العدد 2687 - الأربعاء 13 يناير 2010م الموافق 27 محرم 1431هـ

إعادة تحديث شخصية المحقق الجنائي الذكي

«شارلوك هولمز» في سينما السيف

شخصية المحقق الجنائي البريطاني شارلوك هولمز المختلقة لا تزال حتى الآن تثير المخيلة وتنتج تلك الروايات عن عبقرية غير موجودة.

الشخصية فرضت حضورها منذ البداية بسبب واقعتها الذكية وقدرتها على كشف ملابسات الجرائم المفترضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

آنذاك كانت بريطانيا إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس. وهي أيضا كانت تشهد تطورات متسارعة على مختلف الصعد الصناعية والتقنية والفنية والفكرية والعمرانية والعلمية في عهد عاصف بالصراعات الدولية. وبسبب هذا النمو الذي شهدته بريطانيا في ظل تاج الملكة فكتوريا تحولت لندن إلى عاصمة المال والتجارة ونقطة جذب لكل الباحثين عن الشهرة. فهذه المدينة استقطبت كبار المفكرين والفلاسفة ورجال السياسة من أوروبا والعالم، وأخذت تتشكل في تضاعيفها الكثير من المدارس والمناهج التربوية والاقتصادية ما أعطى حيوية خاصة لقطاعاتها الإنتاجية التي دخلت في معترك التنافس.

نجاح لندن في التحول إلى مدينة عالمية (كوزموبولتية) ساعدها على تكوين ثقافة غنية بالروافد الإبداعية وتحديدا في المناطق المختلطة بالسكان. ففي تلك الشوارع والأزقة والأحياء تأسست أول محطة اندر غروند (تحت الأرض) في بيكر ستريت في العالم.

ومن خطوط محطة الأنفاق الأولى أخذت تنتشر الأفكار مستفيدة من تطور المخيلة التي بدأت تقرأ المستقبل من خلال الحاضر الزاهر وما ينتجه من تحولات يومية.

في هذا الفضاء المتوالد من الماضي والمستقبل ابتكرت شخصية المحقق هولمز العبقرية التي تمتاز بالربط والتفكيك والقدرة على الكشف ومعرفة المجرم الحقيقي من خلال تتبع البصمات والأخطاء والثغرات.

نالت شخصية هولمز شعبية كاسحة لدى قراء الروايات البوليسية إلى درجة أثارت غضب مختلقها. فالكاتب الذي رسم شخصية هولمز وقصصه الوهمية غاب عن المسرح وعاش البطل المختلق في ذهنية الناس. حتى الآن هناك الكثير من المطاعم والملاهي والمقاهي والفنادق تحت اسم «شارلوك هولمز» في منطقة بيكر ستريت (محطة الأنفاق) في لندن بينما الكاتب الذي اخترع الشخصية لا أحد يذكر اسمه. وهناك الكثير من الأجيال التي تربت على عبقرية هولمز وقدرته الفائقة في كشف الجرائم لا تعرف أن هذه الشخصية وهمية وغير موجودة تاريخيا وهي مجرد كاريكاتير اختلقه أحد كتاب الروايات البوليسية.

مناسبة كتابة هذه المقدمة الطويلة جاءت ردة فعل على فيلم «شارلوك هولمز» الذي يعرض الآن في سينما السيف.

فالشريط رائع في أسلوب إعادة هيكلة شخصية هولمز وإظهارها مجددا في إطار متجدد يعيد رسم الذكاء في سياق معاصر من دون قطع مع الماضي وظروف المكان والزمان التي تم خلالها تخليق صورة هذا المحقق الجنائي.

شخصية هولمز التقليدية تم رسمها في العهد الفكتوري حيث كانت بريطانيا لا تزال الدولة الأولى في العالم. وبسبب خصوصية الزمان والمكان جاءت الشخصية متناسبة مع ثقافة تقليدية صارمة في كلاسيكيتها وقوية في رؤيتها وتحليلها وقدرتها على تتبع الجزئيات والتفصيلات للتوصل إلى كشف المجرم.

هولمز في حقبة فيكتوريا استخدم تطور العلوم والمختبرات والهندسة والطب والتشريح في عمله البوليسي. وبسبب شخصيته الذكية لم يعد عمل الشرطة المطاردة والملاحقة والتعقب وإطلاق الاتهامات من دون أدلة دامغة وإثباتات حسّية بل تحول إلى جهد فني وتقني وعلمي وهندسي وطبي يستخدم العلوم والتشريح والبصمات لمحاصرة المجرم والقبض عليه.

شكلت هذه الشخصية النموذجية في عالم الجنائيات ثورة في حقل الجنائيات وتحولت إلى أسلوب عمل واقعي أخذت تستخدمه الشرطة لاحقا في عملها المهني. فالشخصية البوليسية الوهمية التي اخترعها كاتب روايات أصبحت واقعية وتحولت إلى قدوة يتنافس رجال الشرطة على تقليدها والأخذ بأدواتها ومنهجها في التقصي والانتباه إلى الجزئيات والتفصيلات.

وبسبب هذه الخصوصية نجحت شخصية هولمز في الصمود على رغم التقادم الزمني وتحولت قصصه الرمزية إلى نموذج يعتمد في التدريس والمقارنة في عالم تحيطه السرية ويكتنفه الغموض.

الشريط السينمائي الذي يعرض الآن في السيف من تلك الأفلام التي حاولت إحياء شخصية هولمز وتطويرها لتتجانس مع فضاءات القرن المعاصر واختلاف ظروف المكان والزمان. بريطانيا لم تعد الدولة الأولى في العالم، وإمبراطوريتها تفككت دولة بعد أخرى وأصبحت الشمس تغيب عنها كل مساء. كذلك لم تعد رائدة في التصنيع والتقنية والاختراعات والاكتشافات، وبيكر ستريت (محطة الأنفاق الأولى) أصبحت عادية وروتينية في عالم القطارات السريع.

كل هذه التحولات والمتغيرات لم تمنع مخرج الفيلم من العودة إلى بيكر ستريت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليبدأ رحلة البحث عن هولمز وإعادة حفر تلك الشخصية البوليسية (المحقق الجنائي) الفذة وتطويرها وتطويعها لتكون جاهزة للتسويق من جديد في مطلع القرن الواحد والعشرين.

جيمس بوند

«شارلوك هولمز» الذي نشاهده الآن على شاشة السيف ليس ذاك في صورته الأصلية. فالشخصية أعيد تشكيلها وهندستها لتمزج بين القوة والذكاء. القوة العضلية هي العنصر الإضافي الذي نجح المخرج بإدخاله إلى جانب الذكاء ودقة الانتباه والملاحظة. وأدى المزج المعاصر بين الجسد والعقل إلى توليد هولمز جديد يجمع الشخصية الكلاسيكية (التقليدية) إلى شخصية العميل السري صفر صفر سبعة.

جيمس بوند شخصية جاسوسية مختلقة تم اختراعها في نهاية خمسينات القرن الماضي لتقوم بدور بطولي في مواجهة المخابرات السوفياتية في عصر «الحرب الباردة». والفارق بين الجاسوس والمحقق الجنائي أن حقل الأول يقوم على المطاردة والتعقب في الخارج بينما تقتصر مهمة حقل الثاني على الداخل البريطاني.

الفارق الآخر أن بوند يعتمد على عضلاته والتقنيات المعاصرة والمبتكرة خصيصا للقتل أو الكشف أو تحديد أمكنة الجواسيس، بينما هولمز يعتمد على عقله وعلومه ومعارفه واكتشافاته واجتهاده الخاص في تطويع المعلومات لتحديد هوية المجرم.

الجديد في شخصية هولمز التقليدية الذكية كان نجاح المخرج في إدخال قوى بوند العضلية وإدخالها في سياق مختلف. وأدت عملية الدمج بين هولمز وبوند إلى إنتاج شخصية مختلفة تزاوج بين الذكاء والقوة بين عالم الجريمة وعالم الجاسوسية ما أعطى نكهة خاصة للفيلم ساعدت على نجاحه في جذب الملايين من المشاهدين في صالات العالم.

قصة الشريط السينمائي ذكية لأنها أنتجت شخصية حركية ومرغوبة في إطار معاصر ربط بين مسرح الجريمة الضيق جغرافيا ومساحة المجرم الزمنية والذهنية. فالمجرم عضو في مجلس اللوردات (الشيوخ) البريطاني في القرن التاسع عشر ويعتمد السحر للظهور في موقع صاحب المعجزات والقادر على قهر الطبيعة وتحدي قوانين الصانع لتحقيق أهدافه الرخيصة والدنيئة وطموحه نحو المصادرة والهيمنة.

والمحقق (هولمز) داهية يدرك علميا أن تلك الأساليب مجرد أكاذيب تريد الخداع للسيطرة وتخويف الناس وإذلالهم وتطويعهم بقصد استخدامهم في معركة وهمية.

الصراع إذا بين العلم والخرافة. هولمز الذي ينحاز إلى العلم المعزز بالقوة البدنية (بوند) والدجال ينحاز إلى الخرافة لتخويف الناس وإرهابهم وكسبهم في معركة الشارع.

وتدور بين القوتين معارك تتداخل فيها شخصية هولمز الذكية بشخصية بوند القوية لمواجهة الخرافة التي تستخدم الاكتشافات والاختراعات لاستهواء العامة وسلب إرادتها وعقلها تمهيدا لاستدراجها نحو مواجهات ستؤدي إلى إنهاكها وانهيارها.

قصة الفيلم ذكية لأنها دمجت بين سرعة الحركة المعاصرة والذكاء التقليدي لتشكل أخيرا شخصية فريدة استطاعت كشف المنافق وفضح أسراره وألاعيبه أمام مجلس اللورادات والعامة. والنهاية التي توصل إليها الشريط السينمائي تشير إلى احتمال بدء سلسلة من الأفلام تطرح معضلة الصراع بين العقل والخرافة أو بين الخير والشر في إطار تاريخي يعود بالذاكرة إلى القرن التاسع عشر من دون أن يقطع صلتها بالعالم المعاصر وما يشهده من عودة (ارتداد) إلى زمن اعتقد الفلاسفة أن وعي البشر تجاوزه.


مؤلف شخصية «شارلوك هولمز» آرثر كونان

- ولد في مايو/ أيار العام 1859، مدينة أدنبورغ، اسكتلندا.

- مؤلف شخصية «شارلوك هولمز» الخيالية.

- درس الطب في جامعة أدنبورغ، وتأثر كثيرا بشخصية أستاذه، جوزيف بل، الذي كان يتمتع بقدرة غير عادية على الاستنتاج .

- بعد دراسته الطب، انتقل للعيش في العاصمة البريطانية (لندن)، وافتتح له عيادة، لكنها لم تحقق له النجاح الذي كان يتمناه.

- في العام 1887، بدأ بكتابة القصص القصيرة للمجلات لزيادة دخله، والتي لم تنل أيضا النجاح في البداية.

- بعد نشر روايته الأولى عن شارلوك هولمز العام 1887 أخذ نجمه في الصعود.

- كتب قصة أخرى، وبطلها شارلوك هولمز أيضا، وهي شخصية رجل التحري الذكي القادر على فك ألغاز الجرائم معتمدا على إمكاناته الذهنية وقوة الملاحظة واتباع طريقة الملاحظة والتحليل والاستنتاج بالاعتماد على العلم والمنطق.

- بعد عدة قصص وروايات كتبها، أصبحت شخصية «هولمز» أكثر شهرة من مبتدعها (دويل)، لذا أراد قتلها، فقتلها في روايته الشهيرة «قضية شارلوك هولمز»، إلا أن جمهوره اعترض على ذلك، فقام دويل بإعادة شخصية «هولمز» إلى الحياة مجددا في قصصه الأخرى.

- بلغ مجموع القصص والروايات التي كتبها وظهرت فيها شخصية «شارلوك هولمز» نحو 60 عملا، جلها من القصص القصيرة، حتى أصبح من أكثر كُتاب القصة القصيرة دخلا في عصره.

- قام بإنقاذ رجلين من الموت شنقا عندما أثبت براءتهما باستخدام الأساليب نفسها التي اتبعها في رواياته.

- تم تحويل الكثير من رواياته وقصصه إلى أفلام سينمائية وأفلام كارتونية.

- عاش دويل حياه متغيرة، إذ كان مؤرخا، صياد حيتان، رياضيا ومراسلا حربيا.

- منحته ملكة بريطانيا فكتوريا لقب الفارس (السير) في العام 1902 لأعماله الجليلة في بناء مستشفى ميداني في جنوب إفريقيا.

- توفي دويل في يوليو/ حزيران العام 1930.


الشخصيات الرئيسية في الفيلم

روبرت دوني (شارلوك هولمز)

جودي لو (الدكتور جون واطسون)

راشيل ماك آدمز (آيرين أدلر)

مارك سترونغ (لورد بلاك وود)

روبرت ماليت (دريدغر)

جيرالدين جيمس (هدسون)

كيلي ريلي (مارك مورستان)

ويليام هوسيني (كاتب شرطة)


الفنيون

إخراج: جاي ريتشي

المنتج المنفذ: بروس بيرمان

موسيقى: هانز زيمر

تصوير سينمائي: فيليب روسيلوت

العدد 2687 - الأربعاء 13 يناير 2010م الموافق 27 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً