العدد 2702 - الخميس 28 يناير 2010م الموافق 13 صفر 1431هـ

مفهوم الحداثة ودلالتها... (3-3)

إبراهيم الحيدري - باحث عراقي، نقلا عن موقع إيلاف 

28 يناير 2010

عصر التنوير هو مفتاح الحداثة وبابها الى العالم، على رغم ان اصول الحداثة تعود الى الفكر والفلسفة الاغريقية والديانة المسيحية والفلسفة الاسلامية العقلانية. وكما قلنا سابقا، فإن كانْت كان أول من صاغ مفهوما للتنوير عندما قال «ان التنوير هو خروج الانسان عن قصوره الذي اقترفه بحق نفسه وعجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر». ونتيجة لأفكار التنوير ومبادئه تطورت الفلسفة العقلانية النقدية وفكرة التقدم الاجتماعي وحقوق الانسان.

غير ان الصرح المعرفي القويم للحداثة، الذي ظهر في عصر التنوير وظل ثابتا أو شبه ثابت اكثر من قرنين، لم ينأ عن النقد والتجريح، بل اكثر من ذلك، أخذ البعض بتقويض مشروع الحداثة وصرحه الفلسفي القويم الذي قام على العقلانية والتقدم الاجتماعي والنقد. فمنذ مطلع القرن العشرين لم تعد الحداثة تصمد امام نقد الفاعلين الاجتماعيين من رواد ما بعد الحداثة حيث يقول آلان تورين: «عندما وقفت الحداثة امام المقدس، اثارت في الوقت ذاته، ما يناقضه ومن داخل المؤسسة الدينية نفسها»، بمعنى آخر، فإنها بالنقد اكسبت المقدس مناعة مضادة للتيارات التي حاولت تهميشه حين قامت بتنصيب عدد من الاوهام: العقلانية وغائية التاريخ والتقدم والايديولوجيا، التي انتجت ما يدعى «بالحكايات التفسيرية الكبرى» لعصر التنوير.

لقد رافقت هذه التحولات المهمة سمات فكرية وفلسفية كبرى في مقدمتها اهمية العقل والعقلانية، حيث غدا العقل الحسابي والنقدي معيار كل معرفة وكذلك مرجعها الحاسم، كما اصبح العقل عقلا أداتيا، وبذلك استقلت البنيات المعرفية عن الاهداف التي رسمت لها وقامت من اجلها واصبحت لها قوة فاعلة ودور حاسم في اصدار القرارات. وبهذا أصبحت شكلا جديدا من السلطة اطلق عليها هابرماس «السلطة التقنية» التي هي في الوقت ذاته وسيلة من وسائل الضبط والاحباط لما يرافقها من ايديولوجية تكنوقراطية تكون الاساس الذي يقوم عليه ترشيد السلوك.


ماكس فيبر والحداثة

ويرجع ماكس فيبر، عالم الاجتماع الاقتصادي الألماني المعروف، هذه التحولات التي قامت على طريق العقلنة الى خاصية من خصوصيات الغرب، وذلك بسبب وجود رابط داخلي، وليس عرضيا، يكُون هذه الصيرورة العقلانية التي طورت العقل التجريبي الحديث والفنون والتمايز بشأن المشروع الرأسمالي الحر والجهاز البيوقراطي للدولة، فهما يتداخلان ويتشابكان معا في وجهة نظر وظيفية، كما يفسر هذه التحولات بكونها أنواعا من الانشطة العقلية (اقتصادية وادارية)، التي تتجه نحو غايات محددة، بعد ان تلاشت اشكال الحياة التقليدية لما قبل الحداثة، والانتقال من النموذج الصناعي البسيط الى النموذج الرأسمالي المعقد. وذلك بسبب السلوك ذي النزعة الانتاجية الذي عمل على تسارع نمو الرأسمالية، واظهر، كما يقول فيبر، «البحث عن النجوع» الذي حرضته على النجاح الفردي، وتراكم الثروة التي يجب ان تكون واجبا ينذر الانسان نفسه لخدمتها عن طريق الزهد والتقشف والادخار والشعور بالمسئولية لمضاعفتها بواسطة العمل الدؤوب. لقد كون هذا الاسلوب العقلاني الرشيد في الحياة، ذهنية اقتصادية وجدت مبدأها الاخلاقي في روح الرأسمالية.

لقد حظيت آراء ماكس فيبر بشأن نمو العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية باهتمام كبير وأثارت مزيدا من المناقشة والجدل، بعد ان تحقق ما تنبأ به من توسيع رهيب وملحوظ في العقلانية والبيروقراطية مما لا يمكن تجاهله او نكرانه. فهي اصبحت من الملامح الاساسية التي تطبع المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبخاصة الرأسمالية. وهذه انما تثير من جديد تساؤلات عدة حول القضايا التي طرحها ماكس فيبر في مطلع القرن الماضي وتتمثل في التطور الهائل في حجم وكثافة وتعقد الاجهزة البيروقراطية وتعقد الطرق والاساليب التكنولوجية وتعاظم قدرة التنظيمات العقلانية الضخمة التي اصبحت اليوم تتحكم في الدول والشعوب وتسيطر عليها من خلال الاشكال المعقدة لفنون الانتاج والتسويق ووسائل الدعاية والاعلان والاتصال المختلفة، وتحولها الى مجتمعات استهلاكية تنتج بضائع اكثر من الحاجة. وبهذا تنتج الاجهزة التكنولوجية والفئات المسيطرة عليها تفوقا غير اعتيادي على الناس بحيث يصبح الفرد مقابل هذه القوة الاقتصادية ملغيا تماما. وبإلغائها الفرد تُصعد هذه القوة عنف المجتمع ضد الطبيعة بقوة اكبر، ويختفي الفرد من الجهاز التكنولوجي الذي يخدمه.

العدد 2702 - الخميس 28 يناير 2010م الموافق 13 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً