حتى لو كانت طفولة بيتر مولان سعيدة فسيظل حاملا للملامح التي تميزه والتي تجعله الممثل الأفضل لأداء بعض الشخصيات وحتى لو كانت أسرته ثرية، فسيظل معلنا نفسه ماركسيا عند سن الخامسة عشرة، وسيظل أحد أكبر المناصرين لحزب تومي شيريدان الاسكوتلندي الاشتراكي. وحتى لو لم يكن والده عنيفا، وسكيرا شقيا، فسيظل مولان مميزا بين أفراد عائلته، وسيظل متعلقا بالتمثيل طوال عقدين من الزمان مر بهما بحال معيشية صعبة، فقط ليجمع المال اللازم لإخراج فيلميه الروائيين.
ولكن معاناة بيتر مولان أثناء المراهقة وبدايات الشباب، المتمثلة في الفقر والعنف العائلي والجرائم الصغيرة والانهيارات العصبية ومحاولة فاشلة لقتل والده، لا تقدم سوى تفسيرا جزئيا للنجاح وللإنتاجات الثرية التي قدمها في السنين الخمس الماضية من حياته.
لنأخذ فيلم My Name is Joe (1998) وهو الفيلم الذي أنتجته شركة كين لوش للأفلام والذي وجه الانظار إلى بيتر، حيث لعب فيه دور سكير يحاول أن يعالج نفسه من الإدمان من أجل حبيبته، وقد قاس مولان أداءه في مقابل ذكرياته عن والده الراحل. في هذا الفيلم اهتمت الكاميرا بالتجعيدات الباهتة المتحجرة على وجهه، وكانت النتيجة هي حصوله على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان، وهي الجائزة التي سلمه إياها احد الأشخاص الذين يعدهم أبطالا وهو مارتين سكورسيسي. أو لنأخذ فيلم The Magdalene Sisters ثاني إنتاج لمولان ككاتب ومخرج، الذي عرض في المملكة المتحدة في فبراير/ شباط الماضي وهو الفيلم الذي يدين بفضل كبير لمشكلات مولان في طفولته.
ويصور الفيلم الإصلاحيات التي تحتجز فيها النساء الايرلنديات الكاثوليكيات اللواتي يغتصبن أو يحملن طفل رجل غريب، إذ يبقين هناك طوال حياتهن ليكفرن عن ذنوبهن عن طريق العمل من دون أجر وقد استلهم مولان الفيلم من برنامج توثيقي تلفزيوني يحمل عنوان Sex in a Cold Climate يتحدث عن النساء اللواتي هربن من المراكز التي أغلق آخرها في العام 1996.
يطرق مولان مليا ثم يقول «أكثر أمر يدعو إلى الحزن في هذه القصة هو انه في عدد من المرات وعندما كانت الفتيات تهربن من الملجأ كان آباؤهن يعيدونهن مرة أخرى». وقد صور مولان نفسه تواطؤ الوالدين، وذلك من خلال الدور الصغير الذي قام به في الفيلم إذ أدى دور أب يعيد ابنته الهاربة إلى رعاية راهبات الملجأ المريبات، وقد كان دورا قصيرا لكن أداءه فيه كان مؤثرا ورائعا.
من الواضح أن مولان لم يكن نزيل مركز خاص بالنساء أبدا، كما أنه لم يرسل ابنته إلى أحد هذه الأماكن، ولكنني أخبرته أن صراع بطلاته ضد محتجزهم الأساسي الأخت بريدجيت وهي راهبة سادية عجوز، قامت بدورها جير الدين ماك ايوان - ذكرني بما قرأته عن صراعات مولان مع والده، فرد مطلقا ضحكة خشنة «لم الاحظ أن الأمر شخصي جدا إلا بعد انتهائي من الفيلم، لم استوعب الأمر، إلا بعد أن بدأت أتساءل» لماذا لم أفكر في فيلم توثيقي آخر؟ وحينها فقط عادت إليّ كل ذكرياتي المريرة وبدأت أتساءل إن كان ذلك صحيحا أم لا وان كان ذلك هو السبب الحقيقي، وان كانت تلك هي الطريقة التي نتعامل بها مع الظلم؟ اعتقد فعلا أن والدي هو السبب.
كان لقائي الأول مع بيتر مولان في شارع Liberty وهو شارع صغير وأنيق في جنوب لندن يتم فيه تصوير أحد مشاهد فيلم Helen of Peckham وقد حضرت أثناء تصوير أحد المشاهد التي يظهر فيها مولان، إذ يلعب دور أحد موظفي الصليب الأحمر في كوسوفو يحاول أن يعود إلى لندن بسبب مشكلة عائلية طارئة لكنه يجبر على أن يقوم برحلته عبر أراض لا يسكنها أحد.
في فيلم المخرج مايكل وينتربوتوم The Claim (2000) وهو نسخة من فيلم The Mayor of Casterbridge، يلعب مولان دور رجل يعيش على الحدود يبيع زوجته من أجل الحصول على قطعة أرض، ثم يصاب الرجل بانهيار لأنه لم يخطر بباله أن الاستلقاء في كومة من الثلج لمدة ست ساعات يمكن أن يؤثر على صحته. بالإضافة إلى ذلك، فان طريقه إلى عربة الرفاهية في كاليفورنيا واجهته عوائق أيديولوجية.
يصرح قائلا «لا أعتقد ان هذا الأمر يحدث في فيلم غير سياسي، جميع الأفلام سياسية بطريقة ما، حتى لو كان كل ما يحويه الفيلم هو دعم لبعض المؤسسات. وطبعا إذا دعمتهم بفيلمك فأنت فعلا ممثل شرير، وهكذا ففي كل مرة تنتج فيلما يجب عليك أن تسأل نفسك، هل أنا جزء من جهاز الدعاية الكبير الذي يعتبرنا ديمقراطيين غربيين ولنا الحق في نسف الشخص الذي نراه مناسبا؟».
ولد بيتر مولان في أسرة كاثوليكية، وكان الخامس بين ثمانية أطفال، لكنه نشأ في غلاسغو. وكان والده يتبع استراتيجية غريبة نوعا ما، إذ كان هذا الرجل الذي يتاجر في المعدات والذي كان سكيرا قاسيا، يستأجر منزلا كبيرا في منطقة راقية وقد كان يمنع أبناءه من إخبار أصدقائهم أن المنزل مستأجر، أو أنه لا يحتوي على أي أثاث. كما أنه كان يمنعهم من التحدث عن الأمور الوحشية التي كانت تدور في ذلك المنزل، والتي تتضمن اغتصاب والدتهم المتكرر، والأمسيات التي يعود فيها الأطفال من المدرسة ليجدوا والدهم واضعا سكين المطبخ على عنق زوجته أو اليوم الذي حاول فيه بيتر ابن الرابعة عشر عاما في محاولة منه لإنهاء تعاسة أمه بتقديم كوب من الشاي يحوي جرعة قاتلة من الحبوب المنومة لوالده، ولأنه لم يقدم لأبيه كوبا من الشاي في حياته، فقد اكتشف الوالد الحيلة بسهولة، فابتسم ورفض لمس الكوب.
وكان نتيجة هذه القسوة تخلف مولان في دراسته إذ كان يتهرب من الدراسة لسنة كاملة، كما انه انضم إلى عصابة يحمل أفرادها السكاكين في جيوبهم، الأمر الوحيد الذي أنقذه هو عدم ثقة أفراد العصابة بقدراته العقلية ما جعلهم يطردون مولان من مجموعتهم، بعدها عاد إلى المدرسة وتفوق في دراسته كما انتقل إلى العيش في سكن جامعة غلاسغو ليدرس الدراما والتاريخ الاقتصادي. وفي اليوم الأول له في الجامعة، لفظ والده أنفاسه الأخيرة بسبب سرطان الرئة الذي كان يعاني منه لفترة، كان مولان واقفا بالقرب منه، يكوي قميصه، وعندما مات والده على الكرسي القريب منه، قبل جبهته وأخبر والدته بالأمر ثم ارتدى قميصه وتوجه إلى الجامعة، لم يخبر أحدا بفاجعته وتوجه في الأمسية نفسها إلى إحدى صالات الرقص.
لكن موت والده لم يغير في الأمر كثيرا فعلى رغم تفانيه في دراسته فإنه عانى من انهيارات عصبية استمرت حتى العام 1986. بعدها نجح في أن يعيد امتحاناته النهائية وأن يطور عمله إذ كان يعمل كمدرس للدراما في مراكز ومؤسسات خيرية، وكان يقدم بعض العروض مع فرق مسرحية سياسية كما كان يعقد فصولا لتعليم الدراما في منزله. كان في بدايات الثلاثين حين التقى زوجته آني سوان وتزوجها، وهي ممثلة وكاتبة لها خلفية سياسية واجتماعية تشبه خلفية مولان، ولايزال الزوجان يعيشان مع ابنيهما «مايري» و«بادي» في شقتهما المتواضعة في غلاسغو.
عندما التقيت مولان في اليوم التالي، في أحد فنادق العاصمة لندن، كان سعيد جدا بالنجاح الذي حققه فيلم The Magdalene Sisters في ايرلندا وإيطاليا، وهذا يعني الكثير بالنسبة له، وهو أفضل من الحصول على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا للأفلام - وخصوصا لأنه عندما عرض الفيلم للمرة الأولى في العام الماضي، حاولت الكنيسة الكاثوليكية ان تطعن فيه. يقول مولان بفخر «قال الفاتيكان إنه كان مجموعة من الأكاذيب، وكان ذلك هو أكبر أخطائهم إذ جذب ذلك عشرات الصحافيين للبحث عن النساء الذين احتجزوا في مثل هذه المراكز، وقد وجدوا الكثيرات منهن وجميعهن كان لديهن الكثير من القصص ليحكينها ما جعل الحكايات التي قدمها الفيلم لا تذكر أمام ما ذكرن. الفاتيكان هو الذي أثار كل ذلك وأعتقد انهم على علم بذلك». تلقى مولان عشرات الرسائل من النزيلات السابقات، والتي تمثل قراءات يرثى لها. إن النظام في ملجأ ماغدالين لا يسمح بإدخال الكتب أو الصحف أو الراديو أو أي مواد كتابية في أقسامه المختلفة، ولذلك فإن معظم النزلاء أميون، ويمكن معرفة ذلك من خلال الرسائل. أن مستوى ذكائهم أعلى بكثير من الوسائل التي استخدموها للتعبير، وهذا هو أكثر شئ مثير للحزن في الموضوع، فلقد سلبوهن القدرة على التعبير.
ولمعرفة مدى تداخل حياته مع حياة بطلات الفيلم اخبرني مولان عن العمل الذي حصل عليه في صيف العام 1977 في إحدى مصحات علاج النساء اللواتي يعانين من الشيزوفرينيا في ضاحية بوبلار بشرق لندن، يقول «الراهبة التي كانت تدير المصحة كانت متوحشة أيضا. كانت تجمع كل الوصفات الطبية، وتذهب إلى صيدلاني يعطيها كل الأدوية المطلوبة، لتضعها في علبة كبيرة. ثم تعود مرة أخرى لتقرر بنفسها الدواء الذي تعطيه لكل واحدة منهن».
(خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط»
العدد 352 - السبت 23 أغسطس 2003م الموافق 24 جمادى الآخرة 1424هـ