العدد 353 - الأحد 24 أغسطس 2003م الموافق 25 جمادى الآخرة 1424هـ

الوعظ والصراع النفسي (2 - 2)

من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي به العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات. فالانسان يود ان يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم، فإذا احترم الناس صفة معينة ترى الفرد يحاول بشتى المحاولات الاتصاف بتلك الصفة والتباهي بها والتنافس عليها.

وشر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقا معينا في الحياة في الوقت الذي ينصح فيه الواعظون باتباع طريق آخر معاكس له.

وفي هذا المجتمع ذي الوجهين ينمو الصراع النفسي لدى بعض الأفراد، ويأخذ بتلابيبهم، وقد يلجأ كثيرون منهم إلى حياة الانعزال أو الرهبنة. لأنهم لا يستطيعون أن يوفقوا في انفسهم بين هذين الدافعين المتناقضين. ولذلك نراهم طلقوا الدنيا وذهبوا الى صوامعهم أو ابراجهم العاجية يجترون مثلهم العليا اجترارا.

أما الباقون من الناس، من الذين لا يستطيعون الاعتزال، فنراهم يلجأون، في سبيل التوفيق بين مبادئ الوعظ وقيم المجتمع، إلى حيلة أخرى هي ما نسميها بازدواج الشخصية، إذ نجدهم يتقصمون شخصيتين مختلفتين احداهما تصغي لما ينصح به الواعظون ثم تتشدق به والاخرى تندفع وراء ما يروق في أعين الناس من مال أو جاه أو اعتبار.

يذكر ان للانسان عقلين: ظاهر وباطن. واننا، حين نعظ الانسان في هذه الحال، فإن الوعظ لا يؤثر إلا في عقله الظاهر فقط أما عقله الباطن فلا يفهم من مواعظنا ونصائحنا شيئا إذ هو مشغول بما يوحي به العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات.

ان الانسان، كما ألمحنا إليه آنفا، يود من صميم قلبه أن يكون محترما بين الناس، مرموقا يشار إليه بالبنان، وقد يختلف الناس في كثير من الأمور، ولكنهم متفقون في الشهرة والمكانة الاجتماعية. إن هذا حافز كامن في اعماق النفس لا يستطيع الانسان ان يتخلص منه إلا قليلا ومن قال لك انه لا يريد اعلاء مكانته الاجتماعية، فهو كذاب يحاول ان يغشك أو يضحك على ذقنك.

والانسان، حين يرى قومه يحترمون المال ويقدرون اصحابه، تجده مندفعا نحو المال يجمعه فلا يبالي بأن يسرق أو يحتكر أو يرتشي أو يغتصب. ذلك انه يرى رأي العين ما يأتي به المال من جاه ونفوذ في نظر الناس. فهو يسعى نحو الغاية التي يقدرها الناس، ويستسيغ كل وسيلة في هذا السبيل.

أما إذا جاءه الواعظون أثناء ذلك يذكرونه بتقوى الله، فتلك موعظة لا تدخل إلى اعماق نفسه. إنه قد يعظ الناس مثلهم عند الحاجة، لأن عقله الظاهر امتلأ بهذه المواعظ منذ صغره، فهو يحفظها ويلقيها على غيره، ولكنه لا يثأثر بها مادامت معاكسة لقيم العرف الاجتماعي الذي نشأ فيه.

وهو بهذا المعنى اصبح مزدوج الشخصية. وازدواج الشخصية هذا يختلف في بعض الأوجه عن النفاق. فالمنافق مزدوج في قوله وفعله، ولكنه يعرف انه مزدوج، إذ هو يتقصد هذا الازدواج لكي يتزلف الى شخص او يطلب منه شيئا.

أما مزدوج الشخصية فهو لا يدري بازدواجه وهو لا يريد ان يدري. ان له في الواقع وجهين، يدارى الواعظين بأحدهما ويداري بقية الناس بالآخر. وإذا ذكر بهذا انكر... وربما ارعد وزمجر.

والمشكلة نابعة من كونه يهاب مرارة الصراع النفسي. فهو لا يريد ان يعترف بازدواج شخصيته لكي لا يشعر بوجود عاملين متعاكسين في نفسه.

وقد لاحظت، بعد دراسة طويلة، آن العرب مصابون بداء ازدواج الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم. ولعل السبب في ذلك ناشئ عن كونهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين هما: البداوة والاسلام.

فهم في بادئ أمرهم بادئ عاشوا في الصحراء، ثم جاءهم الاسلام بعد ذلك يحمل من التعاليم ما يخالف قيم البداوة القديمة.

إن قيم البداوة تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالنسب. أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة وما أشبه.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن العربي بدوي في عقله الباطن، مسلم في عقله الظاهر، فهو يمجد القوة والفخر والتعالي في أفعاله بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس.

ولست أقصد بذلك أن جميع العرب في هذه الحال سواء. إن الازدواج يظهر جليا في تلك المناطق من بلاد العرب التي هي قريبة من البداوة من جهة ويكثر فيها رجال الدين من الجهة الأخرى. فالعراقي مثلا أكثر ازدواجا من غيره من أبناء الأمم العربية الأخرى. وذلك لسببين:

السبب الأول: ان العراق كان، ولايزال، يتلقى من الموجات البدوية قسطا يفوق ما تتلقى البلاد العربية الأخرى. فهو سهل منبسط كثير الخيرات، وقد أدى هذا إلى اقبال البدو عليه منذ قديم الزمان، ولايزالون حتى يومنا هذا يفدون عليه ويستقرون فيه تدريجيا. فالمجتمع العراقي إذن وقع تحت تأثير القيم البدوية أكثر من غيره من البلاد الأخرى، باستثناء المجتمع النجدي طبعا.

والسبب الثاني: هو أن العراق كان منذ صدر الإسلام منبعا من منابع الفرق الدينية ومهبطا لكثير من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأفكاره، وفيه نشأ المناطقة وأرباب العلم والفلسفة، وفي أرجائه بحّت أصوات الواعظين والمرشدين.

لا غرو بعد هذا إذا وجدنا داء ازدواج الشخصية ظاهرا في العراق يتحلى به كثير من أبنائه. وقد يصح القول إن ازدواج الشخصية يضعف كلما ابتعدنا عن الصحراء واتجهنا نحو مراكز المدينة. ونستطيع أن نصف البلاد العربية، من هذه الناحية، على أساس بعدها أو قربها من الصحراء منبع القيم البدوية.

سيدمنصورالعلوي

العدد 353 - الأحد 24 أغسطس 2003م الموافق 25 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً