كان ذلك سادتي هو عنوان رئيسي يتربّع على قمة عناوين رئيسية أخرى صغيرة لا تقل عنه أهمية... لأن العولمة بشكلها الحالي ستكون أكثر فتكاً بالبشرية من طاعون العصر «الايدز» لأن هذا الأخير يصيب فئة معينة من فئات المجتمع، في حين أن العولمة تفتك بالجميع بلا تفريق أو تمييز، وان كنا نعرف أن الموت هو مصير ضحايا الايدز أما ضحايا العولمة فهم ليسوا بأموات ولا أحياء. ولعل أكثر ما جعل العولمة مثل الوحش الكاسر كان ذلك الزخم الهائل واللامحدود من الثورة المعلوماتية. وبالتالي فما كان يبدو حتى زمن قريب بطيئاً معقّداً - أعني استخدام التقنية الحديثة للمعلومات Informations tchnik وعبر وسائل الربط الالكتروني الحديثة صار العالم مثل القرية الصغيرة، وفي رواية مثل الحجرة الصغيرة.
وبسبب ثورة التكنولوجيا توجب أن يحدث في كل قطاع وكل مهنة ثورة جذرية في عالم العمل، ثورة لن يسلم منها أحد إلا بصعوبة. ولقد ضاعت سدى كل الجهود التي بذلها السياسيون والاقتصاديون، للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في المؤسسات والمصانع والشركات... وانتشر الخوف من ضياع فرصة العمل بين العاملين في المكاتب أيضاً، وراح يلقي بظلاله حتى على تلك القطاعات الاقتصادية التي كانت إلى حين من الزمن - في منأى من مغبته. وأضحت الأعمال، التي كان المرء يرى فيها مهنة سيستمر العمل كله في تأديتها، فرصاً مؤقتة. ومن كان في الأمس متخصصاً بمهنة ذات مستقبل برّاق، صار مهدداً بأن تتحوّل كل كفاءاته بين ليلة وضحاها إلى قدرات لا قيمة لها.
وعلى هذا النحو تلبّدت السماء بالغيوم بالنسبة لما يقارب نصف المليون مستخدم في قطاعي المصارف والتأمين. فمنذ أن بدأت مؤسسات الاقتصاد المالي تتصارع فيما بينها على المستوى العالمي، صارت المنافسة العالمية تنذرهم بقدر قاسٍ لم يعشه من قبل سوى العاملون في قطاع النسيج فقط.
ففي دراسة عن الخطط التي يزمع تنفيذها خمسون من أكبر المصارف في العالم، ومفاد ذلك أن نصف العاملين في المؤسسات سيفقدون فرصة العمل في السنوات العشر المقبلة. وأضيف أن هذه الدراسة أجريت في العام 1996، وأن نصف المليون فرصة العمل التي أشرت إليها سابقاً قد تضاعفت الآن أضعافاً مضاعفة من فرص العمل التي كانت تحقق راتباً معتبراً لأصحابها.
وما هو في بداياته الأولى بالنسبة إلى المصارف وشركات التأمين أصبح منذ فترة ليست بالقصيرة، حقيقة واقعة في قطاع كان يُظن أنّ مستقبله زاهر مشرق، أعني صناعة برامج الكمبيوتر (Software - Industrie) والمتخصصون حديثو التخرج سيواجهون في سوق العمل صعوبات كبيرة جداً للحصول على فرصة عمل دائمة.
إن كل واحد الآن يشعر بآثار التحول، حتى أولئك الذين لاتزال فرص عملهم تبدو آمنة حتى الآن. وأخذ الخوف من المستقبل وعدم الوثوق بما يضمره ينشران ظلالهما عليهم أكثر فأكثر.
ولعل القانونيين وخصوصاً المحامين هم الآن بمثابة المحارب الوحيد في الساحة، وذلك بعدما أطاحت زوبعة العولمة ببقية المهن الأخرى بما فيها الطب والأطباء، فوفقاً لبعض التجارب في ألمانيا والتي صارت نتائجها واقعاً ملموساً أصبح بإمكان طالب الطب حديث التخرج، منافسة أكبر الاختصاصيين في المجال نفسه، وذلك بمساعدة بعض الأجهزة الطبية الحديثة والمتطورة وما على الطالب سوى إدخال العينة المطلوبة من المريض إلى داخل الجهاز وما هي إلا دقائق معدودة حتى يتم فيها تشخيص الحال وتحديد نوع العلاج.
تبقى فقط نوع واحد من أنواع العدالة لم تتمكن العولمة من أن تعصف به، وهي تلك العدالة التي يصنعها القانونيون، فالعدالة صارت سواء رضينا بذلك أم لم نرضَ، صناعة، وصارت لا يمكن أن تتحقق هكذا من نفسها إلا إذا صنعها من هو قادر على ذلك.
وتحت ذلك الغطاء الذي منحته العدالة للقانونيين من هجوم العولمة، يمكنهم أن يتنفسّوا الصعداء ويتبادلون فيما بينهم ابتسامات الرضاء المؤقت، وذلك حتى حين.
إسماعيل عمر النصري
العدد 743 - الجمعة 17 سبتمبر 2004م الموافق 02 شعبان 1425هـ