العدد 351 - الجمعة 22 أغسطس 2003م الموافق 23 جمادى الآخرة 1424هـ

يهود إثيوبيا: سعادة صهيون بعد استبعاد وفراق طويلين

الحكاية الكاملة لتهجير الفلاشا إلى «إسرائيل» عن طريق السودان (1-2)

في نهاية عقد الثمانينات، بدت فضيحة ضلوع سودان جعفر النميري في تهريب يهود اثيوبيا (الفلاشا) إلى «إسرائيل» واحدة من أبرز الفضائح في المنطقة. وهنا، نقلا عن الصحافي الفرنسي باتريك جيرار نقدم ما يفترضه هذا الأخير الحكاية الكاملة للفلاشا وللمفاوضات التي دارت في شأنهم، ولسلسلة الألاعيب التي رافقت الأمر كله.

نلتقط الحكاية هنا عند بداية العام 1983. ففي ذلك الحين وذات يوم تلقى «المامونة»، أي رئيس أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية اسحاق هوني، والملقب بـ «حقّا» مكالمة هاتفية من جورج بوش، الذي كان حينها نائبا للرئيس الأميركي وجاء صوت بوش على الهاتف:

- اسحاق، إن واحدا من أفضل أصدقائي، وهو رئيس مركز السي. آي. اي. في اديس أبابا، قد خطف. إن لنا دينا على «إسرائيل» يتعلق بنسف المفاعل النووي في العراق، لذلك سأكون ممتنا لك لو أعلمتني بما يمكنك فعله.

وما ان انتهت المكالمة حتى التقط المامونة الخط المباشر الذي يصله بديوان رئيس الحكومة، مناحيم بيغن. ومن الجانب الآخر من الخط جاءه صوت واحد من المستشارين يعطيه الضوء الأخضر طالبا منه أن يتحرك بسرعة طالما أن صاحب الطلب له كل هذه المكانة.

والحال أن بوش لم يكن مغاليا حين أكد أن «إسرائيل» مدينة للولايات المتحدة. ذلك أن مدير السي. آي. اي ويليام كاسي كان وبتوصية من نائب الرئيس الأميركي، قد أوصل إلى «إسرائيل» تلك الصور الفضائية التي مكنت الطيران الإسرائيلي من تدمير المفاعل النووي العراقي «أوزيراك» في أكتوبر/ تشرين الأول 1981. ومثل هذا الأمر يستحق المكافأة طبعا. ولقد زاد من يقين رئيس الموساد بضرورة تقديم العون الآن إلى الأميركيين، انه تلقى من واشنطن تنبيها يفيده بأن الرهينة الذي خطف في اثيوبيا انما هو صديق شخصي، فعلا، لجورج بوش الذي كان سفير «إسرائيل» في واشنطن مائير روزين لا يكف عن القول إنه هو الذي سيخلف رونالد ريغان في الرئاسة الأميركية ذات يوم.

تجريح ما

وهكذا، منذ صباح اليوم التالي، ركب رجل الطائرة من مطار اللد الإسرائيلي إلى روما اذ كانت في انتظاره رحلة طيران ستقله إلى اديس أبابا. ثم كانت له بعض الاتصالات مع بعض المعارف خلال أيام عدة ما مكنه من أن ينجز المهمة بنجاح. وهكذا بعد عشرة أيام، وخلال حفل استقبال رسمي، انتحى جورج بوش بمائير روزين جانبا ليهمس في أذنه: «والآن... صرت أنا المدين تجاه إسرائيل». وسنرى هنا، بحسب تعبير الكاتب باتريك جيرار، كيف أن الولايات المتحدة ردّت الدين وفي المكان نفسه الذي خدمت فيه «إسرائيل» حليفتها الكبرى: في اثيوبيا.

والآن ننتقل إلى اللحظة نفسها، ولكن إلى مكان يبعد عن الحفل الذي التقى فيه بوش مع روزين، ألوف الكيلو مترات. إلى «إسرائيل» اذ تطالعنا شابة سوداء في السادسة والعشرين من عمرها سنعرف ان اسمها ملكة... وسنجد هذه المرأة تراقب بهلع ذلك الرجل المرتدي الثياب البيضاء، بالتوافق مع التقاليد اليهودية القديمة، والذي يستعد الآن لختان طفلها الصغير. ومن حولهم عدد من الأشخاص ينشدون الآن الأغاني الدينية الملائمة للموقف ولكن بلغة «الفلاشا» أي لغة يهود أثيوبيا، والحال أن هؤلاء لا يحبون أن يطلق عليهم أحد اسم «الفلاشا» لأنه يعني «المشردين» أو «المنفيين» بشكل يتضمن شيئا من التجريح الذي يعني «الأفاقين». ومن هنا نراهم يفضلون أن يسموا بـ «بيتا ازراييل» أي بيت إسرائيل وذلك لأنهم يهود من المفترض أنهم منحدرون من سلالة الملك فيليك، ابن الملك سليمان من بلقيس ملكة سبأ.

وفي الوقت الذي كان فيه الطفل ابن ملكة يبكي والحضور ينشدون الأغنية التي تعبر عن الدخول في «الحلف الالهي» لكل واحد من أبناء «بيت إسرائيل» راحت ملكة تسترجع في ذاكرتها الحوادث التي مرت عليها خلال الأشهر الأخيرة.

فهي في البداية كانت طردت، مع غيرها، من قريتها غودار تحت وابل الجوع والمعارك التي انتشرت في تلك المنطقة من اثيوبيا. وإذ طردت، راحت تقطع البراري والفيافي لمئات الكيلومترات على قدميها حتى وصلت إلى قرية سياحية غامضة مقامة على ساحل البحر الأحمر، إذ كان في انتظارها، رجال بيض يتحدثون فيما بينهم بلغة لا تفهمها زاعمين انهم اخوتها. وههناك فيما كان هؤلاء البيض يساعدونها على رعاية وليدها، راحت هي تهدهده مغنية له أغنيات تتحدث عن أرض بعيدة، هي في الواقع الأرض نفسها التي كان نائب الرئيس الأميركي يكلم مسئول المخابرات فيها من أجل تحرير صديق له. وهكذا، وسط الحر اللاهب على ساحل البحر الأحمر، هل كان في وسع ملكة أن تتصور، يا ترى، أنها وأهلها سيكونون عما قريب موضوع مفاوضات عسيرة بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» والسودان واثيوبيا. وانها هي التي لم تمتلك قرشا في حياتها ستقدر قيمتها عما قريب بعشرة ملايين دولار؟

سر عميق

الحقيقة ان ما من شيء كان يعين يهود الفلاشا لكي يصبحوا عما قريب أبطال ذلك المسلسل السياسي الدبلوماسي المالي الذي شكلت المشاهد السابقة بدايته التي أبقيت سرا حافظ عليه مندوبو كل الأطراف التي تحدثنا عنها.

إن هذه الجماعة البشرية التي كانت في ذلك الحين تعد قرابة 25 ألف نسمة وتقيم في منطقة نمو ندار الواقعة بالقرب من نهر تاكاز وبحيرة تانا، في اثيوبيا، ظهرت هناك قبل نحو ألفين وستمئة سنة. وهناك كانت تعيش في أكواخ تنتشر حول المعبد الرئيسي، مؤلفة من حرفيين ومزارعين يمارسون يهودية قديمة جدا تقتصر عادة على اتباع تعاليم الكتاب المقدس. ومن هنا فانهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن الاجتهادات الربانية اللاحقة، أو عن التلمود، مكتفين بأن يقيموا مع الجماعات اليهودية الأخرى في العالم علاقات ضئيلة جدا. وفي القرن التاسع حدث لواحد منهم هو الحاخام الداد الداني، ان زار زملاءه في تونس واسبانيا. وفي القرن السادس عشر توجه حاخام آخر من الفلاشا هو دافيد روبين إلى البندقية مؤكدا أنه هو قائد جيش الملك يوسف، المتزعم للقبائل العشر الضائعة. وهو بتلك الصفة اقترح على شاركان تحالفا عسكريا ضد تركيا، مثيرا في طريقه قدرا كبيرا من الأمل لدى يهود أوروبا، قبل أن يقبض عليه ويموت في قبو أحد السجون الاسبانية. أما الفلاشا فإنهم، إذ صاروا منذ القرن السابع عشر، عبيدا، لم يعرفوا تحسنا في أوضاعهم إلا عند بداية القرن العشرين، تحت حكم فيليك الثاني، الملك الاصلاحي الاثيوبي الكبير.

ومهما يكن من الأمر فإنه حدث، عند منتصف القرن التاسع عشر أن «التحالف الإسرائيلي العالمي» الذي اسسه وزير العدل الفرنسي ادولف كريميو، أرسل إلى اثيوبيا بعثة بقيادة يوسف هاليفي. بيد أن الاتصالات بين الفلاشا وغيرها من الجماعات اليهودية لم تبدأ حقا إلا في العام 1904، مع الزيارة التي قام بها لمنطقة غوندار - واستغرقت 18 شهرا - عالم العبريات من أصل بولندي، يعقوب فيتلوفتش (1881 - 1955). وفيتلوفتش هذا الذي عرف بمؤلفاته الكثيرة عن اليهود المنسيين أسس لجنة عالمية للدفاع عن اليهود الاثيوبيين راحت تنشط خصوصا في إيطاليا والولايات المتحدة. ولكن بعد الغزو الإيطالي لاثيوبيا، وخلاله أبدى الفلاشا ولاء تاما للامبراطور هيلاسيلاسي، ما أدى الى تباطؤ نشاط هذه اللجنة في إيطاليا بشكل ملحوظ.

ولاحقا، حين تأسست دولة «إسرائيل» على أراضي فلسطين في العام 1948 لم يتدفق يهود الفلاشا إلى «أرض الميعاد» هذه، على عكس ما كان من يهود اليمن والعراق. فهم لم يدعوا إلى هناك ولم يعلن أحد أي ترحيب بهم. والحال أن ثمة رسالة بعث بها مرة المدير العام لوزارة الصحة الإسرائيلية، يمكنها أن تعطينا فكرة واضحة عن نظرة آباء «إسرائيل» المؤسسين إلى هؤلاء «الكوشيم» أي اليهود السود. فهذا المسئول عبر في رسالته عن «الهلع والرجفة» اللذين يمكن أن يثيرهما لديه وصول الاثيوبيين المحتمل إلى «إسرائيل». وهذا الرأي يشاركه فيه في الواقع مندوب الوكالة اليهودية الذي توجه إلى عدن، إذ كتب في العام 1949 نصا يقول فيه: «تبعا للتحقيق الذي قمت به، تبين لي أن مسألة (يهود) الفلاشا ليست مسألة سهلة، إذ ان هؤلاء الأشخاص لا يختلفون كثيرا عن بقية الاثيوبيون في تصرفاتهم وسلوكهم، كما ان الزواج المختلط أمر رائج لديهم. وكذلك فإن ثمة انتشارا كبيرا في أوساطهم للأمراض التناسلية».

استبعاد ومصالح

وازاء هذا كله لم يكن غريبا ان يستثنى الفلاشا من «قانون العودة» الذي أقرته الكنيست في العام 1950 والذي يتيح لكل يهودي من العالم ان يصبح أوتوماتيكيا مواطنا في دولة «إسرائيل».

وهكذا خلال سنوات الخمسين والستين لم تهتم الدولة العبرية ايما اهتمام بمصير الفلاشا، وخصوصا انها لم تكن راغبة في التدخل في الشئون الداخلية للدولة الاثيوبية التي كانت تقيم معها علاقات حسنة.

بل ان واحدا من رؤساء الكنيست السابقين وهو بيتزرائيل يشعياهو، نصح الفلاشا ذات يوم بأن يعتنقوا المذهب القبطي المسيحي. والحال ان هذا الاقتراح كان يحمل الكثير من الشتيمة لأولئك اليهود الافارقة الذين كانوا ذوي ايمان صلب وقديم وكانوا يرون دائما ان العودة الى صهيون تشكل امارة على عودة زمن مسيا (المسيح العائد).

ان سقوط نظام هيلاسيلاسي في العام 1974 وحلول الانقلابيين الماركسيين والمناصرين للسوفيات في الحكم في اديس ابابا، لم ينه على أية حال، شهر العسل بين «إسرائيل» واثيوبيا. صحيح ان العلاقات الدبلوماسية قد قطعت لكن مبيعات السلاح الاسرائيلي الى اثيوبيا ظلت على حالها، بل تكثفت ايضا. فالحال أن النظام الجديد كان يجابه عدة ثورات مسلحة في غواندار والتيغري واريتيريا، كما انه اضطر إلى خوض حرب ضد الصومال بين 1977 و1979 ومن هنا ظلت «إسرائيل» تبيع الحبشة أسلحة بـ 5 ملايين دولار سنويا، كما ظلت تزودها بمدربين عسكريين.

ومع هذا فان موقف «إسرائيل» تجاه الفلاشا راح يتغير ومنذ العام 1973 عمد الحاخام الشرقي الاكبر في «إسرائيل» أوفيديا يوسف وهو كان أكثر مرونة من زميله الغربي أو تترمان، عمد الى الاعتراف باليهودية الكاملة للفلاشا... وهكذا منذ العام 1975 صار في وسع هؤلاء ان يستفيدوا كليا من «قانون العودة» وفي الوقت نفسه راحت تتشكل لجان للدفاع عن يهود اثيوبيا في الكثير من الدول الأوروبية كما في الولايات المتحدة الأميركية بمبادرة من لجان يهودية محلية.

التسمية ليست بريئة

أما القرار باحضار يهود الفلاشا الى «إسرائيل» فقد اتخذ في العام 1977، اذ وصل الى الحكم في تل ابيب الزعيم اليميني المتطرف مناحيم بيغن. ففي تلك الاثناء كانت اللجان الفرنسية والأميركية تبعث الى تل ابيب تقارير مستعجلة عن «المذابح التي يتعرض لها يهود الفلاشا في منطقة غوندار» وكانت التقارير تقول ان القائمين بالمذابح هم من اصحاب الاراضي السابقين الذين كانوا بذلك يثأرون من مصادرة السلطات الانقلابية أراضيهم التي راحت توزعها على الفقراء ومن بينهم مزارعو الفلاشا وبهذا صار هؤلاء «كبش المحرقة» الذي يفرغ عليه كبار الاقطاعيين احقادهم جاعلينه يدفع غاليا ثمن التغيرات الثورية الاجتماعية التي راحت اثيوبيا تعرفها في ذلك حين. صحيح ان الحكومة الاسرائيلية لم تستجب رسميا لطلبات عون الفلاشا الأمنية من اللجان، لكنها وفي شكل سري للغاية اتخذت قرارها بترتيب عملية انفاذ جماعية ضخمة.

وسيطلق على العملية اسم «موسى2» علما بانه كان ثمة في السابق عملية أسميت «موسى1» جرت في العام 1961 في عز احتدام الأزمة بين فرنسا وتونس وتلك العملية الأولى التي جرت بالتناسق بين البحرية الفرنسية و«إسرائيل» كان فحواها اخلاء مجمل الجالية اليهودية المقيمة في مدينة بنزرت التونسية والتي كانت السلطات الاسرائيلية تعتبرها في خطر وسط اندفاعات النضال المعادي للكولونيالية في المغرب العربي. وقد تجددت يومها تلك العملية نفسها في المغرب، اذ نقل الى «إسرائيل» اعداد كبيرة من اليهود المغاربة في محاولة للتعويض على فتور اليهود الاوروبيين والاميركيين في الهجرة الى الدولة العبرية. أما اسم «موسى» للعملية فانه اختير مرة أخرى في العام 1977 من اجل ازالة أية شكوك وجعل الآخرين يعتقدون اذا ما ثار شك ما بان الامر يتعلق بعملية في الشمال الافريقي وليس في القرن الافريقي. ومن هنا فان التسمية حين اطلقت لم تكن بريئة على الاطلاق.

ومهما يكن من الامر فان المحاولة في اول الامر فشلت بسبب ثرثرة وزير الخارجية في ذلك الحين، الجنرال السابق موشيه دايان، اذ ان هذا الأخير في حديث اجرته معه الاذاعة الرسمية «كول اسرائيل» في شهر فبراير/ شباط 1978 رأى ان من المناسب الآن الكشف عن الاتفاق المتعلق بالفلاشا والذي كان وقع العام الماضي بين تل ابيب واديس بابا وكان اتفاقا شاملا ينص واحد من بنوده على تسليم شحنات اسلحة مقابل تهجير اليهود الاثيوبيين الى «إسرائيل».

وحتى اليوم لم يتمكن احد من تفسير موقف موشيه دايان، والمرجح انه كان مقتنعا بأن ما من احد كان يمكنه ان يفسد العملية لأن حرب اوغادان بين اثيوبيا والصومال كانت قد جعلت نظام فنغستوميريام الماركسي يعيش تبعية تجاه من يزوده بالسلاح.

لكن اعتقاد دايان كان خاطئا كما يبدو، ذلك ان نظام اديس أبابا استجاب الى طلب قدمه السوفيات الذين لا يمكن لشيء ان يؤالف بينهم وبين الصهيونية والامبريالية التي تخدمها وقرر فجأة طرد كل الخبراء العسكريين الاسرائيليين واضعا في طريقه حدا لنشاط الجماعات السرية التي كانت تقوم بالتهيئة لتسخير الفلاشا الى «إسرائيل» بل ان النظام عمد خلال العام 1979 الى اعتقال العشرات من افراد الفلاشا داخل منطقة غواندار نفسها، وقالت لجان للدفاع عنهم في اوروبا ان كثيرا منهم عذبوا بأمر من القومندان والاكو تيغيرو والحاكم العسكري للمنطقة لمجرد الاشتباه في انهم آووا العملاء الاسرائيليين في بيوتهم اذ قصدهم هؤلاء لاختيار المرشحين للهجرة.

تنبه مباغت والسودان على الخط

في العام التالي 1980 اشتد صراخ اللجان الأوروبية «تنبهت» الحكومة الاسرائيلية الى الأمر، وهكذا انتهزت فرصة زيارة قام بها بطريرك الكنيسة القبطية الاثيوبية تقلو حايمانوت الى القدس لكي تثير معه مشكلة الفلاشا طالبة اليه التدخل لإنقاذهم. صحيح ان رجل الدين الكبير ذاك وعد بالتدخل لكن تدخله في الحقيقة لم يكن مجديا... ذلك ان الكنيسة التي كانت هي نفسها تضطهد في عهد منغستوميريام لم يكن في وسعها ان تغير أية قضية اخرى.

وهكذا امام فشل هذه المحاولة بدأ الاسرائيليون يدرسون خطة تقوم على اساس انقاذ الفلاشا عن طريق السودان. وكان مئات من الفلاشا سبق لهم ان هربوا الى السودان. على أية حال... ذلك ان منطقة غوندار تقع غير بعيد من الحدود الاثيوبية - السودانية وليس من الصعب على الفلاشا اجتيازها.

وبقي الاصعب في ذلك كله الحصول على موافقة الحكومة السودانية التي لم تكن تقيم اية علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية، ولكن الخرطوم كانت في ذلك الحين واحدة من العواصم العربية النادرة التي لم تستدع سفيرها من القاهرة بعد توقيع المعاهدة الاسرائيلية - العربية في العام 1979. والرئيس السوداني جعفر النميري الذي سيسقط في العام 1985 كان يقيم علاقات شديدة الود مع الرئيس المصري أنور السادات الذي كان يقدم اليه عونا عسكريا كبيرا وحاسما يساعده على التصدي للثورة في الجنوب السوداني.

وهكذا صار في امكان مناحيم بيغن ان يستفيد من اللقاء الذي تم بينه وبين الرئيس المصري في «بئر سبع» في العام 1980 لكي يطلب منه ان يتدخل لدى جعفر النميري وكان المطلوب هو الحصول من الرئيس السوداني على الادن باقامة معسكرات استقبال انتقالية للفلاشا العابرين من اثيوبيا الى «إسرائيل»، واذ تحدث أنور السادات في الأمر مع النميري لم يأت جواب هذا الأخير سلبيا، لكن الامور ظلت معلقة حتى جرى اغتيال أنور السادات، اذ بمناسبة الجنازة العالمية التي اقيمت له جرى لقاء حاسم بين جعفر النميري ومناحيم بيغن الذي كان غير بعيد من تابوت السادات. والحال ان الصحافيين الذين كانوا موجودين هناك فوجئوا بالرئيس المصري الجديد حسني مبارك يسهل المصافحة واللقاء بين نظيره السوداني ورئيس الحكومة الاسرائيلية... صحيح انه كان لقاء سريعا، لكنه انتهى بمصافحة ودية وكانت النتيجة لقاء تم بعد ذلك بأيام في العاصمة الأميركية بين سفير «إسرائيل» في واشنطن موشيه آرنز وبين السفير السوداني هناك، وهذا السفير كان ابن عم الرئيس جعفر النميري.

أما المحادثات التي جرت بين المسئولين والتي كشفت عنها لاحقا صحيفة «هاعولام هازي» الاسرائيلية التقدمية فقد دارت اساسا حول قيمة الرشوة التي يجب ان تدفع الى الرئيس السوداني ومساعديه الأقربين من اجل إراحة ضمائرهم واغلاق اعينهم، عن هوية بعض الفئات المهاجرة الى «إسرائيل» عن طريق السودان وعن محطة هؤلاء النهائية. فالحال ان النظام السوداني كان في ذلك الحين يسعى الى تعزيز طابعه الاسلامي بما في ذلك من تطبيق للشريعة. ومن هنا كان السعر يجب ان يرتفع... فتم الاتفاق على دفع مبلغ 10 آلاف دولار مقابل كل فالاش ينتقل عبر الاراضي السودانية على ان يودع المبلغ الاجمالي في حسابات مصرفية سرية في سويسرا.

(الاسبوع المقبل القسم الأخير

العدد 351 - الجمعة 22 أغسطس 2003م الموافق 23 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً