العدد 527 - السبت 14 فبراير 2004م الموافق 22 ذي الحجة 1424هـ

بعض عوائق التحول الديمقراطي في العالم العربي

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

يمكن القول إن هناك شبه إجماع بشأن الاعتقاد بأن العالم العربي في حاجة إلى إصلاحات سياسية عاجلة وعميقة. لايشكك في ذلك إلا الأنظمة المعنية بالإصلاح أوالفئات الاجتماعية المرتبطة بها. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى تقرير التنمية البشرية الأول الذي انتهى إلى نتيجة مفادها أن المنطقة العربية هي من أكثر المناطق في العالم تدهورا من حيث نسبة المشاركة الشعبية في صنع القرار.

وقبل استعراض عدد من العوائق الرئيسية التي لاتزال تحول دون تحقيق تحول ديمقراطي عميق في أي بلد من البلدان العربية، هناك ملاحظتان منهجيتان لابد من أخذهما في الاعتبار عند تناول هذا الموضوع أو غيره من القضايا التي تهم المنطقة العربية والإسلامية.

أولا: ضرورة تأكيد أنه لا توجد مجتمعات ملقحة ضد الديمقراطية، وإنما هناك عوائق موضوعية تقف وراء الاستبداد السياسي. بعضها يتعلق بالعوامل التاريخية والثقافية، وأخرى سياسية مرتبطة بالظروف التي حفت ببناء الدولة الوطنية. فالبعض يتسرع لاعتبارات ودوافع متعددة للحكم على شعوب المنطقة بكونها غير مؤهلة تاريخيا لكي تصبح مجتمعات ديمقراطية. وجزء غير قليل من أصحاب هذا الادعاء يتعمدون ربط ظاهرة الاستبداد بالإسلام الذي حكم المنطقة منذ أكثر من خمسة عشر قرنا. وهم يقصدون من وراء ذلك تحميل الإسلام مسئولية إرساء ودعم أنظمة تستمد شرعيتها من القوة والهيمنة على مجتمعاتها. لكن هؤلاء يتجاهلون عن عمد أن بلدانا إسلامية كثيرة قد نجحت في تجديد أنظمتها السياسية، وحققت انتقالها نحو الديمقراطية مثل ماليزيا واندونيسيا وتركيا وباكستان. صحيح أن هذه الدول لاتزال تواجه صعوبات سياسية حادة، وتشكو من نقائص أحيانا تكون فادحة، لكن تلك الصعوبات غير خاصة بها، إذ نجد ما يشبهها في بلدان أخرى غير إسلامية.

الملاحظة السابقة لا تنفي وجود أنماط من التفكير المورث والسلوك الثقافي مناهضة للفعل الديمقراطي، ومتناقضة مع قيم المشاركة والمبادرة الفردية والتطوع لخدمة الآخرين، والتمسك بالحقوق الأساسية. لكن هناك فرق أساسي بين أن تنسب تلك الأنماط الثقافية للإسلام باعتبارها جزءا من تعاليمه، وبين إدراجها ضمن البنية السوسيولوجية والثقافية التي دعمتها مصالح وقوى اجتماعية، وترسخت عبر التاريخ حتى اختلطت بالعقائد والمقدسات.

الملاحظة الثانية تدعم الأولى من حيث إن البلدان العربية - على رغم كونها تتعرض لتحديات متشابهة - غير أنها ليست قالبا واحدا، إذ تتفاوت فيما بينها حول درجة المشاركة السياسية وحرية التعبير والتنظيم. ويمكن في هذا السياق المجازفة بتقسيمها إلى دائرتين واسعتين. دول لاتزال مغلقة، رافضة للإصلاح، تبحث عن تبريرات للتملص من الضغوط المسلطة عليها من الداخل والخارج خوفا من «التورط» في «تنازلات» قد تجرها إلى تغييرات جوهرية يصعب التحكم في نتائجها وتداعياتها. وفي المقابل مجوعة أخرى من الدول قبلت مبدأ الإصلاح، واتخذت بعض الخطوات في هذا الاتجاه، لكنها تعمل جاهدة على التحكم في عملية التغيير من خلال اللجوء إلى أساليب ووسائل متنوعة قد تختلف من بلد للآخر. فمنها من قطع شوطا مهما في توسيع دائرة الحريات (مثل المغرب) لكن مع شيء من التردد لاستكمال بقية أشواط التحول الديمقراطي، ومنها من يحاول الوقوف في الوسط (مصر) بإصدار إشارات متعاكسة في أغراضها واتجاهاتها، ومنها من اكتفى باتخاذ إجراءات ذات طابع شكلي، مع تعميق الفجوة بين الخطاب الرسمي المتبني لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وبين الممارسة في مجاليها التشريعي والسياسي.

لكن مع الأخذ في الاعتبار وجود فروقات بين الدول والتجارب العربية، وهي فروقات فرضتها الخصوصيات وتباين المسارات التاريخية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود عوامل مشتركة لا تزال تسهم في الحد من إحداث تحولات ديمقراطية عميقة وجذرية.

عوائق التحول الديمقراطي

يصعب في مقال التعرض لمختلف العوائق التي لاتزال تفعل فعلها للحد من فرص إحداث تحولات ديمقراطية عميقة. لهذا السبب ستقتصر هذه الورقة على الإشارة إلى أبرز تلك العوائق:

الطبيعة الاحتكارية للدولة الوطنية: كان بناء الدولة الوطنية إنجازا مهما، سمح بالشروع في نحت معالم مجتمعات جديدة، مستقلة ومندفعة نحو نشر التعليم وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكن زعماء الحركات الوطنية الذين تحولوا إلى رؤساء وأحزابهم التي أصبحت أحزابا حاكمة، قلبوا المعادلة، واعتبروا أن الواجب يقتضي التخلي عن كل المطالب، وإعطاء الأولوية لبناء الأسس الإدارية والاقتصادية والأمنية والايديولوجية للدولة الجديدة. وكانت الضريبة القاسية التي دفعتها المجتمعات العربية مقابل تحقيق ذلك هو تنازلها عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا تم التغاضي خلال السنوات الأولى من الاستقلال في كثير من البلاد العربية عن حل أحزاب المعارضة، وتأميم الصحافة وإدماج المنظمات الجماهيرية في أجهزة الدولة، وملاحقة الذين ينتقدون نظرية الحزب الواحد. كما تم تأسيس الجيوش العربية لتكون في خدمة الأنظمة الحاكمة، بدل أن يكون دورها حامية السيادة والشرعية والدساتير والحريات الأساسية. وإذا كانت الجيوش في الدول الديمقراطية قد أسهمت بفعالية لحماية مبدأ التداول السلمي على السلطة عن طريق إلزام جميع الأطراف بالتقيد بشرعية صناديق الاقتراع، فإن الجيوش العربية كان هدفها ولايزال إضفاء الشرعية على القوة الغالبة، وبالتالي الحيلولة دون إرساء أنظمة ديمقراطية.

لقد ترتب عن ذلك كله قيام أنظمة تمتعت بصلاحيات واسعة وأحيانا مطلقة، مكنتها من فرض وصايتها الكاملة على مجتمعاتها. فالماسك بالسلطة أصبح هو الكفيل وحده بحماية الاقتصاد ورعاية مصالح جميع الفئات، والتحدث باسم جميع الفرقاء، والسهر على تربية المواطنين وتعليمهم وإرشادهم وتوفير الشغل لهم، وكذلك مصادرة حرياتهم وحقوقهم باسم المصلحة العليا للوطن أو دفاعا عن «هيبة الدولة». وشيئا فشيئا أصبحت هذه الأنظمة أنظمة شمولية، حتى ولو لم تتبنى الايديولوجيات الماركسية أو القومية أو الإسلامية.

إن الأنظمة الشمولية تتناقض في طبيعتها مع الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان. وكل نظام شمولي لا يستطيع أن يستمر ويحكم إلا إذا ألغى فكرة الحقوق المستمدة من خارج رغبة السلطة ورضى الزعيم الأوحد. فالدولة الوطنية التي شكلت في البداية أملا لتحقيق الحداثة والحرية وحماية الاستقلال، فشلت بعد نصف قرن من التجارب المريرة في خلق مجتمعات حديثة، وحالت دون قيام دولة الحق والمؤسسات، وأصبحت النقيض المهدد للحريات، وعرضت الاستقلال من جديد لمخاطر حقيقية.

- ضعف المجتمعات المدنية: لا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي فعلي وتصاعدي إلا بوجود مجتمعات مدنية نشيطة ومستقلة. لكن المتأمل في واقع الدول العربية يلحظ بأن مجتمعاتها المدنية ضعيفة وغير فاعلة. فالأحزاب السياسية القديمة الليبرالية في حال تراجع، والأحزاب الجديدة لم تتمكن من ترسيخ أقدامها، بينما لاتزال التنظيمات الإسلامية محل خلاف بشأن مدى شرعيتها، وبقيت في كثير من الحالات مصدرا من مصادر انقسام النخب والقوى السياسية. والتنسيق بين جميع هذه الأطراف محدود وظرفي ولم يصل في غالبية البلدان إلى درجة بناء تحالفات قوية، إذ تستمر الصراعات الايديلوجية والتنازع على الزعامة في مقدمة العوامل المكرسة للتشرذم. كذلك الشأن بالنسبة الى النقابات التي تعاني من مأزق حاد نتيجة تداعيات العولمة وسرعة تفكيك النمط الاقتصادي القديم الذي كان يرتكز على القطاع العام ودور الدولة والسلم الاجتماعي. أما الحركات الطلابية فهي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ضعفت كثيرا وفقدت بريقها وأصيبت بحال فقر فكري وهشاشة تنظيمية واجتماعية. كما تواجه الحياة الجمعوية قيودا قانونية وسياسية كثيرة تحد من نشاطها ودورها التربوي والتعبوي، إلى جانب ما تعانيه الكثير من الجمعيات من هيمنة الأحزاب الحاكمة أو التنازع عليها من قبل الأحزاب الباحثة عن مواقع تتمترس فيها لإدارة الصراع مع الأنظمة. لهذه الأسباب وغيرها بقيت التجارب السياسية العربية تفتقر في غالبها لبناء كتل تاريخية واسعة تكون قادرة على إدارة التفاوض مع الأنظمة وفرض إصلاحات حقيقية عليها.

- عدم ترسخ الثقافة الديمقراطية : إن ربط الثقافي بالسياسي يشكل مدخلا مهما من مداخل فهم الواقع العربي الإسلامي والتأثير فيه سلبا أو إيجابا. فهذا الواقع لايزال يستبطن جملة من المفاهيم والقيم غير المتجانسة، بعضها موروث يحتاج إلى تمحيص ونقد وإعادة تأسيس. وبعضها حديث تم اكتسابه خلال القرنين الماضيين من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تحقيق التناسق الثقافي والسياسي والاجتماعي، لأن هذا الجزء الوافد يحتاج بدوره الى تقييم ومراجعة ليكتسب حضورا شرعيا داخل المنظومة الثقافية المحلية.

- الزعيم والعائلة والحزب والجيش : كوابح للحد من المشاركة ومنع التداول السلمي على الحكم. فإذا كانت الدولة الحديثة تعني ارتكازها على المؤسسات وعلوية القانون، فإن نصف قرن من قيام «الدولة الوطنية» حال إلى حد الآن دون ترسخ دولة الحق والمؤسسات. لا يوجد شيء «مقدس» خارج الفئة الحاكمة التي تبقى مصدر السلطة والشرعية والحق والقانون. وتكمن المعضلة الأساسية في أن أي تغيير منشود لابد أن يتم بإشراك الجهات الحاكمة وموافقتها وترويضها على ذلك. فجميع محاولات التغيير الثوري عن طريق العنف والانقلاب العسكري انتهت إلى فشل ذريع وأصبحت تتعارض مع القيم الجديدة للإصلاح السياسي. لكن الأنظمة القائمة لا تعتبر نفسها طرفا في أي تغيير مطلوب، وإنما تعتقد بأنها يجب أن تكون المشرفة عليه والمحددة لمجالاته ووسائله وأهدافه وحدوده. وبما أنها تملك جميع الوسائل التي تمكنها من احتكار العنف فإنها تستطيع في النهاية أن تفرض وجهة نظرها وشروطها على بقية الأطراف. وهنا بدل أن يكون الحديث عن توافق ديمقراطي يهدف إلى توفير جميع مقومات التداول السلمي على الحكم، ينقلب الأمر ليصبح الهدف من الإصلاح هو إجراء تعديلات غير جوهرية تمكن الجهات الحاكمة من الاستمرار في احتكار الحكم مقابل تنازلات محسوبة ومحدودة التأثير

العدد 527 - السبت 14 فبراير 2004م الموافق 22 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً