العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ

فلاسفة الأنوار والإسلام (3 - 3)

بيد أن هذا الاتجاه الذي أسسه رايمون لول، وتبعه عليه غيوم بوستل وآخرون في ما بعد، كان أشبه بصرخة في وادٍ عظيم. صحيح جدا، وبقدر كون الإسلام قد كفّ في تلك الفترة عن أن يشكل خطرا أو تهديدا ضد العالم المسيحي، وبمقدار كون فكرة الاستمرار بإرسال حملات صليبية مسلحة لم تعد تثير الحماس، فإن فهم الإسلام بل والحوار معه هو ما أخذ يتعزز أكثر فأكثر. إلا أن الإدانة اللاهوتية لم تخمد قطعا بل اشتدت استعارا بفضل الصراعات والانشقاقات داخل الكنيسة من جهة وبفضل الأخطار الكامنة التي أخذت تتجلى مع ظهور القوة العثمانية التي كانت قد دخلت مسرح الصراع من جهة الشرق للتو.

وفي كل الأحوال فما دام اللاهوت في خدمة السياسة وما دامت المؤسسة الدينية المتحالفة مع الأمراء الإقطاعيين هي من يشرف على الأفكار بما فيها الفلسفية، لم يكن لتيار لول في الموقف من الإسلام أن يصمد طويلا. إذ سرعان ما وجد نفسه مدانا بـ «الهرطقة» عبر مرسوم أصدره البابا غريغوار الحادي عشر قضى بحظر مؤلفات هذا الفيلسوف الكاتالاني وتحريم تداولها، قبل أن يسقط هو نفسه، بعد فترة وجيزة، مسجّى إثر طعنة قاتلة أعلن أنها جاءته على يد «قطاع طرق مسلمين» وهي تهمة لم يصدقها أحد في العالم المسيحي ذاته.

وبرأينا، كان رايمون لول بلاشك المؤسس البعيد، بمعنى ما، لعصر الأنوار فيما يتعلق بالنزعة الإنسانية الشاملة لديها وأيضا بالموقف من الإسلام. بيد أنه كان على هذا المنظور أن يجتاز القرون العجاف العديدة التي فصلت بينهما في تاريخ الفكر الغربي. إذ إن سيرورة هذا الاتجاه الانفتاحي ستنقلب رأسا على عقب مع حدث سقوط القسطنطينية في العام 1456 بأيدي العثمانيين المسلمين. فهذا الحدث، علاوة على هول الجرح المقترن بالإهانة الذي أحدثه في وعي العالم المسيحي، فجر حالة من الغضب والشعور بالقلق لديه تشبه إلى حد بعيد تلك التي نتجت عن الفتوحات العربية الإسلامية في القرنين السابع والثامن الميلاديين لاسيما وأن القوة العسكرية العثمانية لم تتوقف عند احتلال القسطنطينية إلا لفترة وجيزة إنما سرعان ما واصلت تقدمها العسكري في أوروبا الوسطى قبل أن تحتلها تماما فيما بعد.

لذا، وابتداء من تاريخ سقوط عاصمة الامبراطورية المسيحية البيزنطينية تلك عادت الكنيسة إلى أحياء نفس الحجج والاتهامات والإدانات الأولى ضد الإسلام وفي مقدمتها نعت الإسلام بـ «ديانة الشيطان» ونعت نبي المسلمين بـ «الساحر الدجال». كما أن مفهوم «المسيح المضاد» أصبح عملة مبتذلة حيث نجدها، خلال فترة الإصلاح خاصة، في قلب الهجمات الكلامية بين الجماعات البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية. فحسب لوثر مثلا: «إننا إذا أردنا أن نضع عقبة بوجه الأتراك، فذلك بهدف منع إحلال عقيدة محمد الشريرة والشائنة محل ربنا الحبيب عيسى المسيح» لأن لوثر يرى أن المسلمين «جيش كبير من الشياطين». صحيح أنهم لديه ليسوا أسوأ من البابا الذي هو «العدو الحقيقي للمسيح» لأن المسلمين «لا يتصرفون مثله رغم كونهم من أكبر أعداء المسيحين بل على العكس فهم يؤمنون بالمسيح»، إلا أن لوثر لم ينسَ أن يكتب في 1541 موعظة كاملة موجهة للشعب يحذره فيها من الخطر الحقيقي للإسلام، جاء فيها: «أيها الرب الرحيم، إن الخليفة التركي يسعى ليحل محمدا في مكان ابنك المحبوب. وهو يشتمه قائلا بأنه ليس بالإله الحقيقي، وأن محمده أعظم وأسمى». لكن هذا التصعيد في حدة الخطاب يجد تفسيره برأينا في اشتداد توتر الوضعية العسكرية بشكل أساسي حول ألمانيا. ففي أغسطس/ آب 1541، كانت الجيوش التركية قد اندفعت بقوة عابرة حوض الدانوب لتحتل بلاد المجر، بينما كانت بعض قواتهم الأخرى تحاصر فينا مهددة باجتياح ألمانيا والعالم المسيحي كله. وامام هذه الوضعية كان لوثر يرى أن خطر الإسلام على كل المسيحية أصبح جديا ومباشرا وكبيرا بما لا يقاس بالمقارنة مع خطر الكنيسة الرومانية على البروتستانتية. ومع ذلك فهو لا يغفل عن تحميل البابا المسؤولية المباشرة عن وجود ذلك الخطر كالإسلامي الآتي بمعنى أن ذنوب الكنيسة وانحرافها عن الدين الحق هو ما سمح بظهور الإسلام. وهي فكرة تحمل أهمية أساسية في هذا المفهوم اللاهوتي.

في 1542 قام لوثر بترجمة كتاب لاهوتي من القرن الثالث عشر لديكولدو دامونتكروسي (Ricoldo da Montexroce)، بعنوان «الرد على القرآن»، نقله من اللاتينية إلى الألمانية، وأضاف له مقدمة طويلة تضمنت آراءه السابقة، كقوله «لست مقتنعا بأن محمدا هو المسيح الدجال... إذ لا يتمتع بذلك الذكاء الخبيث الشرير.. إن البابا عندنا هو المسيح الدجال حقيقة. فهو يملك تلك العقلية الشيطانية الشريرة، وهو جاثم على صدر المسيحية... وإذا كنا نريد التخلص من محمد، العدو الخارجي للمسيحية، فعلينا أولا الالتفات إلى العدو الداخلي أي المسيح الدجال المتحرك بداخلنا»(1).

هذه المماثلة بين النبي محمد والبابا، وتفضيل الأول على الثاني حتى كشر، أجهزت في الواقع لدى الجانبين الكاثوليكي والبروتستانتي على رصانة ومصداقية مفهوم «المسيح الدجال» الذي اعتادت الكنيسة إطلاقه على نبي الإسلام، كما أن الأفكار الأخرى التي أخذ يطلقها مفكرو البروتستانية لاسيما مارتن لوثر وجون ويكليف كتلك الموحية باستحالة جلب المسلمين إلى المسيحية أو تلك التي تعترف بوجود جوانب إيجابية مشتركة بين الديانتين أو امتلاك المسلمين لفضائل جمة تستحق التقدير.

بكلمة أخرى، في نهاية القرن السادس عشر، ولأسباب كثيرة، صار المفكر المسيحي أكثر واقعية في التعامل مع الظواهر الإسلامية محاولا قدر المستطاع تجنب السجال المجاني والمماحكة لصالح جعل العقل العملي مرجعا ومعيارا في التقييم، وخاصة بعد التوصل إلى يقين قاطع بلا جدوى شن حروب صليبية غير معروفة النتائج والارتدادات أو تكثيف إرسال حملات تبشيرية مكتوب لها الفشل سلفا. إلى ذلك فإن انقسام الأمة المسيحية الأوروبية ذاتها إلى بروتستانتية وكاثوليكية ألغى عقلانية البحث عن وحدة مسيحية خارج القارة المنقسمة على نفسها مع شعوب وأمم مجهولة وبعيدة لاسيما وإن النزعات الاستقلالية القومية كانت تخترق القارة الأوروبية طولا وعرضا.

غير أن المنظور التقليدي من الإسلام سيظل سائدا ومهيمنا لفترة طويلة أخرى في ما بعد في الفكر اللاهوتي والفلسفي على حد سواء، مما يثبت أن ذلك المنظور القروسطوي توغل في الوعي الجماعي للثقافة الأوروبية الغربية إلى درجة بعيدة جدا. وأنه في هذا الإطار ينبغي فحص النصوص التي خصصها الفيلسوف الفرنسي باسكال للإسلام. ففي كتابه «أفكار» يقول هذا الفيلسوف «كل إنسان يستطيع الإتيان بما جاء به محمد، لأنه لم يضع أي معجزة ولم يتنبأ بأي شيء. لكن ليس هناك بشر يستطيع أن يفعل ما فعله عيسى المسيح». ويضيف باسكال في موقع آخر «أنه شيء مضحك أن نتصور وجود أناس في العالم ممن، وبعد أن أداروا ظهرهم لكل قوانين الله والطبيعة. صنعوا لأنفسهم غيرها وخضعوا لها تماما كما يفعل مثلا جند محمد واللصوص والهراطقة والمناطقة...».

أما بوسويه فيشترك هو أيضا في هذا المفهوم كما يعكسه كتابه «خطاب حول التاريخ الكوني» الذي حاول فيه أن يفسر سيرورة التاريخ الكوني وتطور الحضارات انطلاقا فقط من فكرة الغاية الإلهية المسيحية. أي أنه لا يهتم بهذه الحضارات إلا بالقدر الذي يخدم تحليله. على هذا الأساس يرى بوسويه أن الإسلام هو «شر أكبر نهض ضد كل العالم المسيحي عندما ظهر محمد كنبي بين العرب»... وهذا النبي الزائف قدم الانتصارات كدليل على رسالته». فالإسلام برأيه أمة الديانة الزائفة «التي استطاعت محاكاة الكنيسة في الكثير من الأمور وخصوصا تقليدها والقول بأن الله هو الذي أسسها».

لكن، بالقدر الذي راحت المسيحية تترك مكانها تدريجيا لأوروبا الحديثة لم يعد الإسلام يبدو بمثابة العدو الأساسي وخاصة منذ مطلع القرن السابع عشر. ففي هذا القرن، بالفعل، لم يعد الوعي المسيحي يهاجم الإسلام الذي كان من جانبه يبدو مهزوما سياسيا وعسكريا منذ سقوط بغداد والأندلس خاصة. ولم يعد يدحضّ لاهوتيا إنما يعد فقط كـ «دين كاذب» ومرفوض بصفته هذه من التيار الروحاني الحق للإنسانية. إلا أن بزوغ العصر الحديث سيحمل معه بوادر انقلاب شامل في هذا الموقف وجد تعبيره في المواقف الجذرية لحركة الأنوار كما سنرى بعد قليل. لكن هذا الانقلاب ما كان ممكن التحقيق لولا جملة من العوامل أو التطورات تموضعت جميعا في القرن السابع عشر. الأول بينها اكتشاف أوروبا، بفضل الحملات الاستعمارية، وجود أديان شرقية كالهندوسية والبوذية، لا علاقة لها إطلاقا مع المسيحية تتبعها جماعات هائلة من البشر، ويبدو الإسلام إلى جانبها أكثر حميمية وقربا إلى الثقافة الأوروبية المسيحية.

العامل الثاني تراكم معطيات معرفية جديدة ومهمة من حيث السعة الموضوعية لفهم أفضل للإسلام تمثلت في مؤلفات سعت إلى تقديم صورة أكثر تطابقا مع الواقع الفعلي للحضارة والتاريخ الإسلاميين بعيدا من تأثيرات الموروث الثقافي الوسيط والأحكام اللاهوتية. ففي 1705 قدم الهولندي أدريان ريلاند A. Reland مداخلة طويلة باللاتينية بعنوان «ديانة محمد» أثارت أصداء واسعة لما فيها من منظورات جديدة، وجدت ترجمتها على الفور إلى الألمانية والهولندية والإنجليزية ثم في ما بعد إلى الفرنسية. إذ بالاعتماد مباشرة على نصوص إسلامية حاول ريلاند إثبات زيف المنظور المسيحي التقليد حول الإسلام ونبيه، بل استنتج أن هذا الدين هو وحده الذي أسيء له في الغرب بين كافة الأديان الأخرى.

ظهرت هناك إذن نزعة للتحري والموضوعية عند الكتابة عن العقيدة الإسلامية تبعتها حركة تمحيص وتدقيق وتصحيح واسعة لكل ما كان قد قيل أو كتب حتى ذلك الوقت عن الإسلام والمسلمين. وبعد ريلاند نشر الفرنسي بولانفييه كتابا مهما بعنوان «حياة محمد» تضمن أفكارا جديدة تماما في هذا الاتجاه. إذ يرى بولانيفييه مثلا «أن كل ما قاله محمد صحيح بالمقارنة مع العقائد الجوهرية للدين» و«أن محمدا هو رجل دولة لا مثيل له ومشرِّع أرقى من كل من أنتجته بلاد الإغريق القديمة».

هذه المشاعر المتعاطفة سحرتها قبل أي شيء، فكرة وحدانية الله التي يبشر بها القرآن والبعيدة عن كل إيحادات التجسيم أو تعددية الذات أو الحلولية. إذ إن بولانفييه يعود ليؤكد إيمانه بديانة المسيح لا الكنيسة مع تأكد أن ما يعجبه في الإسلام هو الجانب العقلاني والطبيعي لعقيدته: «بلا مفاهيم معقدة ولا مؤسسة بابوية ولا كنيسة». أما كلود سافاري فيرى «أن الفيلسوف يجد فيها (حياة محمد) الوسائل التي وظفها إنسان اعتمد على عبقريته وحدها للانتصار على تشبث العرب بالوثنية ولإعطائهم عبادة وقوانين» كما كتب في ترجمته للقرآن التي ظهرت في 1783. وقبلهما كان المفكر الفرنسي بيير بيل قد دافع بجرأة في «القاموس الفلسفي النقدي» عن نقاوة الأخلاق الإسلامية وعن نبي الإسلام الذي اعتبره داعية مخلص في حماسه الهادف إلى إنقاذ الإنسانية».

ومن جانبه شدد الفيلسوف الألماني الكبير لايبنتز، في مقدمة كتابه «العدالة الربانية» (1710) على أن نبي الإسلام لم يحد أبدا عن المبادئ الأساسية لـ «الدين الطبيعي»، وأن للمسلمين الفضل العظيم في جذب عدد كبير من الشعوب الوثنية إلى الإيمان بوحدانية الله حيث كانت المسيحية قد فشلت في ذلك من قبل. أما لسنغ، فقد أدان بقوة التشويهات التي ألحقتها الكنيسة بالإسلام ونبيه معتبرا إيّاها «نسيجا من الأباطيل».

إضافة إلى هذه المؤلفات، شهد القرن السابع عشر ظهور ترجمات عديدة أخرى للقرآن بمختلف اللغات القومية الأوروبية وكذلك باللاتينية. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ترجمة لاتينية نشرها لودفيكو مراكسيو في 1698، وأخرى بالفرنسية نشرها دو رييه في 1647، وترجمة بالإنجليزية لجورج سال في 1734. كما أنجز الألمان أربعة ترجمات مختلفة للقرآن بلغتهم القومية قبل عصر الأنوار، أولها قام بها شفايغر في 1616، وأخرى جديدة له ظهرت في 1688، وثالثة لدافيد ينتبر في 1703 ورابعة لتيودور ارنولد في 1743 اعتبرت أفضل الترجمات الأربعة. وفي مطلع عصر الأنوار ظهرت ترجمتان المانيتان جديدتان للقرآن، عن النص الأصلي للقرآن مباشرة، أهمهما لدافيد فريدريك ماغرلين في 1772.

فلقد شكلت هذه الترجمات وتلك المؤلفات مادة غنية وواسعة بالنسبة للمفكر الأوروبي المعني بالإسلام، يضاف لها عدد مهم من الكتابات «الشعبية» المتوفرة بشكل متسع تتحدث عن الحياة في الشرق والشرق الإسلامي خاصة لعل أبرزها ترجمة «ألف ليلة وليلة» التي نشرها غالاند في 1708 بعدة أجزاء، وروايات الرحلات لاسيما تلك التي دونها عدد من كبار الرحالة إلى الشرق الإسلامي كبرنييه وشاردان وتافارنيه.

هذه هي باختصار العناصر الأساسية للأرضية العامة التي انطلق منها فلاسفة الأنوار في تناولهم لموضوع الإسلام. ولكن وقبل الانتقال لفرض خصوصيات مواقف أبرزهم، نجد من الضروري إنهاء هذا المدخل بملاحظة أساسية وهي أن نركز على عدد محدد من هؤلاء المفكرين دون غيرهم وذلك لأهميتهم الخاصة كممثلين لحركة الأنوار من جهة ولامتلاكهم منظورا متميزا خاصا بهم إلى هذا الحد أو ذاك من الإسلام، كما هو شأن الفرنسيين مونتسكيو وفولتير وروسو والالمانيين وهيردر وغوته والإنجليزي ادوارد جيبون فيما نخصص دراسة لعلاقة نابليون بونابرت بالإسلام في إطار تأثيرات فلاسفة الأنوار عليه وأخرى لهيغل عن ذات المحور. أما كانت وديدرو وهولباخ وسواهم، فإننا لم نتناولهم بشكل مستقل وذلك لعدم امتلاكهم منظور عام يذكر حول الإسلام لسبب أو لآخر على الرغم من أهمية تناولهم الفلسفي لظاهرة الدين.

العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً