العدد 419 - الأربعاء 29 أكتوبر 2003م الموافق 03 رمضان 1424هـ

دبلوماسية التهديد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من يقرأ تصريحات المسئولين الأميركيين يجد أنها تعتمد في غالبيتها على دبلوماسية التهديد. كل يوم نسمع من هذا المسئول أو ذاك سلسلة تهديدات وإنذارات ضد مجموعة دول، وكأن اللغة الوحيدة التي يجيدها هؤلاء خرجت في النهاية عن التخاطب الدبلوماسي المعهود وباتت أسيرة عقل لا يفهم من السياسة سوى العنف والعقاب والمقاطعة والحرب.

هذه اللغة تدل على أشياء كثيرة منها قصور العقل، والضعف في صوغ التخاطب الدبلوماسي في إطار توازن المصالح، والفشل في تحقيق الأهداف، والغضب من كل تطور أو حادث معين في هذه البقعة أو تلك من العالم.

وإذا قرأنا تصريحات هذه الحفنة من السياسيين - التي تقود البيت الأبيض منذ وصول الحزب الجمهوري إلى الرئاسة - نجد أن معظم دول العالم أصابها بعض رذاذ التصريحات المتهورة التي تدل على حصول أمور تكاد تصل إلى حافة الجنون. فالغضب من أي شيء يعني أن حال اليأس بلغت مداها ولم يعد القوي (الولايات المتحدة) في وضع يسمح له باستيعاب أو فهم ما يحصل حوله من تطورات.

بدأت هذه اللغة المجنونة تشق طريقها قبل 11 سبتمبر/ ايلول وتطورت إلى حال من التوتر العصبي بعد حصول الهجمات. ومنذ اليوم الأول لوصول هذه الكتلة الشريرة إلى موقع المسئولية قررت تطوير الهجوم الأميركي على العالم بذرائع شتى. فبدأت بروسيا إذ أعلنت واشنطن أن الاتفاقات الموقعة سابقا مع موسكو انتهت لسبب بسيط هو أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجودا في الخريطة السياسية.

بعد روسيا توترت العلاقات مع الصين حين أجبرت بكين طائرة تجسس أميركية على الهبوط في مطار صيني واعتقلت طاقمها المؤلف من ثمانية مع أجهزة وأشرطة كاملة للتجسس. وجاء هذا الحادث على خلفية اكتشاف الحكومة الصينية أجهزة تنصت في طائرة الرئاسة التي أوصت بكين شركة بوينغ بصنعها خصيصا لاستخدامها من قبل الرئاسة. وبعد الصين توترت العلاقات مع بعض دول أوروبا عندما نجحت الأخيرة في تطوير علاقاتها وصولا إلى توحيد العملات الوطنية في عملة قارية. وحين بدأ اليورو يشق طريقه وأخذ ينافس الدولار في المبادلات التجارية ولجأت بعض الدول إلى مراكمة احتياطات بالنقد الأوروبي انكشفت العلاقات مجددا على مزيد من التوتر بسبب نجاح الاتحاد الأوروبي في إحراز تقدم اقتصادي فاق السوق الأميركية بخطوات إلى الأمام.

كل هذا حصل قبل 11 سبتمبر. وبعد تلك الضربة جنَّت أميركا وفقدت أعصابها ولم تعد في وضع سوي يسمح لها بالسيطرة على تصرفاتها وانفعالاتها. وهذا كله من مؤشرات الضعف وليس دليلا على القوة. فالقوة في النهاية ليست في العضلات (الآلة العسكرية) وإنما في العقل. والقوة ليست في الاستخدام المفرط للعضلات وإنما في عدم استخدامها. فالقوي هو من لا يستخدم عضلاته والضعيف هو من يكثر في استخدامها لسبب بسيط لأنه لا يملك سوى هذا الأمر ليستخدمه.

أميركا إذا ضعيفة على رغم قوتها. واستعراض العضلات (طائرات، صواريخ، حاملات، قنابل) كلها مجموعة مؤشرات تدل على الضعف وبداية نقص في المناعة. فالغضب من أي شيء واللجوء إلى دبلوماسية التهديد... كلها تدل على وجود أزمة حقيقية في الداخل الأميركي. وأساس تلك الأزمة عدم وجود عقل جمعي يستطيع التعامل مع مختلف تعقيدات السياسة الدولية وتداخل شئونها. فالأمور المعقدة بحاجة إلى عقل ناضج وعلى سوية واعية تعرف كيف تتصرف بعقلانية في لحظات الانفعال والتوتر والغضب. وهذا النوع من التفكير الدبلوماسي غير متوافر الآن في الإدارة الأميركية وخصوصا في دائرة المجانين الموتورين والعنصريين الموجودين في مبنى البنتاغون.

هؤلاء كارثة ليس على العالم فقط وإنما على أميركا بالدرجة الأولى. وخطر هؤلاء أنهم يجلبون بسياساتهم الحمقاء الكراهية للولايات المتحدة حتى من المعسكر المحسوب عليها بسبب التصريحات (المصائب) التي يطلقونها على كل دولة مخالفة لسياساتهم أو موافقة عليها.

من يقرأ تصريحات المسئولين الأميركيين يجد أنها لا توفر دولة من انغلاق العقل وانفلات اللغة. فدبلوماسية التهديد طالت الكثير من ماليزيا إلى إيران وسورية... وحتى تلك الإنذارات التي توجه إلى السعودية تقع في إطار المبالغة والتضخيم من مخاطر من دون إسناد واقعي.

إنها لغة متوترة وعقل منفعل وغاضب. وعندما تقتصر الدبلوماسية على لغة واحدة هي التهديد والحذر من كل شيء فمعنى ذلك أن هناك مشكلة حقيقية أقلها انفصام في الشخصية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 419 - الأربعاء 29 أكتوبر 2003م الموافق 03 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً