العدد 548 - السبت 06 مارس 2004م الموافق 14 محرم 1425هـ

مبارزات عربية أميركية عن الديمقراطية

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

شهدت الفترة الأخيرة تصاعدا ملحوظا في العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة أو عدد من الدول العربية، معظمها من أصدقاء واشنطن، وتركزت التوترات المتداولة في وسائل الاعلام وعلى ألسنة المسئولين هنا وهناك، عما أصبح يعرف بالبرنامج الأميركي للاصلاح الديمقراطي.

ولم تشفع الصداقات القديمة ولا المحاولات الحديثة، لمداراة الخلاف العميق بين الاطراف، فما تريده واشنطن لا تحبه العواصم العربية، وما يعلنه الرئيس جورج بوش يقلق الرؤساء العرب، وما تخططه السياسية الاميركية لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» لا يجد قبولا في العالم العربي، سواء على مستوى النظم الحاكمة أو على مستوى الرأي العام.

فهل يقفز متسرع يقول - أو يتنبأ - بأن علاقات الصداقة التقليدية بين الولايات المتحدة ومعظم الدول العربية، تتعرض لأزمة خانقة، قد تؤدي إلى خلاف فخصام فقطيعة!

مهلا... فالأمر في حقيقته غير ذلك، وما يبدو من خلافات على السطح وعبر الميكروفونات، لا يعكس حقيقة «المصالح» بين الطرفين التي شاعت فسادت على المستويات العامة والخاصة، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن نية الطلاق غير قائمة ولا هي ممكنة لأسباب كثيرة، أهمها سيادة نظرية سياسية تحكم هذه العواصم العربية تقول إنه لا مفر من صداقة اميركا، حتى لو جارت علينا، وضغطت وقست، وبالتالي فلا مفر من التفاهم معها تحت اي ظرف، وبالتالي لا بأس من الاستجابة لمطالبها... ولكن بروية!

من الناحية المنطقية والعملية، لم يعد ممكنا أمام اية دولة في العالم اليوم، مناطحة أو مخاصمة ومقاطعة الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبحت القوة العظمى الوحيدة، صاحبة القرار الاستراتيجي الكوني، مالكة أقوى اقتصاد وأقوى آلة عسكرية حديثة، ما جعل منها «امبراطورية» في المعنى الكلاسيكي المعروف، لا تناطحها امبراطورية أخرى كما كان الحال في القرن الماضي حين كانت الامبراطورية السفياتية في مواجهتها، أو في القرن قبل الماضي، حين كانت الامبراطوريات الأوروبية، خصوصا البريطانية والفرنسية مثلا تتصارع وتتناطح، فيتحقق نوع من التوازن الدولي، يسمح للدول الاخرى مثلنا بهامش من حرية الحركة، مثل حركة عدم الانحياز وسياسة التعايش السلمي، التي صاغها رواد الاستقلال الوطني في العالم الثالث بزعامة عبدالناصر ونيتو ونهرو ونيكروما وغيرهم من الآباء المؤسسين.

عالم اليوم مختلف، فقد سقط وسقط الجميع في القبضة الاميركية المنفردة، الى ان تحين لحظة تاريخية مغايرة، تظهر فيها اقطاب دولية أخرى، تعيد لحركة العالم توازنها، وتصوغ العلاقات الدولية بمقياس مختلف...

اميركا تدرس جيدا مغزى هذا الظرف التاريخي، الذي أهلّها للانفراد بالهيمنة الدولية من دون منافس، والعرب - كغيرهم من الشعوب الصغيرة - يدركون ايضا المغزى نفسه، وكذلك دولة أخرى مثل الهند، ناهيك عن أوروبا والصين وروسيا، لكن الفارق الجوهري، ان كلا يلعب بما في يده من أوراق، حين يجالس الذئب الاميركي المنطلق والمنفلت!

فكيف نلاعبه نحن ونجالسه ونسامره؟

الحقيقة الواضحة للعيان ان العرب جماعات ووحدانا، يعيشون أقسى وأسوأ لحظات تاريخهم الحديث، لأسباب داخلية وعقبات ذاتية، وأخرى خارجية لكن الأسباب الداخلية هي الأهم، لأنها في البداية والنهاية هي التي تشكل الدول وتصوغ علاقاتها الخارجية، وتبني مصادر قوتها، أو العكس، ولقد نجحت الاسباب الخارجية في اقتناص الفرصة التي اتاحتها العقبات الداخلية، فأطبقت على الفريسة وهي من أضعف حالات قدرتها على المقاومة.

وحين اجتمعت الاسباب الداخلية مع تلك الخارجية، صحونا على بدايات القرن الحادي والعشرين، ونحن نعاني أمراض فقر الدم والشيخوخة وهشاشة العظام، من فقر وتخلف واستبداد وفساد واحباط، فماذا تنتظر اميركا أكثر من هذه مناسبة للانقضاض الشامل، باسم اصلاح هذه الأوضاع المتردية التي انعكست - كما تقول - عليها تعصبا وارهابا!

لقد تصور صناع السياسة الاميركية غير المتعمقين جيدا في فهم سيكلوجية الشعوب القديمة مثلنا، ان مجرد طرحهم لكلمة الديمقراطية أو فرص الاصلاح الديمقراطي، أو تغيير العقول والافهام ومحاربة الفساد والاستبداد المحلي، سيلقى الدعم الشعبي وسيقابل بمظاهرات التأييد ومسيرات الحب والاعجاب «بالمخلص» النازل من سماء واشنطن ليبدد إليهم ويزيل القهر ويقضي على الفقر فيجبن أو ينحني الرؤساء والزعماء طاعة أو رعبا.

وربما من سوء حظ الديمقراطية والاصلاح، بل من سوء حظ شعوبنا مع الديمقراطية والاصلاح والتغيير والتحديث، ان المسألة سارت بهذا الشكل، الذي مارست فيه وبه السياسة الاميركية عنهجية الفرض والاجبار والقسر، التي استفزت الشعوب واستثارت معارضتها، فعامت القيادات المعنية على أمواجها، واستغلت ذلك كله للاستقواء ولو نظريا في وجه القسر الاميركي؟ ونظن أن المواجهة مفتوحة مازالت.

غير ان ما يهمنا في الأصل والاساس هو استغلال اللحظة التاريخية لازدهار الديمقراطية في العالم، واستثمار المطالب الداخلية، وضغط الحاجات الوطنية والقومية، لدفع تيار الاصلاح الديمقراطي الحقيقي والشامل إلى مداه الأوسع والأعمق، خصوصا أن ثمة استجابات واضحة ومباشرة، لما كان مرفوضا ومجرما بالأمس القريب، بصرف النظر عما تقوله اميركا، من انه لولا ضغوطها على الحكومات العربية، لما استجابت هذه وبدأت بعض خطوات الاصلاح... المهم ان يحدث الاصلاح ويتحقق التطور الديمقراطي بأيدينا وافكارنا ووسائلنا.

وفي هذا السياق لابد للمراقب الواعي ان يلاحظ اشتعال عدد من المبارزات السياسية والاعلامية، على ساحة العلاقات العربية الاميركية، تشتعل أحيانا بالحدة في التصريحات وبالشدة في التهديدات، وتنعم أحيانا أخرى بمجرد عتاب الأحبة ودلال العشاق، وانظر معي في النماذج الآتية على سبيل المثال لا الحصر... وتمعن ياعزيزي!

حين كانت القاهرة ومعها عواصم عربية كثيرة تتنفس بقرار الرئيسي مبارك إلغاء عقوبة حبس الصحافيين وغير الصحافيين في قضايا الرأي والنشر، ما يشكل تحولا بارزا في تحرير الصحافة والصحافيين من أقسى القيود السالبة للحرية، وما يدفع بمسيرة الاصلاح الديمقراطي خطوة مهمة للأمام.

أطبقت واشنطن بهجوم مكثف ونقد شديد لأوضاع الحريات عموما وحرية الصحافة خصوصا من مصر والدول العربية كلها، وذلك باذاعتها للتقرير السنوي من أوضاع حقوق الانسان والديمقراطية، الذي تصدره وزارة الخارجية الاميركية...

وجاءت أبوابه الخاصة بمصر والدول العربية، تحمل من النقد والهجوم والتنديد بالممارسات الحكومية، ضد الحريات وحقوق الانسان، وعن الفقر والجهل والتخلف والتعصب والتطرف، ما أثار رد فعل معاكس كالعادة!

حين كانت القاهرة تعد الملفات التي سيصحبها الرئيس مبارك معه في زيارته الوشيكة إلى واشنطن، خصوصا ملفات الصراع العربي الاسرائيلي، والوضع في العراق، والتوتر المستمر في الشرق الأوسط، ومشروعات الاصلاح الديمقراطي المطروحة اميركيا.

سارعت واشنطن وسط صخب سياسي واعلامي، باعلان بدء مبادرتها الجديدة المسماة مشروع الشرق الأوسط الكبير الممتد من المغرب إلى اندونيسيا، مركزة على محورين، أولا التجاهل التام لقضايا السلام والاستقرار وضرورة وضع حل جدري للصرع العربي الاسرائيلي واقامة دولة فلسطين المستقلة، ثانيا الاصرار الكامل على فرض برنامج الاصلاح الديمقراطي بمفاهيمه ووسائله الاوروأميركية، ما أثار مزيدا من الاستفزاز...

فردت القاهرة والرياض، عبر البيان المشترك الصادر بعد محادثات الرئيس مبارك مع القادة السعوديين، بهجوم شديد على البرنامج الاميركي وبرفض كامل لسياسة التدخل بالفرض والاجبار، وكانت تصريحات مبارك في طريق عودته من الرياض، هي الاشد والاوضح ضد مثل هذه السياسات الاميركية، ما أثار انتباه الجميع، فثمة لهجة شديدة وملاحظات نقدية جديدة، وثمة علانية في النقد والنقد المضاد، لم تعرفه العلاقات من قبل!

بينما كانت العواصم العربية تتشاور بجدية عن ضمانات نجاح القمة العربية المقررة بعد اسابيع في تونس، وبينما أعلن عن خطة مصرية سعودية سورية، لاصلاح وتقويم الاوضاع العربية، وتطوير الجامعة العربية وتحديث آليات العمل العربي المشترك، دفاعا عن مصالح مشتركة للشعوب العربية.

فاجأت واشنطن الجميع باعلانها الدعوة لقمة «شرق أوسطية» عاجلة، تسبق قمة الدول الصناعية الثماني في اميركا خلال شهر يونيو/ حزيران المقبل بهدف مناقشة اصلاح مناهج التعليم والثقافة والاعلام تحديدا في المنطقة، في اطار «حرب الافكار» التي بشر بها وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد دونالد من قبل، ومدخلا لتنفيذ برنامج الاصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط الجديد، ونقل المفاهيم والأساليب الاوروأميركية.

ويلفت النظر في الدعوة الاميركية الجديدة والمفاجئة شيئان مهمان، أنها تدعو أولا لقمة شرق أوسطية تضم «اسرائيل» طبعا وغيرها من الدول المجاورة، في مواجهة القمة العربية في تونس، وأنها ثانيا تركز على تغيير العقول، كما تتصور بإرادتها، متجاهلة حتى مجرد التشاور مع العواصم العربية المعنية، التي عرف مسئولوها وقرأوا عن هذه المبادرة والقمة الجديدة، مثلنا في صحف الصباح... فكيف سيردون في قمة تونس!

وهكذا، بين الشد والجذب، بين تقاطع المبارزات أو تلاقيها، تجرى هذه الايام العلاقات العربية الاميركية، من دون الوصول إلى نقطة الصدام والخناق، ولا إلى نقطة الوفاق والاتفاق...

خير الكلام: يقول الإمام علي (ع):

دواؤكَ فيكَ وما تشعرْ

وداؤكَ منكَ وما تُبصرْ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 548 - السبت 06 مارس 2004م الموافق 14 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً