العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ

«أغورا»... دائرة هيباتيا

في فيلم «أغورا» للمخرج الإسباني اليخاندرو امينابار صرخت هيباتيا: لا، في وجه من قالوا نعم، هيباتيا عالمة الفلسفة في القرن الرابع الميلادي والتي عاشت أوج الصراع بين اليهودية والمسيحية رفضت أن تُسيس كما فعل الكثير، حين ختموا أدمغتهم باسم المؤسسات الدينية تارة والسياسية تارة أخرى، هيباتيا، التي ظلت تدور طوال عرض الفيلم في دائرة الشك، كانت تدور في أفكارنا ومعتقداتنا، لم تستقر ولم نستقر معها حتى انتهت حياتها، ولكن أفكارها ظلت تحلق في رؤوسنا كما الطير الضائع الذي يبحث عن مكان يستقر فيه.

جدلية العلم والدين، التي يتم طرحها في الكثير من الأعمال الفنية، والكتابية تمخضت في هذا الفيلم، فأنجبت لنا هيباتيا التي قالت للجميع نعم للعلم، لا للتطرف، أسلوب حضاري لنبذ العنف على جميع الأصعدة فالتطاحن الموجود في الكثير من المؤسسات يحتاج لمثل هذه الصرخة التي تحرك الشلل والجمود في تفكيره، تحرك الإبداعات التي تشلها النعرة العصبية والقبلية، التي تبحث عن متنفس يروي ظمأها فيأتي سفك الدم مع الأسف في غالبية الأحيان هو الحل لرأب الصدع، والأخذ بالثأر، ذلك الصراع الأزلي الذي لا ينتهي منذ أن قتل قابيل هابيل.

هيباتيا التي جسدت دور العلم والمنطق والتفكير، والسلام، آلت على نفسها أن تموت وأن يُمثل بجسدها، ولا أن تخضع لحكم التطرف الديني، والتعصب السياسي، فحين جرّد المسيحيون هيباتيا من جميع ملابسها في آخر الفيلم ليرجموها، فذلك اعتراف ضمني منهم بتجريد الحقيقة، ورفضها، لأنها في النهاية ستعريهم، وتسلبهم أفكارهم التي يتشبثون بها من غير أن يدركوا أنهم يعيشون الوهم ويتعلقون بأسبال الماضي الذي لا ينفع إلا مع العقول الساذجة البسيطة.

في كتابه «خارج الجماعة» تطرق نادر كاظم للفكرة نفسها تماما حين قال: «على أصحاب الهويات القاتلة أن يتفكروا قليلاَ لا في الأخوة الإنسانية التي تجمعهم مع البشر أجمعين، ولا في القواسم المشتركة التي يمكنهم اكتشافها مع آخريهم فحسب بل في حقيقة أن العنف الذي ينطلق بغاية إبادة الآخر ومحوه من الوجود ليس أكثر من فعل عبثي يخفق حتما في نيل مطلوبه».

لا يعني كوننا خارج الجماعة أن نسقط الآخر لا، فذلك إسقاط لأنفسنا وفكرنا أيضا أن نكون خارج الجماعة، هي أن نكون أحرارا من الأوهام، خارج الجماعة هي حفاظ على قدسية أفكارنا وعذريتها، لا نسمح لأحد أن يتعرض لها أو يهينها، نعيش في دائرة الشك لنصل إلى الحقيقة التي تسمو بنا لأننا نحن الذين صممنا على الوصول إليها، ولم تأتِنا معلبة جاهزة.

حاولت على رغم ادّعائي المتكرر بأنني متمرسة بعلم البرمجة اللغوية العصبية ألا أتأثر بدائرة هيباتيا إلا أنني وجدت نفسي وسطها وكل خطوطها تلفني فأدركت أنها هي أساسا تدعو الناس إلى عدم الخضوع لأية برمجة من أية جهة كانت.

يقول فردريك نيتشه: «إننا لن نحترق من أجل آرائنا لأننا غير واثقين جدا منها، وربما نحترق من أجل أن تكون لنا آراء، ويكون لنا حق في تغييرها».

العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً