين في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. وفي نفس هذه الفترة كان اليونانيون يسيطرون على سوريا. وقد اقتبس اليونانيون تقنية الشرق الأوسط في بناء نظام القنوات وطبقوها في المناطق التي استقروا فيها. وقد كان نظام القنوات أول معبر يوصل المياه لأثينا من جبل بينتيليكس. ولا يشك أن اليونانيين اقتبسوا ذلك من الفرس ولكن ليس من المؤكد أنهم طبقوه في سوريا أم لا. لا توجد أدلة بأن اليونانيين أو السلوقيين الذين تلوهم قد بنوا قنوات مائية وإنما استقروا بالقرب من مناطق مزودة بالقنوات. وعلى الرغم من ذلك يذكر على الأقل مصدر تاريخي سوري واحد أن اليونانيين قد بنوا أول قناة في سوريا.

تشير الأدلة الأركيولوجية والتاريخية التي يسوقها لايتفوت في بحثه إلى أن العديد من قنوات الري في سوريا والعراق وكل التي في الأردن بنيت لأول مرة في العصر الروماني. الرومانيون (64 ق. م. - 330م) ومن تلاهم من البيزنطيين (330م - 630م) في سوريا والساسانيين (229م - 637م) في العراق أضافوا لشمال الجزيرة العربية العديد من الآبار وقنوات الري وطوروا من تقنية الري وتوسعوا في الرقعة المزروعة, العديد من قطع الفخار والسيراميك تشير إلى أن معظم هذه القنوات بنيت في العهد الروماني واستخدمت في العهد البيزنطي. وتوجد أدلة أركيولوجية (نقوش وبناء) ومصادر تاريخية توضح أن الرومانيين قاموا ببناء قنوات في سوريا والأردن وأماكن أخرى في امبراطوريتهم. بعض القنوات في شمال الأردن نقش على جدرانها الداخلية صلبان ونقوشات بيزنطية أخرى. ويرتبط توزيع القنوات في الشرق الأوسط بالأماكن التي سيطر عليها الرومان والبيزنطيون, على سبيل المثال 40 % من القنوات في سوريا توجد داخل أو مجاورة لمدن رومانية بيزنطية و50 % منها توجد في مناطق استقرار الرومان والبيزنطيين. ويلاحظ أيضا الاسم المحلي لهذه القنوات في سوريا والأردن وهو «قناة رومانية». ولهذه الأسباب القوية يعتقد الكثيرون من الكتاب أن غالبية القنوات في الشرق الأوسط أو شمال الجزيرة العربية بنيت من قبل الرومان واستخدمها البيزنطيون والساسانيون الفرس وذلك منذ بداية القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السابع الميلادي.

بعض تلك القنوات استمر استعمالها خلال الفترة الإسلامية المبكرة, وخلال فترة الحكم الأموي (661م - 750م) سيطر الأمويون على التجارة والزراعة فأضاف الأمويون إطارا خارجيا للقنوات وحفروا البرك في بعض القنوات في سوريا. وبعض القنوات في سوريا بنيت من قبل الأمويين، وأحدث تلك القنوات بنيت أيام يزيد بن معاوية, وسميت بقناة يزيد. أما بالنسبة للقنوات في العراق وفلسطين والأردن فإن أثر الأمويين عليها أقل وضوحا من تلك التي في سوريا. وقد عثر على مظاهر مرتبطة بالحضارة الأموية كقطع السيراميك في وادي القرافة على الحدود الجنوبية لفلسطين بينها وبين الأردن, وكذلك وجدت في قناة في جنوب الأردن وفي قناتين أخريتين شمال الأردن أيضا. وقد تم ترميم نظام القنوات في وادي الأردن في الشمال العربي للأردن في العهد الأموي.

وقد استخدمت القنوات في مصر بعد أن احتلها داريوس الأول عام 518 ق. م. إذ يشير المؤرخ اليوناني بوليبوس إلى وجود قنوات تحت أرضية في القرن الثاني قبل الميلاد. أما شمال إفريقيا وإسبانيا فقد ادخل نظام القنوات إليهما عقب الفتوحات الإسلامية لهذه المناطق.

ولا تزال سلطنة عمان تستخدم نظام القنوات حتى وقتنا الحاضر تحت مسمى الأفلاج. وتتفق العديد من المصادر التاريخية على أن هذه الأفلاج قد نشأت خلال العصر الأخميني, وان فترات الحكم الساساني في عمان شهدت زيادة واتساعا في إقامة شبكات قنوات الري. وتصل أطوال بعض القنوات في واحة البريمي إلى أكثر من تسعة كيلومترات، وقد تراوحت أطوال عشر قنوات تحت سطح الأرض في هذه الواحة ما بين 3 - 9.5 كيلومتر.

ويوجد نظام قنوات الري في دولة الإمارات العربيبة المتحدة أيضا. وقد وصف بيبي قنوات الري في مدينة العين فذكر أن بساتين هذه المدينة تروى بواسطة القنوات وقد قارنها بتلك التي شاهدها في البحرين لأول مرة.

أما بالنسبة لشرق المملكة العربية السعودية, فقد ادخل نظام القنوات للإحساء متأخرا غير أنه لم ينل شعبية, فتم التخلي عنها على الرغم من انه يمكن استخدامها حتى في الوقت الحاضر على نحو مفيد. وفي اليمن وزعت مياه سد مأرب في أقنية يمين المجرى القديم وشماله.


تاريخ بناء القنوات التحت أرضية في البحرين

ناقشنا في جزء «بناء النموذج» من هذه السلسة الفترات التي تقلص فيها شعب البحرين والفترات التي توسع فيها, من ذلك النموذج نلاحظ بداية حدوث التوسع السكاني في بداية الفترة الأخمينية أو قبلها بفترة وجيزة أي قرابة نهاية القرن السابع قبل الميلاد ويتزايد التوسع أكثر في الفترة الهلنستية وخاصة بعد هجرة القبائل العربية للجزيرة قرابة بداية القرن الرابع الميلادي, هذا التوسع لابد أن يصاحبه توسع في الرقعة الزراعية وبما أنه في الفترة الأخمينية عرفت تقنية حفر القنوات التحت أرضية نرى أن النتيجة التي ساقها جيمس بلجريف ونقلها عنه جواد علي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وأكد عليها كتاب لاحقون آخرون بها شيء كبير من الصحة, إذ يرجح بلجريف أن تقنية الري بواسطة القنوات قد عرفت في البحرين إبان النفوذ الساساني، أو ربما في تاريخ أقدم نتيجة لاحتكاك أهالي البحرين بحضارات ماجان (عمان) وإيران وبلاد الرافدين التي وجد بها هذا النظام منذ القدم, وعليه يرجح بلجريف أنها ساسانية. لارسن في كتابه يذكر ما رجحه بلجريف ويرجحه لكن لارسن يذكر أيضا أنه لا يوجد دليل قاطع على صحة هذا الاستنتاج. ويذكر لارسن أن هناك دلائل أركيولوجية تشير لاستخدام تلك القنوات بصورة مكثفة وذلك في القرون الوسطى (قرابة القرن الثاني عشر الميلادي) إذ حدثت زيادة كبيرة في التوسع السكاني.


طرق حفر القنوات في البحرين

أعطت كل من هند القصيبي وأسماء أبا حسين (2000) في بحثهما عن قنوات الري وصفا مقتضبا لطريقة حفر القنوات، إذ إن القنوات في البحرين بنيت في البداية بصورة مفتوحة أو مكشوفة كالخنادق وذلك نظرا لأن أرض البحرين مستوية ومستوى الماء فيها مرتفع ومن ثم غطيت أو سقفت القنوات بألواح من حجر الكلس أو بصخور مسطحة (تدعى الفروش), وقد بني السقف على شكل مقوس ثم غطي بالتراب ليتساوى ومستوى سطح الأرض. ثم غطيت بالتربة حتى سطح الأرض. وتوجد بين كل 15 ياردة منافذ للتهوية يتراوح قطرها بين قدمين وخمسة أقدام. ويؤكد بيبي في كتابه البحث عن دلمون على طريقة حفر القناة هذه إذ قال «إن أنفاق الري حفرت ربما بمستوى الأرض أو تحته قليلا وقد غطيت من الأساس لمنع البخر، ثم تراكمت عليها الرمال، وأن الجدار الواقي للينابيع والمدخنات التي تتصل بالقنوات قد بنيت تدريجا لتتناسب وسرعة الرمال الزاخفة».

ويكمل بيبي وصفه لتلك القنوات التي يسهل تتبعها إذ توجد وعلى بعد كل خمسين ياردة مدخنة حجرية (ثقبة) تصل ما بين السطح والقنوات وتقف رؤوس تلك الأعمدة المجوفة ناتئة فوق الأرض بارتفاع يتراوح بين قدم وأربعة أقدام بشكل خطوط تمتد وتصل إلى ميل أو ميلين حتى بلوغها جدارا يحيط بمصدر المياه المزود للقناة. وتبدو القنوات في البحرين من الأعلى أو من الجو بهيئة سلاسل طويلة لحفرات صغيرة وسط منطقة جافة، هذه الحفر هي فوهات القنوات التي وجدت للتهوية والتنظيف.

كذلك جواد علي يذكر وصفا لهذه القنوات وطريقة حفرها نقلا عن جيمس بلجريف إذ يقول:

«وفي جرز البحرين قنوات يظن أنها من عمل الساسانين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر، أهيل عليها التراب لتمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الماء فتبخره، وبذلك تقل كمياته. وبين مسافة وأخرى تقدر ما بين عشرة وعشرين ياردة توجد منافذ لمرور الهواء إلى باطن القناة. وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدران عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربه فيها. ولا تزال بعضها عامرة تجري فيها مياه العيون حتى الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضا».

وفي صورة القناة المرفقة نلاحظ الجوانب الصخرية للقناة وكأنها قناة محفورة في الأرض. ولاحظ السقف الذي يكون مثلث الشكل تقريبا وكأنه غطاء مبني.

العدد 2631 - الأربعاء 18 نوفمبر 2009م الموافق 01 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً