العدد 710 - الأحد 15 أغسطس 2004م الموافق 28 جمادى الآخرة 1425هـ

العراق بين خطرين: الاشتباك الأهلي والمواجهة مع إيران

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

دخل العراق منذ احتلاله دائرة المجهول. مصيره بات في مهب الريح ووضعه مهدد بأخطار كبيرة وكثيرة، على المديين القريب والبعيد.

في الأفق القريب تلوح علامات خطرين ماحقين الاقتتال الأهلي، واستخدام العراق كواجهة لمواجهة أميركية - إيرانية، تتطلع إليها واشنطن لتصفية حسابات قديمة مع طهران، كما لتوظيفها حالياً في حملة انتخابات الرئاسة. هذه العلامات تنطق بها التطورات الملتهبة، الجارية فوق الساحة العراقية منذ أيام والمرشحة على ما يبدو للمزيد من التفاقم والتصعيد. وهي - أي التطورات - إذ تبدو على السطح، وكأنها ذات طابع أمني صرف، إلا انها تحت السطح تحمل بصمات صراع أميركي - إيراني، بلباس صراع عراقي - عراقي. وهنا مكمن الخطر المزدوج.

في الآونة الأخيرة احتدمت وبوتيرة متسارعة ومتصاعدة، حرب الكلام والمطاردة على أكثر من جبهة. الإدارة الأميركية عنّفت خطابها وهجمتها، وفي الوقت ذاته بدت حكومة علاوي وكأنها شربت حليب السباع، أو بالأحرى هكذا أُريدَ أن تبدو. وزير دفاعها أطلق تصريحات نارية ضد إيران. وزير داخليتها صبّ الزيت على هذه النار - عندما قال إن بعض المقاتلين في النجف لا يتحدثون العربية - كي يمهّد لمشاركة، أو بالأحرى لمبادرة، قوى الأمن والحرس الوطني العراقي في الهجوم على قوات جيش المهدي. وقبل أن تشتعل هذه الجبهة أصدرت الحكومة أمراً بإقفال مكتب «الجزيرة» في بغداد؛ لتكون رسالة موجهة إلى بقية وسائل الإعلام كي لا تتمادى في تغطية الآتي من الحوادث. ثم أصدرت مذكرة توثيق ضد أحمد الجلبي وابن شقيقه. رافق ذلك تصعيد في نبرة التهديد الأميركي لإيران، من خلال الملف النووي، فإدارة الرئيس بوش وجهت اتهامات مباشرة إلى طهران بأنها تراجعت عن التزاماتها وأنها عاكفة على مواصلة مشروعها لامتلاك القنبلة الذرية، وبدأت في هذا الصدد تدعو لتشكيل جبهة دولية واسعة من أجل التصدي لهذا المشروع، وذلك عشية اجتماع هيئة وكالة الطاقة الدولية، المقرر في أواسط الشهر المقبل للنظر في هذا الموضوع. ثم أخذ التصعيد هذا شحنة إضافية من التأزيم، بتجديد واشنطن اتهاماتها لإيران بأنها تقيم علاقات مع «الارهابيين» وبانها ضالعة في تأجيج الوضع العراقي. في الوقت ذاته ذكرت معلومات أميركية - أشار إليها المعلق المعروف جيم هوغلند في «واشنطن بوست» - أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) تقوم بـ «حملة تحظى بدعم علاوي، للتخريب على النظام الإيراني» وكذلك «لتحطيم أحمد الجلبي». وربما يفسّر ذلك شطب علاوي لإيران من جولته الأخيرة في المنطقة، كما يفسّر سبب وجود الجلبي في طهران لحظة صدور مذكرة التوقيف ضده.

في ظل هذه الأجواء الملبّدة انفجر القتال مع جيش المهدي ويبدو من تصريحات المسئولين الأميركيين والسيد الصدر، أن هدنة أمس الأول مؤقتة، تم التوصل إليها اضطراراً لتنفيس الضغوط والاحتقان، وقبل كل شيء، لمراجعة الحسابات، وخصوصاً الحسابات الأميركية. فمعركة النجف فيها ثلاثة أمور في جانبها الأميركي، تستدعي التوقف عندها: توقيتها، شراستها والمدى الذي ذهبت إليه.

التوقيت ملفت كونه يأتي عشية انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري لتبني ترشيح بوش - تشيني والانطلاق منه إلى الجولة الأخيرة الحاسمة من الحملة الانتخابية للرئيس، وهي حملة متعثرة حتى اللحظة، وبوش لم يعد يملك من الأوراق لتعويم ترشحه، سوى صورته بأنه متشدد وحازم مع الارهاب ومن يدعمه. وهو مازال في هذا المجال متفوقاً على منافسه كيري. وبالتالي باتت هذه الورقة خشبة خلاصه، بعد أن فقد صدقيته في أعقاب انكشاف حقيقة مزاعمه التي اعتمدها - أسلحة الدمار في العراق وعلاقة نظام صدام مع «القاعدة» - لتسويغ حربه على العراق والتي ثبت أنها مزيّفة ومفبركة. ولتعزيز هذه الورقة لابد من افتعال مواجهة مع طرف وازن موصوم أميركياً بالإرهاب وبالتعامل معه - مثل إيران - أو مع جهة - مثل الصدر - قد يثير ضربها هذا الطرف ويجره إلى مواجهة مع القوات الأميركية. أو على الأقل يجره إلى إعطاء المبرر للضرب. فالرئيس بوش مستعجل لتحسين وضعه الانتخابي. دهمه الوقت ولم يعد بوسعه الانتظار طويلاً. أو على الأقل هو محتاج إلى تسخين ملف كالملف الإيراني لتوظيفه على المدى القريب في الانتخابات، ولإنضاج طبخته على المدى الأبعد، كونه يشكّل أولوية عاجلة في استراتيجية إدارة بوش الشرق أوسطية، الهادفة إلى إعادة رسم خريطة المنطقة.

أما شراسة المعركة والمدى الذي وصلته فيربط بينهما خط واحد: استفزاز مزدوج لإيران وللسيدمقتدى الصدر. الأولى كي تخرج من دائرة الرمادي في تعاملها مع الوضع العراقي. والثاني كي يكسر الجرّة مع قوى عراقية متنوعة؛ تأسيساً لاشتباك أهلي، أو على الأقل لتوسيع الهوّة بين أطراف الساحة العراقية وبما يؤدي إلى زيادة شرذمة المقاومة وبالتالي إلى ضمور فعاليتها وبالتالي التخفيف من كلفة الاحتلال على الأقل خلال الفترة المتبقية من حملة انتخابات الرئاسة. فالقوة النارية التي استخدمها الاحتلال في النجف وحجم الخسائر البشرية التي تكبّدها جيش المهدي، فضلاً عن مداهمة منزل السيدالصدر والاقتراب أكثر من أي وقت مضى من الصحن الحيدري الشريف من محاصرته عسكرياً، كل ذلك كانت له وظيفة أساسية لإثارة طهران ووضعها على المحك، فإما أن ينكشف نظامها إذا سكت واكتفى بالكلام على اجتياح النجف باعتباره عاصمة المرجعية الشيعية، وأما استدراجه إلى اتخاذ خطوة ما تصب في تعزيز التسويفات التي تعمل واشنطن على نسجها لتفجير العلاقة مع طهران. كما كان له وظيفة أخرى تتمثل في حمل الزعيم الشيعي الشاب على تأزيم العلاقات أكثر مما هي مأزومة، مع الأطراف الشيعية والعراقية الأخرى، بسبب سكوتها أو عدم نزولها إلى جانبه في مقاومة الاحتلال.

لكن هذه الحسابات خابت، لا إيران خرجت عن طورها، ولا السيدمقتدى الصدر نسف كل الجسور مع القوى العراقية الأخرى. على العكس، كانت ردود الجانبين تنفيسية. صحيح أن إيران تحدثت عن «فيتنام ثانية» في العراق. لكنها نأت عن أي تهديد، ناهيك بأية خطوات يمكن أن تحسبها واشنطن في خانة التورط الإيراني المباشر في العراق. بل ان إيران قامت بتوجيه دعوة للرئيس علاوي لزيارة طهران، كذلك نأى مقتدى الصدر عن الرد بلغة الاتهامات والتخوين إزاء مواقف الجهات العراقية الأخرى - ما عدا حكومة علاوي - علماً أنه يدرك بأن من بين هذه الجهات ما هو متواطئ إلى أبعد الحدود مع الهجمة على جيش المهدي، وخصوصاً الحكومة، التي أوضحت واشنطن أن ما جرى في النجف حصل «بالتشاور» مع المسئولين العراقيين! علّ ذلك يؤدي إلى أو يسهم في تأجيج التأزم الداخلي في العراق.

غير أن تفويت الفرصة، في هذه الجولة، على الحسابات الأميركية شيء، وقطع الطريق أمام مناورات ومحاولات واشنطن في هذا الخصوص، شيء آخر. فالهدنة هشة. في السابق تكررت ولم تصمد. والساحة العراقية مكشوفة فاقدة المناعة إلى حدّ بعيد. ومثلها تقريباً، الساحة العربية عموماً. وبالتالي، المبادرة باقية بيد الاحتلال، على رغم الكلفة التي يتكبدها جراء احتلاله، ومادام الأمر كذلك يبقى اللعب بالوضع العراقي متاحاً وحتى إشعار آخر، بكل ما ينطوي عليه ذلك من خطر الاقتتال الأهلي. كما يبقى التحريض والاستفزاز قائمين إزاء الساحة الإيرانية أميركياً وإسرائيلياً، بكل ما يعني ذلك من احتمال التفجير مع إيران

العدد 710 - الأحد 15 أغسطس 2004م الموافق 28 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً