العدد 2702 - الخميس 28 يناير 2010م الموافق 13 صفر 1431هـ

دمج التصوف المسالم بنزعة عقلية

سيرة ابن عربي وأعماله (3)

ساهمت سيرة ابن عربي في تكوين أفكاره. فالشيخ العارف الذي صنف أكثر من 100 مجلد هو نتاج مركب من المدارس الفقهية والفلسفية والصوفية. ولعبت نشأته الأولى الدور الأساس في رسم معالم طريقه الخاص، فهو سليل أسرة كانت على صلة يومية بشيوخ التصوف والعلماء (عدد اساتذته أكثر من عشرين) ومنهم تعلم الخصال الحميدة ومكارم الأخلاق، من تقشف وزهد واجتهاد وجهد، من دون ان ينقطع عن محيطه. فهو استمر على علاقة بعصره ومشاكله السياسية وما يصطرع فيه من آراء ومعارف. فاستفاد من النتاج الفقهي وتعدد تياراته في الاندلس واطلع على أعمال العلماء على تراتبهم وأنواعهم فأخذ من الشافعية وهو مالكي المذهب، وتعلم الكثير من المنهج الظاهري في قراءة القرآن واستخدمه لتأصيل الفهم العرفاني لمعاني الآيات، واطلّع على تصانيف الإمام الغزالي اضافة إلى كتب التيار الفلسفي - الفقهي وغيره من مدارس وتعاليم، كأعمال ابن باجه وابن طفيل وابن رشد. فأفكاره نتاج معرفة تراكمت أو انتقلت من المشرق إلى المغرب لتعيد تكوين خصائصها وفق متطلبات البيئة الاندلسية. فهو تأثر بتعاليم متصوفة المغرب في شبابه ثم عاد وتأثر في حدود معينة بتعاليم متصوفة المشرق، وقام بصهر تلك الموروثات (الفقهية والفلسفية والصوفية) وأعاد تركيبها وتوليفها بأسلوب إبداعي تميز به عن أقرانه من المتصوفة. فابن عربي نقل التصوف من علم لا دليل له ولا برهان عليه إلى نظرية تربط الممارسة بالفكرة، فهو اشار للعقل وذكر «ان للعقل ثلاثمائة وستين وجها» (الجزء الأول، ص 86). وقسم العلوم على ثلاث مراتب: علم العقل، علم الاحوال، علم الاسرار. فاعتبر العقل «علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر»، واعتبر الاحوال «علم لا سبيل اليه إلا بالذوق»، واعتبر الاسرار «علم فوق طور العقل» ويسميه احيانا «علم نفث روح القدس». ورأى في علم الاحوال انها متوسطة بين علم الاسرار وعلم العقول (الجزء الأول، ص 71).

عرف عن ابن عربي تصانيفه الكثيرة. وبسبب سهولة الكتابة عنده اضطر لكثرتها ان يضع لمؤلفاته فهرسا بقلمه. وتدل عناوينها على محتواها، فإلى الفتوحات المكية وضع قاموس اصطلاحات لشرح المعاني الصوفية للمفردات الواردة في الفتوحات. إلى ذلك قام بتفسير القرآن بأسلوب مميز اختلف في منهجه عن التفاسير التي سبقته، وتحدث كذلك عن الانسان الكلي وطرق معرفة العالم العلوي والسفلي، وعن اشارات القرآن في علم الانسان، وحلية الابدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال. فكتاباته هي «فصوص الحكم» حاول من خلالها توسيع دائرة التصوف ونقلها من الخاصة إلى العامة مستخدما مفردات القرآن كمفاتيح للمعرفة تطل على ابعاد باطنية لظواهر الآيات.

فتوسيع الدائرة دفعه إلى قراءة زمنية للتصوف فاتجه عموديا إلى عمق التاريخ محاولا أن يربط مختلف الظواهر الحميدة في العهد الراشدي بدلالات تشير إلى الأصل الاسلامي لكل حركات التصوف. وأملت عليه مهمة توسيع الدائرة إلى ربط مختلف الظواهر في معنى واحد يتجلى في مراتب مستفيدا من غنى القرآن بالكلمات لتحديد درجة كل فئة من الناس. وساعدته معرفته الموسوعية باللغة لاستنباط الاشارات والرموز وإعادة تفسير المفردات في سياق منهجي له دلالات أعمق من ظاهرها.

كان هدف ابن عربي تحطيم التصورات المسبقة عن التصوف وإعادة ادراج تلك الحركات (الزهد والتقشف والدروشة) في نظام معرفي متكامل ومتماسك يتميز بموقف واضح من الوجود والكون والحقيقة والانسان. فاستفاد من رأي ابن حزم عن الحقيقة وتمسك الأخير بمفهوم الطريق الواحد للوصول اليها واستخدمه لربطه بآراء ابن باجه وابن طفيل وابن رشد التي تقول ان الحقيقة واحدة وطرق الوصول اليها متعددة، وأعاد تأليفها في سياق مختلف قال بوحدة الحقيقة التي تتجلى باشكال مختلفة لكنها في النهاية واحدة يجمعها الزمن في صيرورة وحدته من الأول إلى الأخير.

وبسبب موقفه من وحدة الحقيقة وما تعنيه من توحيد للأديان وتجلياتها اتهم بالقول بوحدة الوجود، ورد عليه بعض الشيوخ كابن تيمية في كتابه «إبطال وحدة الوجود».

إلى ذلك اقتربت صوفية ابن عربي من فلسفة ابن طفيل القائل بفكرة انعكاس المرايا، ونظرية وحدة المعرفة وانعكاساتها المتعددة. ويذكر المستشرق ج.ك. بيرغل في هذا الصدد ان «فكرة المرآة المسيطرة في هذا المشهد (المشهد الذي يرويه ابن طفيل في قصته الفلسفية حي بن يقظان) أصبحت ايضا فكرة مركزية في الفكر الاسلامي الصوفي، واستعملت في الغالب، كما هو الحال هنا، في إيضاح العلاقة الحميمية بين الخالق وخليقته» (المجلد الثاني، صفحة 1173).

إلا أن محاولات ابن عربي في تحويل تصوفه إلى حركة عامة تضم وتشمل مختلف الأطراف وطبقات الناس لم يتيسر لها النجاح بسبب غموض رموزه واشاراته وكلامه العرفاني الغريب عن ارتفاع الحجب وانكشاف الغطاء ولطائف المكاشفات والمشاهدة والاخبار بالمغيبات. وكرر بفشله (دمج الشريعة بالتصوف) فشل محاولات من سبقه حين حاولوا (ابن باجه وابن طفيل وابن رشد) دمج الشريعة بالفلسفة.


نظامه التأويلي

أشار ابن خلدون في «شفاء السائل» إلى مصطلحات أهل المكاشفة، فذكر انها مجرد ألفاظ مخصوصة بمعان من طريقهم «كالمقام، والحال، والفناء، والبقاء، والمحو، والاثبات، والنفس، والروح، والسر، والبواده، والهواجم، والخواطر، والوارد، واللوائح، واللوامع، والطوالع، والتلوين، والتمكين، والفرق، والجمع، وجمع الجمع، والذوق، والشرب، والغيبة، والحضور، والصحو، والسكر، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، والمحاضرة، والمكاشفة، والمشاهدة، والمعاملة، والمنازلة، والمواصلة، وعلم المعاملة، وعلم المكاشفة» (صفحة 88)، ثم يذكر الألفاظ التي تفسر معنى المشاهدة و«اكتساب النفس للصفات المحمودة، وتلونها بها صفة بعد صفة» كالارادة والتوبة والتقوى والورع والزهد والتوكل والخشوع والتواضع والصبر والصدق والمحبة والشوق وغيرها من مفردات واشارات.

أحصى تاج الدين السبكي في «الطبقات الكبرى» 25 نوعا من الكرامات مثل احياء الموتى، كلام الموتى، انفلاق البحر، المشي على الماء، انزواء الأرض، كلام الجمادات والحيوانات، ابراء العلل، طاعة الحيوانات لهم، طي الزمان، استجابة الدعاء، الاخبار ببعض المغيبات، الكشف عن الحقائق، الصبر على عدم الطعام والشراب، رؤية المكان البعيد من وراء الحجب، الهيبة، وعدم تأثير المسمومات عليهم. واعتبر السبكي ان كثرة التأليف وما سهل لكثير من العلماء من التصانيف في الزمن اليسير من انواع الكرامات. فالكرامات متعددة الاشكال وتصدر من الاعضاء الثمانية في الانسان كالعين والاذن واللسان واليد والبطن والفرج والقدم والقلب. وتختلف طبقات البشر بحسب قدراتهم على الجمع بين الأعضاء فمن جمع أكثر كانت طبقته أعلى.

العدد 2702 - الخميس 28 يناير 2010م الموافق 13 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً