العدد 2680 - الأربعاء 06 يناير 2010م الموافق 20 محرم 1431هـ

قراءة في كتاب «استعمالات الذاكرة» لنادر كاظم

هي بين الذم و التمجيد

عندما انتهيت من قراءة كتاب الزميل نادر كاظم الذي أهدى إليَّ نسخة منه مزدانة بعبارة «من أجل أن نتعلم كيف ننسى»، وأنا المبتلى بعشق التاريخ، رحت أتساءل في نفسي هل كان الكتاب حقا يرمي إلى تأسيس علم النسيان؟ لكني وجدت أن المهمة الأساسية المعلنة للبحث لم تكن في الواقع كذلك، وإنما هو في بداية مشروع بناء ذاكرة وجمع قطعها المتناثرة في الزمان والمكان والتي تغلب فيها الثقافة الشفهية، ثم في كيفية توجيهها باتجاه المصالحة الوطنية و تعزيز السلام الأهلي وخدمة التعايش المشترك بين الجماعات والطوائف في البحرين بحسب اجتهاد الباحث.

الأكيد أن للنسيان مزايا، فهو شفاء لآلام الماضي، بل إن «النسيان أحيانا واجب وإلا أصبحنا مجانين». لكنه كذلك من المؤكد استحالة محو الذاكرة الجماعية إذ إنها صلب الثقافة والهوية، وهي بالمفهوم العلمي ذلك الشيء الذي حدث، فهو التاريخ الذي قد ينسى ولكن لا يمحى، وهو بذلك صفحات تطوى.

تتلاقى رؤية الكاتب مع قول كارل بوبر في التاريخانية. فعندما يؤدي توظيف التاريخ وتضخمه إلى غمط الحاضر فالمشكلة ليست في التاريخ. فمن سلبيات هذا النزوع الاعتقاد بأن أحداث الماضي تعود دائما لكن بشكل آخر، ما يضطرنا إلى إسقاطها على حاضرنا وبالتالي إسقاطنا في أسرها. إن ذلك هو حقا ما يجعل قوما يعيشون في هذه العصور بعقول وعادات وأخلاق هي أجدر بأهل العصور الماضية والقرون الخالية كما يؤكدها ناصر الخيري. والحقيقة أن بعض شرائح المجتمعات العربية والإسلامية تعيش هذه الحال في استدعاء الماضي أو السفر إليه لدوافع عديدة أهمها رفض الحاضر البائس أو بحثا عن الهوية المندثرة أو المهشمة. ولعلّ الأسوأ من ذلك كله هو تحوُّل الذاكرة إلى عامل للاستعمال التعسُّفي ومصدر لتوليد رغبات الانتقام بناء على حوادث سابقة، بل وموغلة في القدم مما يؤدي إلى تعقيم الحاضر ورهن المستقبل.

يعكس الكتاب الاطلاع الواسع للزميل نادر كاظم على مؤلفات محلية ظلت غائبة وحقائق مغمورة من جهة تشكل في مجملها ما يمكن أن يسمى بالتاريخ الموازي. أما الشق الثاني من هذا الاطلاع فهو تلك الكتابات الغربية العالمية المعاصرة التي وجدت طريقها إلى النص دون تكلف، حيث استطاع المؤلف أن يهضمها و يستحضرها عند الحاجة، والتي تعكس حذقه وبراعته في تطويع النصوص المتفرقة. فقد اتسم النص بنسيج متجانس وتوليف راقٍ بين رافدي الثقافتين المحلية والعالمية. كما اتسم أسلوبه اللغوي بالسلاسة والرشاقة التي تنفي الملل الذي يرافق الأعمال الأكاديمية عادة. ومع ما يكتنف النص في نظري من فقرات وجمل طويلة وغياب للعناوين الثانوية التي استبدلت بأرقام مبهمة تؤدي أحيانا إلى نسيان ما قد قيل من قبل، فإنها تنتزع من القارئ الصبر والشوق لما هو آتٍ مما يوطنه على أسلوب المؤلف بعد تجاوز الصفحات التأسيسية الأولى.

تشكل الذاكرة في نظر المؤلف حجر الزاوية في الهوية الجماعية. وفي المجتمع التعددي يدعو المنطق إلى الاعتراف بأن لكل جماعة ذاكرتها الخاصة التي لا تتطابق بالضرورة مع ذاكرة الآخرين الذين يتقاسمونها الفضاء المعيشي. ولذلك فإن التعدد الثقافي والاثني في المجتمع الواحد بقدر ما هو مصدر الغنى الثقافي، فهو كذلك عامل هشاشة للوحدة الاجتماعية، خاصة عندما تتعرض «الذاكرة» إلى التوظيف الإيديولوجي والسياسي من باب المطالبة والمغالبة. ولذلك فإن الإشكالية هو كيفية الحفاظ على تلك «الذاكرات» من أجل حفظ الهويات الجماعية والتعدد الثقافي، وفي نفس الوقت ضمان استعمال كل منها بالشكل السليم في سبيل التعايش والتفاعل الإيجابي بين الفئات المختلفة.

يتطلب المنهج الأكاديمي عادة جمع الشواهد المقنعة والموضوعية ثم الحياد في التعامل مع المصادر وعدم الإقصاء. وفي حال ندرة المصادر وقلة الآثار يضطر الباحث إلى الاكتفاء بما هو حاضر فتأتي الذاكرة قصيرة بحداثة الأحداث المذكورة. وفي غياب الشواهد الدامغة، فإنه كثيرا ما تزحف الأساطير والمرويات على فراغ الذاكرة. إن عمر تاريخ البحرين الثقافي بحسب التقديرات الأركيولوجية يعود إلى ما يقرب من خمسة آلاف سنة، وهو ما يجعل مساحة الذاكرة التي لجأ إليها المؤلف لبناء مشروعه قصيرة بالقياس إلى هذا العمق وإلى الطبقات الدفينة الأخرى، وتولد في ذهن القارئ رغبة في الاستزادة وتساؤلات حول سبب الاكتفاء بهذه الطبقة من الذاكرة و عدم النبش فيما قبلها. في حين تتطلب نوعية تلك المصادر المتأرجحة بين الأساطير والوقائع النقد الدقيق لاستخراج الحقائق باللجوء إلى سنن العمران البشري و قواطع الأدلة العقلية.

لا يمكن الحديث عن الذاكرة خارج نطاق الزمن وقانونه. لكن عدم الالتزام بالتسلسل الزمني في تحليل الذاكرة قد يعطي النص تركيبا تفكيكيا - بالمفهوم الفني المعاصر- لا يفهم إلا بعد لمّ أجزائه. لقد ذكرت المحطات الكبرى لتلك الذاكرة في نص الكتاب بطريقة تكاد تكون ارتدادية في حركة معاكسة للتطور الزمني. ولعله من هذه الزاوية يمكن أن نستسمح المؤلف لنطرح من باب الاجتهاد إمكانية إعادة ترتيب النص وقراءة مادة الكتاب من الآخر إلى الأول إذا ما أردنا إدراك الذاكرة التي أعيد بناؤها، والالتزام بنصيحة النسيان. وتكون البداية من هذا المنظور بحسب ما جاء في مادة الكتاب الشتات و الخراب التي أعقبت تركة ثقيلة لورثة ذلك الخراب تمثلت في هشاشة الناجين، والتي تساهم في تفسير معضلات الدولة الحديثة ومن ثم ضرورة البحث عن التوافق داخل الدولة.

يطرح الكتاب في رأيي معضلة الارتباط بين المعتقد والذاكرة، وبين المقدس والمدنس. والفرق بينهما هو كون الأول راسخ في الوجدان وخارج عن قانون الزمان والمكان فيما تكون الذاكرة عادة هي تلك الأحداث البشرية التي جرت في الأوطان وشهدتها الأجيال والأبدان وحفظتها العقول والأقلام من النسيان. تتسلل الكثير من الأحداث التاريخية التي جرت وفق سنن كونية سببية بالمفهوم الخلدوني، إلى المجال المقدس وتتحول إلى عقائد عميقة يصعب زحزحتها ومن ثم صعوبة بل واستحالة المطالبة بنسيانها. ولعل ما يوحي في النص بوقوع المؤلف في أسر التاريخ المقدس هو ذلك التأطير الفكري للكتاب الذي يتخذ من زمن الخراب أو الشقاء بداية للتأريخ للذاكرة بل وجعله أصلا للوجود الذي سينتهي لا محالة بزمن الخلاص لكن بعد انتهاء الوجود. لذلك يبدو أن فك الارتباط بين الطرفين هو الجرعة الأولى لإعمال دواء النسيان الذي يصفه المؤلف.

في اعتقادي أن الذاكرة غير مقدسة، وكذلك الهوية التي تقوم عليها. فكثيرا ما تحفل ثقافات مجتمعات ما بعوائق إبستمولوجية بمفهوم باشلار. ومن ثم يجب أن تخضع الذاكرة إلى المحاسبة والنقد والتصفية من الشوائب السالبة التي تتجه باتجاه مخالف لمفهوم الاستخلاف في الأرض. فالمجتمع الذي تطغى على حياته الكثير من المناسبات والأعياد والتي تعطل مصالحه الحيوية و تجذبه إلى الخلف ستكون مثل حبال اللجام الكثيرة على فم الحصان، تمنعه أو تبطئه من التقدم كلما همّ بالسير. ولعلّ تخلّص الفكر الغربي العلماني المعاصر من الكثير من الماضي بما فيه من مساوئ، فيه على الأقل جانب من الصواب يتمثل في تحرير العقل والذاكرة من الرواسب السالبة، وقد أدّى ذلك بالإنسان الغربي إلى القفز نحو الأمام و استكشاف المستقبل المجهول، وبناء الحضارة المعاصرة.

ثمة مسألة مستعصية أخرى تتعلق بالحدود الفاصلة بين الأكاديميا و الإيديولوجيا، تتمثل في مدى التزام الباحث بمتطلبات وشروط الأكاديميا من جهة، ودوافع المثقف المنخرط في قضايا مجتمعه المتشابكة التي يعيش همومه. فقد جاء الكتاب في غالبه بناء أكاديميا رصينا يهدف إلى تحليل آلات التذكر على المستوى الاجتماعي ودور تلك الآليات في تعزيز أو إضعاف التماسك الاجتماعي في المجتمعات المتعددة. غير أن المطالب السياسية التي تبرز جليّة في الفصل الختامي يضع الكاتب وسط الأدلجة الأكاديمية الواضحة، طالما حاول الباحث التنصُّل منها أو نفيها في أعمال أخرى. لقد بدا لي الكتاب متأرجحا بين البحث العلمي من جهة، وما يشبه الوثيقة التأسيسية لعمل سياسي يتخذ من الديمقراطية التوافقية حجر الزاوية من جهة أخرى.

يغوص الكتاب في الكثير من الأحيان داخل المحيط المحلي وفي ذاكرة الطائفة الواحدة، التي تكون في الكثير من الأحيان على حساب المؤثرات الجيوستراتيجية للمحيط الإقليمي من جهة، و «ذاكرات» الطوائف الأخرى التي سلّم ابتداء بوجودها وأعلنها في عنوان الكتاب. فبحكم مساحة البحرين وحجمه من جهة وموقعه بين القوى الإقليمية الكبرى، ثم الامتدادات العقائدية و الإثنية لطوائف المجتمع كثيرا ما تكون إيقاعات الأحداث امتدادا للموجات الخارجية. أما «الذاكرات» الأخرى غير الرسمية، فإن الاجتهاد في إعادة بنائها ستدفع حتما إلى اكتمال البانوراما التاريخية ما ينفي عن الدراسة تهمة الانخراط في التحيز والإقصاء الثقافي- بمفهوم المرحوم عبدالوهاب المسيري - ويوسع دائرة قبولها. كما تبقى إشكالية الأصيل والدخيل التي تمتد روافدها إلى ملف العمالة الوافدة والتجنيس وغيرهما مادة قابلة للمعالجة المتحيزة في غياب الرؤية الموضوعية من جهة والمتعددة من جهة أخرى.

ويبقى الكتاب أحد المصادر الغنية التي تساعد على فهم التركيبة الاجتماعية الداخلية وعلى الاطلاع على المكبوت السياسي والاجتماعي والثقافي مما يصلح أن يكون نقطة انطلاق لحوار اجتماعي داخلي بنّاء يصب في مشروع التأسيس للعيش مع بعض، ويجتهد في وضع أسس ذلك التعايش في المجتمع التعددي.

إنه كذلك إحدى معالم الحياة الفكرية في البحرين التي تجسد الحراك المجتمعي الذي تعيشه البلاد في ظل الحرية السياسية السائدة. وتقدم مادته العلمية الغنية و اجتهادات المؤلف الجريئة إغراء لا يقاوم للانخراط في الحوار وإبداء الرأي كسبيل وحيد للعيش معا.

العدد 2680 - الأربعاء 06 يناير 2010م الموافق 20 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً