العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ

رواية كُتبت بالكيروسين تسكنها الحرائق ودخان المنامات

رواية «وقت للخراب القادم»

«يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن المؤذن يريد أن يستعرض - أحداث التسعينيات في البحرين - قبل وبعد الميثاق وما بعد البرلمان، وهو وإن تحدث بشكل مباشر عن جوانب تؤكد ذلك إلا أنه سرعان ما يجعل الأحداث تغادر منطقة البحرين إلى كل بلد عربي، اختار مسمى «جمهورية» واختلق قريته «حدا حيد» التي تحوي الشخوص المتعددة وكأن «حدا حيد» دولة كاملة يتم وضع المكبر على كل شخصية على حدة. ويجب القول هنا إن المؤذن استطاع أن يخلق تفاصيل قرية بدقة متناهية من خلال (حركة الناس بها، البيوتات، المزارع، الخرابة، قهوة «أبو فخري»، فيلا المختار، البحر،... إلخ».

هذا ما ذهبت إليه القراءة التي قدمها القاص عبدالعزيز الموسوي لرواية «وقت للخراب القادم» إذ أقامت أسرة الأدباء والكتاب أمسية دشن فيها الروائي والقاص أحمد المؤذن روايته الأولى (وقت للخراب القادم) وسبق توقيع المؤذن لنسخ من الرواية قراءة قدمها القاص عبد العزيز الموسوي للرواية.

وأضاف الموسوي أن المؤذن يكشف في روايته «وقت للخراب القادم» والصادرة عن دار نينوى عن إمكانيات جميلة بدءا من نفسه الروائي في السرد الذي امتد في 270 صفحة برهن فيها عن تمكنه المدهش في الحبكة رغم تنامي الأحداث وتشابك الشخوص.

وأكد الموسوي أنه من الواضح طغيان الجانب السياسي في رواية تحوي الثالوث المحرّم (الدين، السياسة، الجنس) أقول طغيان سياسي لأن الكاتب يتناول الجانب الجنسي مثلا كبيوت الدعارة والإيقاع بالفتيات ويرجع السبب لفساد السلطة وأصحابها الذين يشكلون القوانين بحسب رغباتهم، أما الجانب الديني فهو يتناوله أيضا متأثرا بالأوضاع السياسية التي تجعل من بعض المشايخ مثل «ملا عيسى» ينصاع لأوامر الحكومة طمعا في الثروة بالإضافة لخراب نفوسهم في حين يتظاهرون بالتقوى يبطنون الرذيلة والفاحشة، الجانب السياسي هو بالتحديد ما ابتدأت به الرواية واختتمت كذلك.

ورصد الموسوي التطابقات التي حاول المؤذن بها مكاشفة الواقع وقراءته من خلال اختياره للأسماء والمسميات في السرد إذ تبدأ الرواية في قرية «الجمرانية» حيث تحاصرها قوات من الأمن بسبب «الشيخ» الذي أخذ زمام التصدّي لطغيان الحكومة، تظهر شخصية الشيخ كأمر مسلّم به وكل ما يقوله مفترض الطاعة كون لا شك في إخلاصه للوطن، تأتي بعد ذلك شخصية «أبو جواد» هذا الخارج من المعتقلات والمعذّب فقط لأنه يعارض غطرسة الحكومة، في مقطع من الرواية يتحدث عن أبو جواد «تعصف به آلامه، سهام وسكاكين وخوازيق في ذاكرته المشوهة من أيام السجن المركزي ووجه الشيطان الأجنبي «جيفرسون» القفاز القذر بيد ديكتاتور لا يرحم.....» ص 19.

وبمقارنة بسيطة بين الأسماء نخمّن أن قرية الجمرانية هي في ذاكرة البحرينيين «بني جمرة» وإن الجلاد الأجنبي جيفرسون الذي ورد ذكره هو في ذاكرة البحرينيين أيضا «هندرسون» لكن المؤذن يثبت أنه استفاد من الأحداث التسعينية في هذا العمل ووظف ذلك بطريقة مفتوحة تصل إلى ما يشبه النبوءة التاريخية بحيث ينقلب السحر على الساحر في الختام. سرعان ما يتجاوز أحمد الهرب من الأسماء المتشابهة ذات المدلولات الصريحة لفضاءات شخوصه المتنامية الأحداث.

«أحمد» هو الراوي وهو أيضا صاحب دور بسيط داخل الرواية وتربطه علاقات بكل الشخوص، وهنا قد يجد القارئ نفسه في حيرة: هل فعلا أن «أحمد» هو الراوي أم ثمّة تقاسم للسرد بينه كأحد الشخصيات في الرواية وبين راوي - عليم - يظهر بين الحين والآخر وسط السطور؟

في قرية «حداحيد» وخرابة الحاج منصور التي بدورها تمثل عاملا مهما في سياق الأحداث، هذه الأرض التي حلّ عليها الخراب قبل تطور الأحداث بعشرات السنين حين كانت جنّة يحرثها «الحاج منصور»، وطمع بها أصحاب النفوذ وأمام رفض الحاج منصور التنازل عن أرضه أحرقوها أمام عينيه ويصف المؤذن ببراعة شعور فلاح يرى الأغراب يغتصبون أرضه ويحرقونها...

«الدخان يتصاعد بكثافة ونصف المزرعة تأكلها النار، هسيسها يجتاح خضرة قلبه المتفطّر وهو لايزال في قمة تصميمه على الانتقام... قيل أيضا ان الحاج منصور فيما روي عنه يومها، أنه تمكن من رجل آخر، عاجله بضربة واحدة فوق ساقه اليمنى، حمل منجله وخطا بضع خطوات لكنه سقط برصاصة قاتلة استقرت في رأسه مخترقة سحب الدخان.» ص 14.

تظل هذه الخربة تشكل هاجسا أشبه بالأسطورة حيث يهابها الناس ويعتقد آخرون أن روح الحاج منصور تأتي لتفقد رؤوس النخيل المحترقة، يمكن القول هنا ان المؤذن استفاد أيضا من تسخير «الميثولوجيا» من خلال إضافة قصة «أمّ الخضر والليف» التي ظهرت له عدّت مرات في مناماته المتخيلة، ونقطة واضحة سيراها القارئ بارزة في رواية المؤذن وهي اختلاق «المنامات» سواء كانت وردية أم كوابيس، لن يجد القارئ شخصية من الشخوص دون أن ترى أكثر من منام يشي بما تقترفه وتضمره كل شخصية.

«حميدان» مختار القرية الذي كان مناضلا مع «أبو جواد» في فترة سابقة اليوم هو أحد جلاوزة الحكومة، وصديق صباه أصبح عدوه اللدود، شخصية المختار تسلط الضوء على الرموز التي تنهار أمام الإغراءات، الرموز التي تبح حناجرها في التظاهرات ثم تغني للحكومة أعذب الألحان بعد أن تكون جيوبهم قد انتفخت من المتاجرة بحقوق شعوبهم... في هذا المقطع يتحدث حمدان مع زوجته رباب.

«المحامي فيصل المقادي» و»الشيخ» و»أبو جواد» وغيرهم من الرموز التي تحترمينها، لا يستطيعون المقاومة، الحكومة تملك مفاتيحهم كلهم، سيارة فاخرة، قطعة أرض ورصيد مالي أو توّزير هنا أو... سفير بالخارج وكل ضجيجهم المتباكي على المواطنة وحقوق الإنسان ينتهي في لحظة، استوعبي كلامي قبل أن تصدمي فيهم». ص222.

في حين أبو جواد «يجتمع في الخرابة مع الشباب ليحثهم على النضال في سياق سلمي، توضح الأحداث أن الشباب يخرج دائما عن الخط الذي رسم له ويثير ويفتعل الكثير من الأشياء التي تسيء لهذه الحركات، من الأشياء التي ركز عليها هي حرق بيوت الأجانب فقط لكونهم أجانب ويأتي العامل الآسيوي «مشكور» على القائمة قي قرية «حداحيد» التي تعصف بها الأحداث.

«مسكين لم يقترف ذنبا سوى أنه غريب لا سند له ولا عشيرة. ومن السخرية أن نشتكي الضعف والهوان ونسب الحكومة لأنها تتجبر علينا فيما نحن نستقوي بعضنا على بعض ونبحث عن تنفيس خيباتنا فنفرغها غضبا كافرا على الضعفاء الأدنى منا، مسكين يا مشكور، حمل خوفه وتكوّم عظامه وفرّ بجلده بعيدا عن حداحيد ليحمي نفسه». ص 53.

في الختام يحدث انقلاب من قبل «المجنسين» على الحكومة ويستولون على الجمهورية وتستمر الأحداث في التهاب من جديد...

الأحداث صيغت بشكل دقيق ينم عن وعيّ وتخطيط مسبق، المؤذن وظفّ الحياة القروية والمفردات بشكل مذهل وجاء بالكثير من التراث كاحتفال «الجبيه» وهو احتفال خاص بالبنات مع قدوم الربيع، كما يرصد أحمد منذ صغره أحاديث الفتيات اللاتي كن يشاركن في حلقات الشيخ واللعب مع الصبية وهو يتلصص على حديثهن...

«خاتون تتكلم بخجل شديد عن دورتها الشهرية وقلقها من النزيف الأحمر المتمرد وفضيحتها خلف باب الحمام، نست إغلاقه فدخل أخوها الأصغر فجأة ثم ركض مذعورا من بقع الدم التي شاهدها فوق السطح الاسمنتي وخرج يعلن الخبر!» ص 87. المؤذن المسكون بالطبيعة أعطى القرية كل الوهج ولم ينسَ البحر...

«هذا الساحل مختلف الآن، متآكلة أطرافه بالدفان العشوائي وزحف الخرسانة المسلحة في جوف البحر تأكل قلبه، «فلل» مترفة يسكنها غرباء ومزارع تؤوي المجهولين والمشبوهين. تتكاثر على طول الشاطئ... تبا، ما أقسى المتاجرة في تراب الوطن باسم الاستثمار والتنمية!» ص93.

وتساءل الموسوي لا أدري إن كان المؤذن يكتب أم يحرق؟ القارئ سيجد نفسه محاصرا بالحرائق في كل مكان، الخرابة التي تحترق عشرات المرات، الشوارع والإطارات، بيت مشكور وفيلا المختار، والثكنة العسكرية، أم قاسم التي لا تبرح منامات ملا عيسى تأتي بلهبها الجحيميّ...

«كل الخضرة التي يحتفل بها المكان، أصبحت رمادا وكآبة، الآن نصف وجه قريتي محروق!»ص 86. والنصف الآخر دخان يخفي خراب كل من الشخصيات التي طرأت في الرواية لكل منا خرابه الخاص والمؤذي.

في هذا العمل المؤذن استطاع الخروج من عباءة القاص لحد كبير إلا أنه لم يتخلص من أدواته القصصية التي اعتاد عليها قرّاؤه، تلك العبارات المكثفة والمقتطعة كانت واضحة المعالم وخاصة في الفصول الأولى.

بالنسبة لعامل الزمن في الرواية رغم أن المؤذن لم يتورط بتواريخ كثيرة غير ثلاثة فقط «1993،1995، 2000» إلا أن الرواية لم تعتمد سيرة تاريخية محددة وإنما تم تحديدها في هذه الفترات على الرغم من ذلك ثمّة إرباك بوضع التواريخ مثلا... ذكر في شطر من الراوية عندما تلجأ كلثم لكتابة مذكراتها في غياب «علي» وانقطاع أخباره تماما «_ إنه يوم الاثنين 17 أكتوبر من عام 1995 يجافيني النوم وأنت السبب» ص40. ثم يذكر في شطر آخر وكلثم ترسل لـ «علي» ردا على رسالة وصلت منه تذيلها بتاريخ ينقض التاريخ الأول


«ابنة عمك الوفية كلثم 7/ 2/ 2003»

من الملاحظ الخلل أو الهفوة في التواريخ إذ إن كتابة المذكرات يجدر بها أن تكون أقدم من تبادل الرسائل في سياق الرواية، التاريخ الأخير ورد في نهايات الرواية وقت الانقلاب يتحدث «أحمد» مع «أبو فخري» صاحب القهوة التي أغلقها يوم الإضراب العام «حولها لمحل انترنيت نحن في العام 2000 يا رجل، أو تدري حولها لمطعم مشويات، الناس تحب ملء بطونها» ص263.

الشيء المؤكد هنا أن الأحداث بدأت في التسعينيات واستمرت لما بعد الألفية الثانية.

من الأشياء الملفتة في الرواية أن «أحمد» أو الراوي كان محايدا جدا لم يجعل المعارضة خارج نطاق التشكيك في جميع نواياها برغم رفضه لطغيان الحكومة فكما أوضح الملفات كالتجنيس والبطالة والفساد والتعذيب... إلخ عند الحكومة أوضح بعض الممارسات للمعارضة كالتعامل مع جهات أجنبية، اللجوء السياسي كمهرب، تحول الرموز إلى رجال للدولة... إلخ وهذا في - اعتقادي - أمر جوهري بأن تترك الباب مفتوحا للقارئ يبث رأيه في الطرفين بحيادية أيضا دون توجيه أو فرض.

هل نجح المؤذن في كتابة روايته الأولى؟

أعتقد أن المؤذن اشتغل بجد واستطاع أن يبرهن عن ذكاء مدهش في توظيف الشخوص وإحكام حبكة من الصعب تجاهل مدى تعقيداتها... إلا أن روح القاص كانت حاضرة أكثر من روح الروائي وهذا أمر طبيعي في تجربة أولى نجحت على أكثر من صعيد.

العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً