العدد 2345 - الخميس 05 فبراير 2009م الموافق 09 صفر 1430هـ

النخبة الأوروبية انقسمت على الفلسفة الإسلامية

الفكر العربي - الإسلامي في صناعة الفلسفة المعاصرة (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لعبت المدن العربية والإسلامية دورها التاريخي في تطوير فن العمارة وساهمت في تنظيم الحياة الاجتماعية من خلال ترتيب الأحياء وتشكيلها وفق رؤية مهنية - حرفية راعت التقاليد الدينية وتنوع الثقافات. وعن دور المدن الإسلامية والعربية في الأندلس (إسبانيا) وصقلية (جنوب ايطاليا) في التأثير على النهضة الأوروبية المعاصرة يشير عبدالواحد ذنون طه في دراسته إلى مكانة طليطلة في نقل العلوم الإسلامية إلى أوروبا بعد سقوطها في يد الفرنجة في السنة 478 هجرية (1085م) إذ تحولت إلى مراكز للترجمة من العربية إلى اللاتينية حين شجع كبير اساقفتها دون ريموندو (توفي السنة 546 هجرية/1151م) الباحثين «على السفر إليها والعمل لنقل الكتب العربية إلى اللاتينية». ويرى ذنون طه أن العصر الذهبي للنقل والترجمة إلى اللاتينية كان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على رغم استمرار النقل والترجمة في القرون اللاحقة.

لكن تأثير الترجمات الأولى كان له الوقع الكبير على الحياة الفكرية والجامعات في أوروبا حين أصبحت العلوم والفلسفة في شتى فروعها ومدارسها متوافرة للمرة الأولى في أوروبا التي عرفت آنذاك ما يمكن تسميته بعصر «الاستعراب».

يركز ذنون طه في دراسته على دور مايكل سكوت (توفي 631 هجرية/ 1236م) حين نقل الكثير من كتب ابن رشد إلى اللاتينية. ويقال إن المترجم اندراوس اليهودي قام بمعاونته في النقل والترجمة. إلى جانب سكوت واندراوس اشتهر هرمان الألماني بنقل مؤلفات ابن رشد إلى اللاتينية. وساهمت هذه الترجمات في نشر «المذهب الرشدي» في جامعة باريس وجامعات شمال ايطاليا فأصبحت مسرحا للأفكار الحرة وانتشرت منها إلى الكنائس، فاشتهر فلاسفة ورجال دين منهم اسكندر دي هالس، وبونا فنثورا، والبرت الكبير، وتوما الاكويني، وروجر بيكون، وجيل دي روم، وسيجر دي برابانت، وريمون لول.

قاد سيجر دي برابانت التيار الرشدي في جامعة باريس واشتهر كأستاذ في كلية الآداب في حدود السنة 659 هجرية (1260م) ووجدت أفكاره صدى لدى غيره من الأساتذة مثل جيرو الابغيلي. كذلك نسبت آراء إلى ابن رشد قام بترجمتها رجل مجهول يدعى موريس الإسباني. وبسبب انتشار «الرشدية» نشب صراع بين الكنيسة والجامعة انتهى إلى منع تدريس كتب ابن رشد أو تلك المنسوبة إليه من المترجم موريس الإسباني. وجدد البابا غريغوري التاسع في السنة 629 هجرية (1231م) في رسالة إلى أساتذة كلية اللاهوت هذا المنع، إلا أن قرار المنع فشل في تحقيق غاياته فتراجعت الجامعة عنه في السنة 653 هجرية (1255م). وما لبث أن نشبت خلافات بين الأساتذة انقسمت إلى رشدية وغير رشدية فاضطر أسقف باريس اتين تومبيه إلى التدخل في السنة 688 هجرية (1269م) والاتفاق مع الأساتذة على تحريم تدريس 13 مسألة من أفكار ابن رشد.

برز في جامعة باريس أكثر من اتجاه فهناك تيار البرت الكبير وتلميذه توما الاكويني إذ درّسا بالتتابع في جامعة باريس بين 1234 و1272 وقاما بالرد على أفكار ابن رشد ومناقشتها من موقع «إيماني مسيحي» تناول تحديدا مقولة وحدة العقل، وانضم اليهما جيل دي روم الذي وضع الكثير من الرسائل ضد «الأضاليل» الرشدية.

مقابل التيار اللارشدي نهض تيار مضاد قاده سيجر دي برابانت بمعاونة صديقه جيروالا بفيكي عمل على نشر أفكار ابن رشد والتشجيع على دراستها. وتطور الصراع بين التيارين فتدخلت الكنيسة وحرمت تدريس ابن رشد في جامعة باريس بين 670 و676 هجرية (1271-1277م) وانتهى بطرد دي برابانت وصديقه جيرو من كلية الآداب ثم أحيلا إلى ديوان التفتيش وتدخل البابا نقولا الثالث لمنع قتلهما. ووضع دي برابانت تحت الإقامة الجبرية وقتل في حادث غامض على يد سكرتيره.

لم يضمحل التيار الرشدي في أوروبا بمقتل دي برابانت بل استمر يثير الجدل في الأوساط الأكاديمية والدينية في وقت شارفت حروب الفرنجة في بلاد الشام على نهايتها وعجزت أوروبا عن إعادة تجديدها. وانقسم التيار الرشدي إلى مدرستين: واحدة تفند أفكاره وترد عليها، وأخرى تدافع عنها وتحاول نشرها وتدريسها. وقاد التيار المضاد الذي أسسه توما الاكويني شخصية عرفت بمعارضتها للرشدية هو رامون لول الذي جاء من جزيرة ميورقا الأندلسية.

درس لول السنة 687 هجرية (1288م) في جامعة باريس وأخذ بالتنقل بين باريس وفيينا ومونبلييه وجنوى ونابولي وبيزا ساعيا إلى تفنيد آراء ابن رشد في سنتي 711 و712 هجرية (1310-1312م). واقترح على البابا كليمونت الخامس تأسيس كليات لدراسة اللغة العربية بهدف محاربة الإسلام والدعوة إلى تنصير المسلمين في المناطق التي خضعت لحكم الإفرنج. وقام لول بتأليف 18 كتابا في الرد على ابن رشد والرشدية واستمر في نشاطه المضاد إلى أن توفي في السنة 715 هجرية (1315م)، بينما واصل خصمه جان دي جاندان دفاعه عن ابن رشد ونقده لآراء توما الاكويني.

قام جاندان بتدريس الرشدية في كلية الآداب في جامعة باريس، كذلك في كلية اللاهوت وانتقل إلى جامعة بادو التي تأسست في شمال شرقي ايطاليا في سنة 619 هجرية (1222م) ورد على انتقادات توما الاكويني لفلسفة ابن رشد واستمر على نشاطه إلى أن توفي في السنة 729 هجرية (1328م).

بقي التجاذب بين التيارين إلى أن تراجعت جامعة باريس عن قرارها في تدريس ابن رشد في عهد الملك لويس الحادي عشر حين سمح بتدريسه بمرسوم أصدره في سنة 888 هجرية (1473م). آنذاك كانت الرشدية انتشرت في أوساط المثقفين والأكاديميين ورجال الدين وأخذت بترسيخ أقدامها انطلاقا من جامعات شمال شرقي إيطاليا (بادو والبندقية) ما أدى إلى إلغاء قرار التحريم.

التراجع جاء بعد أن برز تيار قوي يقوم بتدريسه والدفاع عنه ونشر أفكاره والتأليف عنه قاده سرفيت اربانو(من بولونيا) واوغسطين بول (من البندقية) توفي سنة 833 هجرية (1429م) وغايتانو دي تين توفي في 870 هجرية (1465م)، ونيكوليتي فرينانس الذي درس في جامعة بادو في سنوات 886-905 هجرية (1471-1499م). وانتشر أيضا التيار الرشدي في جامعة اوكسفورد البريطانية في القرن الخامس عشر فبرز من أنصاره يوحنا البكنتروبي ووالتر بورلي.

على رغم صدور مرسوم بابوي في السنة 918 هجرية (1512م) بتحريم الرشدية بعد عقد مجمع لاتران، حصل تحول لمصلحة ابن رشد في القرن السادس عشر، كما يذكر ذنون طه في دراسته، بفضل مجموعة أساتذة الجامعات الإيطالية منهم أوغسطين نيفوس، ومارك انطوان زيمارا، إذ قاما بترجمة كتبه وشرحها بين 901 هجرية (1495م) و988 هجرية (1589م). ويعتبر سيزار كريمونيني آخر ممثل صريح للرشدية في أوروبا حين درّس أفكاره لمدة 17 سنة في جامعة فرار و40 سنة في بادو. وبوفاته سنة 1041 هجرية (1631م) انتهى نفوذ الفلسفة الرشدية في ايطاليا وأوروبا بعد مقاومة دامت أكثر من ثلاثة قرون.

آنذاك بدأ عصر الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي شاعت أفكاره في أوروبا قبل وفاته في سنة 1061 هجرية (1650م). ولولا التيار اللاهوتي الفلسفي الذي انتعش بتأثير أفكار ابن رشد سلبا أم إيجابا لما عرفت أوروبا تلك النهضة الفكرية التي بدأت بترجمات وتعليقات وردود وشروح البرت الكبير، وتوما الاكويني، وبونا فانتور، وسيجر دي برابانت، وروجر بيكون، وريمون لول على أفكار فيلسوف الأندلس في نهاية القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الميلادي.

يرى علي الشنّوفي في دراسته، أن كتب أرسطو مرت إلى العالم اللاتيني في مرحلتين: الأولى (دامت سبعة قرون) تمتد من مطلع القرن السادس وتتواصل إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي ولم يتم فيها الاطلاع إلا على كتابات ارسطو في المنطق. والثانية بدأت في نهاية القرن الثاني عشر وامتدت إلى مطلع القرن الرابع عشر الميلادي حين ظهرت كل كتابات أرسطو مترجمة من اليونانية إلى اللاتينية أو منقولة عن العربية والعبرية.

برأي علي الشنّوفي أن التأثير الفلسفي الإسلامي لم يقتصر على ابن رشد بل تأثرت مدارس أوروبا في حركتها الأدبية بالصوفية والتصوف الإسلامي، كذلك تأثر الشاعر دانتي اليغياري بالآداب العربية واستقى أفكاره من «رسالة الغفران» للمعري، و«التوابع والزوابع» لابن شهيد، و«رسائل النقد الآدبي» لابن شرف. كذلك أثرت كتابات الإمام الغزالي ورسائله وسجالاته في الحركتين الأدبية والفلسفية حين أخذ عنه الكاتب الإسباني غراسيان (توفي 1658م) قصة الإنسان والحيوان، وأخذ ديكارت عنه فكرته الفلسفية (الشك أول مراتب اليقين) من كتابه «المنقذ من الضلال»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2345 - الخميس 05 فبراير 2009م الموافق 09 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:27 ص

      المغرب

      ممكن تساعدون في هدا السؤال ماهي مميزات وخصائص الفلسفة لابن رشد

اقرأ ايضاً