العدد 2351 - الأربعاء 11 فبراير 2009م الموافق 15 صفر 1430هـ

معجب الزهراني: لا حدود بين سلطاتنا... وكما تكونوا يولى عليكم

«لا غرابة أن يبدو الفضاء العربي كله اليوم غريبا وشاذا عن العالم من حوله حيث لا يوجد نظام واحد يمكن وصفه بأنه ديمقراطي حقا، وليس من حاكم يمكن أن يساءل فيستقيل أو يعزل، وقد يفوز الزعيم المستبد المكروه بأغلبية ساحقة في الانتخابات إن وجدت، بل إننا نقدم للعالم كله نموذجا يكاد يكون فريدا من نوعه هو هذه (الجمهوريات العائلية) التي يمكن أن تتكاثر مستقبلا».

أشار إلى ذلك الدكتور والناقد السعودي معجب الزهراني في الندوة الحوارية التي أقامتها جمعية المنتدى تحت عنوان «الدولة كمنتج ثقافي»، مقاربة لجذور التسلط في الثقافة العربية، متأملا في تفكيك أهم البنيات الثقافية الصلبة المنتجة لهذه الدولة وطبيعة اشتغال مفهوم الأب في الثقافة العربية كسلطة وطبيعة مفهوم الأسرة العائلة والتعاضديات العصبية، والمجتمع المدني، ومفهوم سلطة رجل الدين وسلطة الحاكم المطلقة في الثقافة العربية وإقرانها بتوصيفات تصل إلى أن يكون حاكما بأمر الله، متوقفا مع سيل الاستعارات التي تستدعيها الثقافة المهيمنة التي تنتج مثل هذه المفاهيم التي تصنع الدولة كمنتج ثقافي.

وأعقب عرض الزهراني لورقته قراءتان نقديتان الأولى للناقد علي الديري والذي تحدّث حول طبيعة اشتغال الزهراني على مفهوم الدولة الذي اعتمد فيه على جهازه المفهومي والنقدي المستمد من قراءته لباختين في الرواية والأدب وهو جهاز مفهومي قابل للعبور به من الأدب لقراءة الحقل السياسي مفرقا بين طبيعة اشتغال المثقف الذي يشتغل على التسلط والسياسي الذي يشتغل بالسلطة، أما الناقد علي القميش فتوقف مع العنوان ليتساءل عن مفارقة كون الدولة منتَج بفتح التاء أو منتِج بكسر التاء وهي مفارقة قابلة بحسبه لقراءة ورقة الزهراني، من خلالها، ثم توقف مع التفاصيل التي هي عند البعض مدعاة للشيطان ولكنها عند الناقد محطة تمثل المدخل الآخر الذي له أن يعوم في الورقة من خلاله، وكان له أن يستدعي مجموعة مطولة من الأسماء الفكرية والثقافية حتى يقول ما وجده في الورقة. ثم ختمت الندوة بمجموعة من مداخلات الجمهور.

وفي البداية أشار الدكتور معجب الزهراني إلى أن التوصيف المناسب للدولة يضعنا أمام قضايا مشكلة لم يحسم الجدل فيها، فالدولة في هذا السياق ظلت بنية استبدادية صلبة تتكرر مرة في شكل امبراطورية ممتدة في أكثر من قارة، ومرة في شكل حيازات إقطاعية صغيرة الحجم قليلة السكان. ودولة كهذه، وسواء كانت مشروعيتها دينية أم دنيوية، لا يمكن أن تمارس السلطة كفن أو علم هدفه إدارة علاقات البشر بما يضمن تنمية طاقاتهم وتحقيق مصالحهم وصيانة حقوقهم.

وأضاف «ولعل نفور الوعي الجماعي العام من كل دولة يعود في جزء أساسي منه إلى ما استقر في الذهنية العربية الشعبية والخاصة من صور سلبية عن هذه الدولة التي قد توفر لرعاياها بعض الحماية وبعض الخدمات لكنها تستلب أغلى ما يملك الإنسان، ونعني حريته وكرامته .

وأشار إلى أطروحة الدكتور برهان غليون عن الدولة التي تعمل ضد المجتمع وجيهة تماما في هذا السياق، ولعلها لا أكثر من تنمية حديثة لأطروحات قديمة.

وأضاف أنه لابد التنبه إلى مسألتين مهمتين. المسألة الأولى أن المثقف العربي اليوم لا يستطيع أن يدعي أنه يتفكر ويتخيل ويتحدث ويكتب بحرية، لعوائق كثيرة ويكفي أن أحدا لا يستطيع أن يقول إنه يحترم تراث الأسلاف ويشير إلى أنه لم يعد صالحا كمرجعية للفكر والعمل في العصر الراهن. ومن يتجرأ على قول كهذا يتراجع، أو يهمش أو تصنف في حيز الفكر الشاذ المعادي للدين ولمصالح الوطن والأمة. هذه المعضلة التي يعانيها المثقف العربي، المسلم وغيره، وهذه مفارقة عجيبة غريبة بالنسبة للمثقف في المجتمعات الغربية حيث يكاد كل جيل يباهي بالقطيعة مع ما سبق.

أما المسألة الثانية فهي أن المعارف الفكرية الحديثة التي يتمثلها مثقفونا خلال مسيرتهم اتعليمية لا تؤثر كثيرا في مجتمعاتهم. بسبب التحصن بالثقافة البسيطة المقولبة التي تقاوم التغيير، والتي تغري بالعودة إلى الماضي المجيد مليء بالحكايات العظيمة والرموز العليا تنحصر تأثيرات الخطابات الحديثة في دوائر النخب الجديدة القليلة العدد، والتي نادرا ما يضيف أحد أفرادها شيئا مختلفا إلى غيره نظرا لتشاكل الوعي وتكرارية الخطابات.

ونفى الزهراني أن تكون هاتان المسألتان محاولة لتبرئة المثقف أو تبرير عجزه عن التفاعل والفعل. بل إنه النظر فيهما مسلك معرفي يحرر الذات الباحثة من أوهامها بقدر ما يخفف على النخب في عمومها وطأة الوعي المحاصر الذي قد ينقلب إلى حالة مرضية تدفع بنا إلى تبادل الاتهامات بالمسئولية عما حدث ويحدث من مآسٍ.

وأشار إلى أن المثقف الذي نتحدث عنه هنا ليس ذلك الفارس البطل الذي يحارب الأعداء ولا يهزم , ولا ذلك العالم الذي يعرف كل شيء ويثق في قدرة الكلام على هداية الناس وإصلاح معاشهم ومعادهم. إنه شخص عادي يتخصص في مجال معين، وحين يجتهد مع غيره في قضايا الشأن العام يكفي أن ينتج بعض الأفكار والمعارف بأقصى قدر ممكن من التعقل والنزاهة عسى أن يعمل آخرون على الإفادة منها عمليا.

وقد حبذ الزهراني أن يبدأ بمناقشة للثقافة، فنحن ممن يزعم أن الثقافة العربية السائدة لا تزال تقليدية في مجملها. وتقليديتها تعني أنها تنطوي على منظومات أفكار وقيم ومعايير أنتجت في عصور سابقة بعضها يمكن تحديده في لحظة تاريخية معينة وأكثرها قديم موغل في مجهولات الزمن. وحينما نقول إن تصوراتنا للكون، وأفكارنا عن ذواتنا وعن العالم من حولنا، ومعايير حكمنا على الظواهر والأحداث ليست مؤسسة على منطق العصر ومنجزاته الفكرية والمعرفية، إلا فيما ندر نروم الوصف لا إطلاق الحكم.

الثقافات التقليدية تظل حية. ويتحول التراث إلى مصدر لا ينضب لأدلوجات مثالية مبسطة يراد لها أن تشتغل في شروط تاريخية جديدة لم يعرفها الأسلاف ولم يشارك الأحفاد في إنجازها. والنتيجة المتوقعة أن تصورات كهذه لا بد أن تعيق سيرورة التقدم، والأسوأ من ذلك أنها تظل تنشر وعيا خاطئا أو مزيفا أو مغالطا يزيد الأمور تعقيدا والتباسا. فالإنسان الذي يعاني ولا يدرك أن ثقافته اليومية هي من أقوى أسباب شقائه وضعفه وتخلفه سيتوهم ويصدق أنه ضحية بريئة لقدر تراجيدي أو لعدو شيطاني يتربص به وبأمثاله كل لحظة في كل مكان. لا غرابة بعدئذ أن يتورط الفرد والمجتمع، والدولة ذاتها، في المأزق تلو الآخر وكأن الجميع ألفوا شقاء لا أمل في الخلاص منه إلا بمعجزة ما.

مفككا مفهوم الأسرة والتي هي الوحدة الصغرى في المجتمع، فالثقافة العربية تسمي الأب «رب الأسرة» وتعد طاعته واجبا على الزوجة التي هي حرمة، وعلى الأبناء الذين هم عيال أو جهال، متوقفا مع ما وراء هذه الاستعارات من علامات، ثم توجه للبنية الأكبر وهي المجتمع الأهلي أو المدني الذي يتشكل من جماعات إثنية وعشائرية ومذهبية ومهنية غير متجانسة ومع ذلك عادة ما يتم تمثيلها كأسرة ممتدة، ونقارب السلطة الرمزية العامة التي تبرز حينما نتساءل عن النموذج الذي يؤثر أكثر من غيره في الوعي والخيال الجماعيين ومن ثمة يوجه خطابه أفكار الغالبية العظمى من الأفراد وتصرفاتهم المتمثل في رجل الدين.

وثم تحدث عن نموذج الحاكم فأشار إلى أن الدائرة تكتمل وتنغلق حينما يفضي بنا الحديث إلى الدولة كبنية سياسية - اجتماعية شاملة لكل ما هو دونها . فنموذج الشخص الحاكم في ماضينا وحاضرنا عادة ما يختزل كل السلطات ويتعالى عليها. وأقواله وأفعاله لا بد أن تؤثر سلبا أو إيجابا في المجال الاجتماعي كله بحكم قدرة أجهزة الدولة على التدخل في حياة كل فرد وكل أسرة وكل فئة أو طبقة اجتماعية.

وأشار إلى دور الثقافة التقليدية التي تضفي على هذا النموذج تسميات وألقاب تكاد ترفعه فوق رتبة البشر، وتخوله سلطات لم يكن الأنبياء أنفسهم يطلبونها لهم أو لأقرب الناس إليهم (ولم يخطئ بورخيس حينما كتب ساخرا عن حكام الشرق الذين ظلوا منذ أزمنة ألف ليلة وليلة يتصرفون كأنصاف آلهة). ومع أن الحاكم يمكن أن يسمى أو يلقب خليفة لله أو لرسوله على المسلمين أو أميرا للمؤمنين أو حاكما بأمر الله... إلا أنه يظل في التحليل الأخير إنسانا عاديا مثلنا تماما. لهذا فمن المتوقع، غالبا أن يتصرف عمليا في كل أمر واضعا في مقدمة اعتباراته مصلحته فمصالح أسرته وعشيرته وموظفيه الذين هم أتباع يتم اختيارهم بحسب منطق الولاء في المقام الأول. أما مصالح الآخرين الذين يشكلون الأمة أو الشعب فتأتي أخيرا لأنهم يظلون في الواقع رعية مهمشة وإن كانوا يمثلون غالبية المجتمع (ولا غرابة أن تظل استعارة علاقات الراعي برعيته أو بقطيعة حية في خطابنا السياسي إلى اليوم).

أشار إلى أنه لا يمكن للباحث أن يدين هذا الحاكم أو ذاك، لأنه نموذج تولده الثقافة العامة المشتركة ذاتها، وحديث «كما تكونون يول عليكم» يشتغل كالقانون العام هنا (لن يظهر حكام مثل عيدي أمين أو الملا عمر في سويسرا أو في السويد). فليس في تراثنا حدود واضحة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بولي الأمر الذي تؤول إليه كل السلطات كما قلنا آنفا.

ونظرا لغياب الفكر السياسي والمدونات القانونية التي تنبثق عنه ظلت النخب الحاكمة والمعارضة تستند طوال قرون إلى مقولات فقهية خلافية فضفاضة أو على تراث شفهي لقوم لم يعرفوا الدولة قبل الإسلام، وحين عرفوها بعده ظلوا يعاينوها كما لو كانت ملكية عائلية أو قبلية كبيرة لا غير.

العدد 2351 - الأربعاء 11 فبراير 2009م الموافق 15 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً