العدد 591 - الأحد 18 أبريل 2004م الموافق 27 صفر 1425هـ

تفاعلات حوادث القامشلي: إلى أين تتجه؟

فاروق حجي مصطفى comments [at] alwasatnews.com

كاتب سوري

ما حدث في القامشلي قبل أيام كان حدثا كبيرا لأنه لم يحصل في تاريخ الاكراد حادث مثل هذا. الاكراد الذين يوزعون في عدة مناطق يعتبرون بأنها لهم (عفرين «جيا كرمانج»، عين العرب «كوباني»، القامشلي، رأس العين «ساري كانيه»، عامودا، ديريك... الخ)، ويقدر عددهم بمليونين ونصف المليون نسمة حسب إحصاء الاحزاب الكردية، وهي اثنا عشر تنظيما سياسيا غير مرخص، لم يحدث أي تصادم مع السلطات بهذا الحجم وبهذه الوتيرة. ولعل مسلسل الحوادث التي طالت مدتها أكثر من خمسة أيام كان فظيعا ومخيفا أيضا، لعدة أسباب:

أولا: إن هذه الحوادث كادت أن تدمر العلاقة العربية الكردية بعد أن دمرت بعض المرافق العامة والخاصة التي يستفيد منها أهالي المنطقة قبل أي شخص آخر.

ثانيا: إن هذه الحوادث فسحت المجال أمام الذين يودون الاختراق بين الأكراد والدولة، هذا فضلا ان الحوادث كشفت عن أمور كثيرة مسكوت عنه سابقا.

ثالثا: إن هذه الحوادث أثرت بشكل مباشر وغير مباشر على الوحدة الوطنية، وهو أمر لا يرضى به الجميع أكرادا ودولة ومثقفون.

من دون شك ان هذه الأعمال ولو انها أخذت منحى سلبيا وكانت ناتجة عن احتقانات متراكمة إلا أنها لم تأت من الفراغ. استغلها البعض الذين يستلذون من أجواء الفوضى والطيش في ضوء غياب المسئولية الوطنية والأخلاقية، ولا نستغرب أن نفى الكثير من الجهات الكردية ان الاكراد كانوا وراء هذه الأعمال التخريبية.

ثمة من الاكراد من يرجّع المسئولية الى من كان سببا في انطلاق الشرارة الاولى، ويعزو السبب إلى ان اهالي المنطقة لم يكن بنيتهم بتاتا فعل أي شيء من هذا القبيل، وحتى التفكير في مثل هذه الحوادث لم يكن موجود أصلا أو واردا بالنسبة لهم، فالتركيز الكردي وحسب المعلومات عنهم، كان ينصب بالدرجة الاولى على كيفية إحياء التفاعل الكردي مع الفعاليات السياسية، فهذه المسألة هي الشغل الشاغل الوحيد لدى الكرد، لكن هذا لا يعني بأنه ليس هناك فئات أو أفراد موجودون داخل الكرد تراهن على الظروف الدولية وتسابق الحوادث واتجاهاتها. في كل الاحوال نعتقد ان اصحاب هذا الاتجاه لا يعرفون ايضا حجمهم السياسي ومواقفهم وحجم المشهد السياسي السوري وفعاليته في هذه المرحلة.

استطرادا... والحال أن حوادث القامشلي تركت خلفها الأمور معلقة، وأهمها هو كيفية السيطرة على الوضع لأنه ربما يأتي يوم ليس بوسع أحد السيطرة على الوضع بسهولة، وذلك لأن الكثير من المبررات قائمة ولم تحّل.

في الحقيقة ان حوادث القامشلي وضعت على المحك جهتين، الجهة الكردية أدركت للتو انها في مكان خاو لا أحد حوله ولا جانبه، وكل ما ناضلوا لأجله كاد ان يتوّج بالفشل، ولا نستغرب حتى ان بعض المثقفين العرب الذين يعتبرون الاكراد هم الأقرب لهم بدلا من ان يقفوا الى جانب الأكراد ومساعدتهم لإنقاذ الموقف وقفوا في موقف معاد لهم، وأخذوا موقفا متحفظا من التطورات كلها، اما جهة الدولة فإنها لم تعط للحالة الكردية الاهتمام الذي تستحقه بالأساس، ولم تدرك ان مراهناتها على هدوء الوضع الكردي لن يصبح نافعا كما أمسى في ضوء المتغيرات العالمية، ولعل الظروف الدولية المستجدة والظروف الإقليمية والداخلية تتحكم شئنا أم أبينا بمستوى الوعي الكردي، إذ وصل الأمر نتيجة غياب السياسة وتهميشها حتى مع الاحزاب الكردية الى درجة فقدان السيطرة على ردود الفعل التي أعقبت الحوادث الدامية المؤسفة التي حصلت في القامشلي.

كان المطلوب من الجهات التي طوقت امتداد تبعات الحادث أن تقف موقف الإنقاذ للبلاد من الحروب العرقية لكي لا تتحول هذه الاحتقانات إلى حرب بين العرب والاكراد، ولو ان بوادره كانت قد ظهرت في الأيام الأخيرة. بمعنى آخر وحتى إن كان ليس للاكراد علاقة مع الخارج ويرفضون العلاقة مع الجهات المعادية إلى سورية، لكن بإمكان هذه الجهات استغلال الثغرات الموجودة بين الأكراد والحكم، وهي ثغرات مرتبطة بالحقوق المطلبية للأكراد.

إن وقائع الحوادث في القامشلي أثبتت ان بإمكان بضعة أشخاص توتير الوضع في المناطق الشمالية من خلال إثارة مشاعرهم أو استفزازهم، ومن خلال استغلال هؤلاء الأشخاص حرمان عشرات الآلاف من الكرد من الجنسية، إذ هناك حسب (الأحزاب الكردية) 250 ألف شخص محروم من الهوية السورية، وهؤلاء بالإضافة الى انهم يعيشون غرباء في الوطن على رغم انهم من سكان المنطقة ربما قبل مئات السنين إذا لم نقل الآلاف يعانون من وضعية المواطن-الأجنبي، غير القادر على التملك والسفر والتوظيف وغيره، فضلا عن ان هناك ظروفا استجدت بين الاكراد والدولة، وهي ظروف مرتبطة بشكل وظروف وقوع القتلى والجرحى. وهناك عامل آخر يستحضر نفسه بقوة وهو حملة الاعتقالات العشوائية بحيث شملت النساء والاطفال والشيوخ والشباب.

ومن هشاشة الوعي السياسي وقصر الرؤى ان نعتقد ان الأكراد سوف يكونون من دعاة التدخل الأميركي في الشأن السوري الداخلي، وغيره لأسباب كثيرة أهمها:

اولا: علاقة الأكراد بالسياسة من جهة اليسار تاريخيا، وهذا يجعلهم غير واثقين من جدوى الحديث عن دور أميركي لصالحهم.

ثانيا: علاقة الاكراد بالتاريخ السوري حتى الآن أكدت هذه الوطنية التي بدأها كثيرون أمثال يوسف العظمة وابراهيم هنانو، ولم تنته حتى اليوم لأن أساساتها الاجتماعية الاقتصادية كانت تتعزز باستمرار (اختلاط، زواج، صداقات، علاقات تجارية صناعية وتفاعلات ثقافية وحضارية بين ألوان الطيف السوري). يمكن الحديث عن الإشكاليتين اللتين بقيتا معلقتين في المشهد السوري والكردي.

الاشكالية الاولى: وهي ان الأكراد حاولوا تاريخيا بطرق عدة طرح مشكلاتهم وأهمها الحقوقي منها عبر مختلف الأقنية، وقوبل ذلك بنوع من الحذر واللامبالاة، بمعنى آخر ان الاكراد لم يجدوا آذانا صاغية لصيحاتهم من قبل الجميع (الدولة، المعارضة، المثقفون).

والاشكالية الثانية: هي انه حتى هذه اللحظة لم تستطع النخبة الفاعلة (مثقفون ودولة) أن تتحرر من النظرية، وهي انفصال الأكراد عن سورية. المفارقة أن الكرد أنفسهم لم يستطيعوا التخلص من هذه التهمة حتى اليوم على رغم من كل تضحياتهم، هذه الفكرة فعلت فعلها فيما جرى. ويجرى اليوم محاولة تطويقها لأول مرة عبر بعض التصريحات التي تتحدث عن اللحمة الوطنية وتركيبة النسيج السوري، وإن بصيغٍ مازالت غامضة تتهم أيدٍ خارجية وعملاء داخليين، ولكن بالنتيجة يقر الجميع أن الخوف من الانفصال كان وهما لم يعد مفيدا نشره ولا تفنيده، خصوصا وان المتابعة في ذلك ستهيأ مرة ثانية مقومات جديدة للانفجار الذي ترى الولايات المتحدة الأميركية انه صالح دوما لبناء مشروعات التدخل في كل دول العالم، كما حصل في العراق، على عكس المشروعات الوطنية التي تسعى إلى تجاوز الهوة القائمة بين الشمال والجنوب فيما يتعلق بإقامة المجتمع المدني وحقوق الإنسان وصيانة الحريات الديمقراطية.

بمعنى آخر إن مطالب الأكراد ليست آنية مبنية على رهانات خارجية بل على تكوين إطار فاعل في السياسة الداخلية، بدليل أن أهم مطالبهم حتى الآن كان إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي والحصول على الهوية السورية (لا الانفصال ولا الحكم الذاتي ولا غيره).

اليوم الأكراد يعتبرون أن قضاياهم لفتت الانتباه وهذا يعتبر مدخلا للحوار العربي الكردي الذي يراهنون عليه للوصول الى مطالبهم المشروعة من دون التورط في تلبية رغبات من يتصيد الشأن السوري الداخلي بإذكاء نار الفتنة. لذلك عمدت كل الشخصيات والفعاليات والوجهاء والأحزاب الكردية بالتناغم مع الفعاليات الوطنية بإطلاق صيحات وبيانات وعبارات التهدئة وبشكل موضوعي.

ربما آن الآوان لتفّهم الحالة الكردية من دون مواقف مسبقة تطفو على السطح كلما أرادوا المطالبة بإلغاء نتائج الإحصاء أو بالحقوق الثقافية أو غيره من الحقوق، ودون أي تهمة بالانفصال أو للإضرار باللحمة الوطنية أو غيرها.

ويمكن الاستنتاج بما وصلنا بأن الأكراد وفور وجودهم كحركة سياسية - تشكل أول حزب سياسي لأكراد سورية في صيف العام 1957 - كانوا من أنصار التعاون وبناء علاقات جدية مع العرب، ولعل نقاشاتهم وانتقاداتهم للوسط النخبوي العربي كان هما أساسيا من هموم السياسي الكردي، آخذين بالاعتبار أن الوضع الكردي يصلّح داخليا، والشأن الكردي هو شأن ديمقراطي بمعناه الحيوي والفعال وليست مسألة قومية جافة وخشنة، لذلك أعتقد بأنه لا يوجد هناك كردي يرضى أن يكون معزولا ومنبوذا في النسيج السياسي السوري.ان هذا الامر أثبته تاريخهم السياسي بانهم:

1- حريصون ربما أكثر من غيرهم على الوحدة الوطنية ومقتنعون في الوقت نفسه ان حل القضايا العالقة يتم بالحوار مع مؤسسات النظام السياسية المعنية والتي تتعامل بجدية وهدوء مع الحوادث.

2- الأكراد يعرفون بأنهم وغيرهم يشكلون نسيج المجتمع السوري بألوانه الجميلة، وان هذا النسيج يحتاج اليوم الى الأخذ بعين الاعتبار وبشكل واسع موضوعي مسألة الديمقراطية من كل جهاتها، وبهذا يصبح تناول الحوادث شأنا سوريا خاصا مرتبطا بالمسألة الديمقراطية، وتأجيله يجعل كل الحلول منقوصة وغير كاملة.

3- الأكراد أصحاب مصلحة حقيقية في الاتجاه نحو إصلاح جذري سياسي اقتصادي - اجتماعي ديمقراطي - في سورية، بحيث يجري بناء الدولة الحديثة التي تؤسس لمجتمع مدني تتراجع فيه كل العصبيات القومية والقبلية والعشائرية، التي عفا عنها الزمان لتحل محلها دولة القانون والمؤسسات ويصبح فيها للمواطن قيمة سامية تدرك ان الوطن «وطن حقوق وليس وطن حدود».

بقي القول بانه بدا ان الشعب بحاجة الى الخلاص والتحرر من ثقافة «محمد طلب هلال» - مهندس فكرة الإحصاء في بداية الستينات، والخلاص من الوضع السائد والثقافة الشوفينية وسياسة الإقصاء

إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "

العدد 591 - الأحد 18 أبريل 2004م الموافق 27 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً