العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ

السودان... نهاية حرب أم نموذج حُلول قادمة؟

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

لم تكن متابعة الأخبار القادمة من العراق الأسبوع الماضي تحمل أي فرج، وجاء الفرج النسبي من أخبار السودان، الذي قابلته الجماهير السودانية فور إعلانه بالرقص في الشوارع حتى الهزيع الأخير من الليل. فقد تم في نهاية الأسبوع توقيع البروتوكولات التي طال انتظارها بين حركة «تحرير جنوب السودان» (المتمردون في بعض الكتابات)! وبين الحكومة السودانية، بعد أكثر من أربعة عقود من الحرب الأهلية بين مد وجزر، والتي خيضت في بعض مراحلها بوحشية غير عادية، ومزقت السودان وأنهكته اقتصاديا وسياسيا. ومن المتوقع أن ينهي هذا الاتفاق إذا ما انتهت خطواته الأخيرة بخير، أطول النزاعات المسلحة والمستمرة في إفريقيا، أكثر مما حدث في الصراعات الدامية في كل من رواندا وسيراليون وانغولا.

وشهدت المفاوضات في اللحظات الأخيرة صراعا داخليا كاد أن يطيح بها، لولا تدخل الولايات المتحدة الأميركية وبقوة، لتوقيع الاتفاق.

لقد قتل أكثر من مليوني شخص، وشرد ملايين غيرهم، في هذا النزاع الذي اندلع في جنوب السودان بشكله المسلح المفتوح منذ العام 1983، كانت الشرارة المسلحة قد قُدحت بسبب ظاهر هو سياسات رئيس الجمهورية السودانية وقتها جعفر النميري، على خلفية ما سمي اليوم في التاريخ السوداني بـ «قوانين سبتمبر»، وبدعم من مستشاره الاوفى حسن الترابي، ولكنها ليست بالطبع السبب الرئيسي أو كل الأسباب، فقد تراكمت السلبيات الاقتصادية والاجتماعية، من دون حلول ذكية، منذ استقلال السودان في منتصف خمسينات القرن الماضي، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من طرق مسدودة، أخذت فترات سلم مؤقت، ثم انفجرت في حرب أهلية، أصبحت محط نزاع ليس بين الفرقاء الداخليين فقط، بل وبابا مفتوحا للتدخلات الخارجية.

ربما السبب الرئيسي في هذا النوع من الصراعات هو ما أشار إليه هنري كيسنجر في كتابه المشهور: هل تحتاج أميركا إلى سياسة خارجية، والتي قال فيه ما أصبح معروفا اليوم، بأن «فشل الحكومات (الوطنية) في إدارة الدولة المستقلة، ساهم في اندلاع الصراعات العرقية والفئوية في عدد من دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية» و بالتالي فانه كلما اعترفت النخب الحاكمة بهذا الفشل، وبحثت عن أسبابه لاقتلاعها، كان ذلك أسرع في إيجاد توافق وطني وسلمي، يجنب المجتمعات مغبة هذا الصراع العبثي والاستنزاف الذي عطل التنمية كما حدث في السودان.

لا يشمل هذا الاتفاق السوداني الأخير، الصراع المندلع في إقليم دارفور، ذلك موضوع آخر، والذي قال عنه وزير الخارجية السوداني في وسائل الاعلام أخيرا انه لم يقتل فيه سوى عشرة آلاف قتيل (فقط)! وهناك مبادرة أميركية «أخرى» لوضع حلول للمشكلات في دارفور أيضا، كما كانت القوة المحركة خلف توقيع اتفاق الجنوب.

وتعرضت الحكومات السودانية لنقد حاد من المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان ربما آخرها تقارير المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي تشير إلى انتهاكات قاتمة لحقوق الإنسان في كل من الشمال والجنوب السوداني، وهي انتهاكات آن لها أن تتوقف، بعد أن توصلت النخبة السودانية إلى أن لا حلول بالقوة في الخلافات ذات الطبيعة السياسية.

ورحبت الولايات المتحدة بتوقيع الاتفاق الأخير، كما أعلن عنها بشكل رسمي وزير الخارجية الأميركية كولن باول، وأن توقيع اتفاق سلام من شأنه أن يمهد الطريق لتطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم، في حال الوفاء بشروط محددة، من بينها إنهاء العنف في دارفور. ولقد مهدت الولايات المتحدة من أجل تأهيل السودان الجديد للساحة الدولية برفع العقوبات عنه، من خلال إصدار قرار لمجلس الأمن أخيرا يأخذ هذا المنحى.

شملت البروتوكولات الثلاثة الموقعة في الأسبوع الماضي بين الطرفين السودانيين قضايا اقتسام السلطة، وإدارة المناطق الثلاث المتنازع عليها في وسط السودان. وقال زعيم الجيش الشعبي جون قرنق «بلغنا بهذه الاتفاقات قمة التل الأخير في صعودنا المرهق والأليم لمرتفعات السلام، لم يعد هناك المزيد من التلال في الطريق المتبقي للسلام فهي ارض ممهدة».

واتفق الطرفان على أن يحصل الجنوب على حكم ذاتي لمدة ست سنوات ثم يجري استفتاء بشأن الاستقلال. ووقعت اتفاقات أيضا بشأن اقتسام عائدات النفط وكذلك تأسيس نظام نقدي منفصل في كل من الشمال والجنوب، وبشأن الترتيبات الأمنية المتعلقة بالجيشين. ولكن هل الأرض ممهدة فعلا؟

إلى جانب المعارضة الجنوبية، هناك ما يحدث في دارفور، وهناك أيضا المعارضة «الشمالية»، وهي قوس قزح من الأحزاب المختلفة، ذات القاعدة الدينية والطائفية أو العرقية أو الأيديولوجية المختلفة ومتعددة المقاصد، وقد وجدت نفسها خارج لعبة التقاسم تلك، وهي تريد أن يكون لها مكانا محجوزا في قطار السودان الجديد إن أوشك على المسير، لذلك فقد بدأت بمعارضة الاتفاق تحت بنود مختلفة، منها واقلها أنها لم تستشر ولم يكن لها رأي في الاتفاق النهائي، وأكثرها تطرفا تذهب إلى القول إن تلك الاتفاقات بما تحمله من بنود مالية وسياسية واقتصادية، تمهد لتشطير السودان الذي عرف حتى الآن بوحدته الجغرافية.

عدد من المتابعين يرون أن الاتفاق الأخير هو «هروب إلى الأمام»، فبعد ست سنوات من المرحلة الانتقالية المفترضة، سيحدد أبناء الجنوب، والشمال، ما إذا كانت السودان الموحدة هي الأفضل، أم وجود كيانين في السودان، ربما يكونان دولتين مستقلتين؟ ويمكن أن يُتصور أن هذا الاتفاق أول سابقة كونفدرالية في حدها الأدنى، بعد فيدرالية العراق المزمع إنشاؤها قريبا وقد أصبح متوافقا عليها عراقيا وإقليميا أيضا، وقد يكون أيضا مقدمة أو مثالا لخطوات قادمة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ما أشار إليه كيسنجر في كتابه المذكور آنفا وهو ان العالم الإسلامي «يعاني انقسامات تمثل استمرارا لصراع تاريخي، بين حضارة النيل وبلاد ما بين النهرين، بين أنظمة علمانية وأصولية، بين العرب والفرس، بين السنة والشيعة»، مثل هذه الرؤية متبناة من عدد من متخذي القرار السياسي اليوم في الغرب، وهو مدخل سهل وممكن لتقسيم «الواحد» من الأوطان إلى عدد منها.

يعني هذا الأمر من بين ما يعني، أن لدينا نحن العرب ثلاث استجابات للحادي عشر من سبتمبر حتى الآن، تتراوح بين الاستجابة بسبب ضغوط لينة والاستجابة بسبب ضغوط خشنة لإحلال نظام بديل عن آخر، مثال الأخيرة هو ما حدث في العراق، استخدام قوة عسكرية مباشرة خشنة، واللينة هما استجابتان، ما حدث في ليبيا، وتفاصيله معروفة، وما يحدث الآن في السودان، الأولى استجابة لإغراءات أو ضغوط سيان، وكذلك الثانية، والسؤال: هل تتكرر مثل أشكال تلك الاستجابة اللينة في أماكن أخرى بصور أخرى قد لا نتبينها اليوم؟

قد يكون ذلك، فالملف لم يغلق بعد، إلاّ أن ما يعنيه هو كلما أسرعنا في تقديم حلول موضوعية وعقلانية للمشكلات السياسية القائمة قبل أن تتفاقم تجاوزنا أي شكل من الاستجابات للضغوط الخارجية، وعندما يلتئم الجانبان السودانيان في البيت الأبيض لتوقيع الاتفاق المزمع، سيبتسم الشاهد على التوقيع، لتقول ابتسامته: انظروا يشتموننا كل يوم، ويحتاجوننا لرأب صدعهم؟

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً