العدد 2752 - الجمعة 19 مارس 2010م الموافق 03 ربيع الثاني 1431هـ

لومٌ مِنْ صَدِيقٍ صَدُوق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أسرَّ لي أحد الأصدقاء الصّدوقين جدا قائلا: لماذا أنتَ متحاملٌ وبقسوة على التجربة العراقية؟ قبل ذلك كنتُ أسمع ذات القول من أشخاص آخرين. وتلقيتُ بشأنه عدّة رسائل على بريدي الإلكتروني. بعضهم تملّكه اللبس، بين صفاء ذهني تحقّق لديه بفعل الكتابات في الشأن الإيراني، وبين خدْش مُؤلم لذلك الصّفاء عندما أهمُّ بالكتابة عن الشأن العراقي.

على أيّة حال. صديقي الصّدوق الذي لطالما تقوّمت أفكارا لدي بفِعل تحليلاته ووجهات نظره الراجحة، يعتقد بأن التجربة العراقية ما بعد الاحتلال الأميركي هي أفضل بسنين ضوئية من دول كثيرة في المنطقة مازالت تعيش حياة سياسية جبريّة بائسة، وتخوض بدون رحمة في انتهاك الحرّيات الشخصية والعامة بما يشيب له الولدان.

قلتُ له حينها وأنا خافض الجناح: ليس ذلك تحاملا مني على التجربة العراقية. فلستُ من رجالاتها ولا قادتها، وإنما أخبار أعلّق عليها كما قال أحدهم. وحين يكون هناك ما يُحمَدُ فيها سأقول، والعكس صحيح، فالقضية ليست أن يجفل الحصان لكي أأنس شامتا، فهذه الأمور ليست مرادا لطلاّب الحقيقة والمسئولية، وإنما هي زادٌ يقتات عليه آكلوا الأوعال.

أضيف على ذلك أمرا لا أتأفّف من قوله. فقبل الاحتلال الأميركي للعراق كانت أجواء المنطقة تحكمها صورة الحكم البعثي في العراق ودمويّته. السجون، الاغتيالات، الحريات المقموعة، حروبه شرقا وغربا بالسّواء، معارضة ومهجّرون، وكان الجميع يتمنّى زوال البعث حتى ولو بأيدي الشيطان. هكذا كان يُقال منّي ومن غيري، عامة وخاصّة، مثقفين وغير مثقفين.

بل حتى عندما تحدّث السيد حسن نصر الله في ذلك الحين، ناصِحا المعارضة العراقية مطلع فبراير/ شباط من العام 2003 بأن تعمل على «طائف عراقيّة» تجتمع فيه مع النظام الحاكم على مشتركات المرحلة الراهنة في الدفاع عن العراق أمام غزو أميركي وخطره الداهم على عُموم المنطقة، تمّ التعدي على شخص الرجل من قِبَل بعض الساسة العراقيين (أتحفّظ عن ذكر أسمائهم)، رغم أنه كان معبودا سياسيا لدى الشارع العربي والإسلامي.

ما أودّ أن أخلص إليه هو أن العديد من الناس ممن أراد للبعث أن يزول على يد الجيش الأميركي، بات مُشوّشا بالضريبة التي نَتَجَت عن ذلك التغيير. أربعة ملايين مُهجّر إلى الخارج، ومليونان ونصف المليون مهاجر داخلي، ومئات المقابر الجماعية بفعل الحرب الطائفية، ومئات الآلاف من القتلى، وأربعة ملايين يتيم، ومليونا أرملة، وإرهاب وقاعدة وتفتّت اجتماعي مهول، وسرقات وفساد مالي خطير!

هذه ليست ضريبة عاديّة قدّمها الشعب العراقي لكي يقبل بأيّ تغيير، أو يقبل غيره حتى. نعم لا أريد أن أعود إلى الوراء؛ ولا أحبّذ قمعيّة البعث ودمويّته، ولا نريده أن يحكم العراق بذات المنهجية والأسلوب. فالذاكرة بشأنه بائسة، وتقلق حواضر الكثير من العراقيين، ولكن الجميع يحتاج إلى تفسير موضوعي وصادق لما جَرَى.

من غير المعقول أن يُقتَل الآلاف في محافظة ديالى وحدها (سنّة وشيعة) وتُهجّر زهاء اثنتين وخمسين ألف أسرة منها، ويُفقَد 2054 عراقيا، ويُعثَر على 120 مقبرة جماعيّة بفعل القتل الطائفي ثم لا أطرح تشكيكا في المشروع! ربما يكون ذلك تنفيسا، أو جَلْدا للذات، أو صراخ مَقْماقٍ في تِيْه كبير، لن يستريح إلاّ بسماع ذلك الجُؤَار والاستغاثة، سمّه ما شئت إلاّ أن البوح به ضرورة، هكذا أرى وبكلّ وضوح.

المجتمع العراقي مُجتمع عشائري، تنضج قضاياه على أوتار القبليّة والعشائريّة أكثر من نضجها على أيّ شيء آخر. بل حتى الدّين تمّ تطويعه أحيانا لمواءمة ذلك الحال، كما جرى بالنسبة للسيد محمد محمد صادق الصدر. وبالتالي فإنه من الخطأ الاعتقاد بأن ما جَرَى طيلة الأعوام السبعة الماضية ستمحيه انتخابات نزيهة (أو مُزوّرة) أو حتى عملية سياسية يتشارك فيها الجميع؛ لأن القضية أخذت أبعادا أكبر، وأبعد.

إنني لا أطرح سلّة من التشاؤم، وإنما أصِف واقعا يجب على الجميع تحمّله. فمن شاهَد أخاه أو أيّ أحد من أفراد أسرته يُقتل فقط بسبب اسمه أو كنيته الدّالّة على مذهبه ودينه، لا يُمكن أن يطوي ذلك بربْتَةٍ على كتِفه، أو تسكين لمشاعره باعتذار. وأخشى ما أخشى منه هو أن يقضم العراقيون في لحمهم حتى يُبانَ العظم، كما فعَل الأوروبيون وعلى مدى قرنين من الزمان، إبّان حروبهم الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، التي أشعلتها صراعات حول صور المسيح!

نعم... لو كان التغيير أنتَجَ عراقا يحمله نظام مركزي مستقر وآمن وناجز اقتصاديا، ولو أنه أنتج مجتمعا غير ملتفِت لتناقضاته الطائفية والمذهبية، ولم يُورَّط ناسه في إراقة دمٍ عبيط، لحَفَينا رؤوسنا بترابه احتراما، وصنّمناه لنا في السياسة نموذجا نُباهي به الأمم. إلاّ أن ذلك لم يحصل. ليس ذلك فحسب، وإنما كانت النتائج أقلّ من المتوقّع بكثير.

وقد يأتي اليوم الذي يرتُق العراقيون فيه فَتْقهم، ويطَمروا سَغْبَة جوعهم، ويُصبحوا شيوخا في السياسة على جوارهم، حينها سنكون أوّل من يفرح لهم، ويبارك مسعاهم. فما يجمعنا مع العراق ليس أقلّ مما يجمعنا مع لُحمة في جسد واحد، إن اشتكت من مرض تداعى لها سائر الأعضاء بالسهر والحمّى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2752 - الجمعة 19 مارس 2010م الموافق 03 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 6:23 ص

      من يبكي على صدام ؟

      هم من الذين فقدوا وجاهتهم و ثرائهم من سياسة التمييز.
      هم التكفيريين او المتأثرين بهم ، الذين لا يطيقون بل يرفضون ان يدير العراق شيعيا.
      هم دول المنطقة التي ترى ان حكومة شيعية في العراق يعني حكومة متحالفة مع ايران.
      هم الامريكان الذين يريدون صدام اخر بمواصفات مختلفة له وجه داخلي قاسي و خارجي حليف للغرب وعلاوي نموذج مقبول عندهم.
      بالنسبة للغرب المالكي مرحلة انتقالية حتى يأتي صدام اخر بمقايسهم.

    • زائر 9 | 6:20 ص

      في الواقع توقعت ضريبة اكثر واكبر

      بس كان للمرجعية دور أساسي ومهم في كبح جماح الكارثة كما قال البعض، بصراحة تكوين العراق التاريخي الثقافي الاجتماعي..الح كان ممكن ينتج كارثة ادمر مما انتجه، ومما انتجته أوربا ، ولا ننسى ان في يوم واحد مات ربع مليون انسان في زلزان هاييتي ، الموت بصورة طبيعية أو غير طبيعية مسألة طبيعية على الكرةالأرضية ، ومع ذلك العراق مؤهلة لأن تصل لدولة ديمقراطية حقيقية أكثر من لبنان وقبل لبنان..

    • زائر 8 | 5:22 ص

      توضيح

      للزائر المحترم رقم 5
      صحيح بأن الموضوع يحتاح إلى سنين طويلة ولكن ما هي الضريبة التي سيدفعها؟ إنها كبيرة وفلكية

    • زائر 7 | 5:02 ص

      14 نور // يتبع

      فتداركوا ذلك بأن توحدوا في توحيد القادة وصنع المعجزات بالنسبة لحرية الإنتخاب و التصويت وعلى الرغم من كثرة الأخطار المحدقة التي كانت تحيط بهم طوال يوم الإنتخابات أو قبله أو بعده هم قرروا أن يصوتوا رغم معرفتهم إنه من المحتمل أن يكون الموت من نصيب أي أحد منهم في ذلك اليوم ولكنهم ذهبوا وإنتخبوا بصورة في غاية الجمال فهذا هو النصر الذي حققوه من وراء سعيهم لتحقيق حلم الحرية إلى حقيقة وأيضاً برعاية المرجعيات العظام الذين لهم نصيب الأسد من تهييئ الناس لذلك وما أكثر الشهداء من المراجع وعلماء الدين.

    • زائر 6 | 4:57 ص

      14 نور

      لكل منا رأيه ومن صفاتنا إحترام رأي الآخر فهذا ما نطالب به أما بالنسبة للكاتب العزيز القيم الأداء على العموم الأخص فأنا أوافقك في بعضه و أخالفك في بعضه الآخر, فكما قلت عندما تكلم السيد حسن نصر الله عن التضامن تحت راية جمع الطوائف فذلك لدراية السيد بعدوان الغرب ومخططاته التي تحاك منذ سنين ضدنا فهو كان يريد إعطاء العراقيين الفرصة لحل أزمتهم بدون تدخل من يضرب الإثنان بعد ذلك وكما هو حاصل الآن فبعد أن فرغت أمريكا من ضرب النظام هاهي الآن تضرب الشعب بالتفجير والإرهاب المنظم ولكن تعلم العراقيون من ذلك

    • زائر 5 | 3:47 ص

      العراق كذلك قد تحتاج لمئتي سنة واكثر لتصل لديمقراطيتهاالمصفاة

      ما ينتج عن التغيير يكون تابع لكمياء وفيزياء الشيء ، فلا يمكن كتركيبة مثل العراق ان تنتج ديمقراطية كاملة بين يوم وليلة ، لابد ان تمر بمراحل كالحروب والمحاصصة و و و ، أمر طبيعي جداً ، في مرة واحد يعتقد نفسه مثقف ومافي قده ، وصف ماحدث في انتخابات العراق السابقة بأنها محاصصة ، فمت من الضحك ، لاني اعتقد الأمر طبيعي ، لا يمكن القفز ، هنالك قوانين ، والطفرات تحدث بشكل استثنائي ان حدثت وتبعاً للتركيبة الكميائية والفيزيائية للشيء نفسه لا لغيره .

    • زائر 4 | 1:58 ص

      تعليق

      رايك محترم

    • زائر 3 | 12:55 ص

      ولكن يا سيدي

      مع ذلك اقول انني لا اتهمك واجعلك في مصاف اعداء العراق فكتاباتك اتابعها جيدا ويعجبني اسلوبك الراقي وفكرتها العميقة ونناقشها في مجالسنا هذا للتوضيح فقط

    • زائر 2 | 12:48 ص

      التجربة ناجحة

      شوف يا كاتبنا المحترم التجربة العراقية بتنجح ان شاء رضى او لم يرضى الحاقدون ومو بس بتنجح بتصير شمعة في العالم العربي وقدوة للدول البوليسية

    • زائر 1 | 12:46 ص

      الجرائم بفعل الاحتلال و الارهاب

      الاحتلال و الارهاب الممول من حلفاء امريكا بالمنطقة هما سبب العراق وليس الحكومة العراقية . الارهابي ابو عمر البغدادي حدد هدفه قبيل الاختبارات وهو قطع الطريق على الرافضة كما اسماهم من السيطرة على العراق وهو تقاطع تلاقت فيه ارادة عربية و غربية و قاعدية

اقرأ ايضاً