العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ

النعمة التي أضحت نقمة: الطائفة مثالاً (1/2)

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

«وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (المائدة: 48)

ما الذي يجعلنا نختلف كل هذا الاختلاف؟ ولماذا ننقسم على أنفسنا فكرياً ومادياً ونصبح طوائف وقبائل وشعوباً تتحدث بلغات كثيرة وتتزيا بأزياء كثيرة وتأكل كل ما يمشي ويحبو ويطير على وجه الأرض؟ القرآن الكريم حسم الأمر بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13) كل هذا الاختلاف والتباين هو من أجل التعارف لا التناحر، ولجعل الحياة أكثر متعة وأكثر غناءً؛ غير أن المؤمنين بالقرآن وبما جاء به الرسول العربي محمد (ص) مختلفون أشد الاختلاف وينصبون العداء في غالبية الأحيان لبعضهم بعضاً، لأسباب ليس لها أساس في فلسفة الإسلام وعقيدته وروحه. هنا سنحاول قدر جهدنا وعلمنا وفهمنا وإيماننا أن نكشف عن بعض الحقائق التي نرى انها سبب كل هذا الجفاء والعداء بين بعض طوائف المسلمين، وهي بكل تأكيد ليست من صلب الإيمان بالإسلام في شيء كما نؤمن ونعتقد.

في البدء لابد من ذكر السبب الذي جعلني أخوض في مسألة مثل هذه المسألة التي قد تثير شهوات الرد عليها عند أناس كثر؛ تبدأ القصة في ساعة متأخرة من مساء يوم حار ورطب حين رأيت أحد الأصدقاء يقف أمام لوحة كبيرة في بهو نادٍ له موقع في تاريخ هذه الجزيرة تدعو إلى «محاربة الطائفية» فهمست له في أذنه اليمنى متقصداً لاطلاعي على معلومة مفادها أن الأذن اليمنى أكثر حضوراً في الهمس وتفهم فهماً صحيحاً كل ما يسر لها: «لم تريدون أن تحاربوا الطائفية؟» وأضفت «أن شبه الجملة هذه والبارزة كما العلامة المميزة مغلوطة ولا تناسب العصر الذي نحن فيه». فأجاب: «هذا كلام سطره الآباء المؤسسون وهو ما يؤمنون به من فكر»، فقلت له: «ان كلام المؤسسين هذا ليس مقدساً لا يمكن المساس به، وبالإمكان تغييره أو إصلاح الخطأ الفكري واللغوي فيه ليناسب العصر الذي نعيش»، فلم يجب الصديق مكتفياً بابتسامة شبه عريضة مدفونة في صفحات خدية لكونه ليس صاحب القرار في مسألة التغيير أو التنقيح، وعلى هذا أسدل الستار على الأمر إلى غير رجعة ولاتزال اللوحة تدعو إلى «محاربة الطائفية» غير محددين أية «طائفية» هم يحاربون وهم في ذاتهم طائفة من الطوائف التي يتشكل منها المجتمع!

ليست هناك من دولة تخلو من الطوائف. المجتمعات العربية وغير العربية غنية بالطوائف من كل نوع، وهي طائفية - المجتمعات - بدرجة من الدرجات (بالمعنى السلبي للمفردة) وعند بعضٍ من هذه الطوائف «الطائفية» هي شديدة الحساسية تجاه الغير يصل العداء فيها إلى حد الاقتتال على نسبة رمز مادي إلى هذه الطائفة أو تلك، فالأمثلة على هذا كثيرة ولا نرى داعياً لتسطير انموذج لها فمن يشأ أن يعرف فالكتب المتصلة بهذا الشأن بإمكانها أن تغرق محيطاً.

إني لأعجب أشد العجب حين أرى الناس تستمتع أيما استمتاع باختلاف الزهور والأسماك والطيور وأطياب الطعام والعطور والتنوع الغني للماديات من ملبس وخلافه؛ فهي تختار يوماً الزهر الأحمر والورد الأحمر، ويوماً الزهر الأصفر و الورد الأصفر ويوما الزهر الأزرق والورد الأزرق... وهكذا كلما رأت لوناً مختلفاً من الزهر أو الورد أحبته أيما حُب ثم هي أدنته إلى فتحات خياشيمها وشمته ورُبَّما لثمته بقبلة ليس مثلها قبلة، حتى وإن أدمى الشوك شفتيها؛ وهي لا تمانع أبداً من أن تقطفه من الحدائق أو المستنقعات أو الصحارى القاحلة، فالورد والزهر هو الورد والزهر أينما كان موقعه وأينما حل. هو الحال بالنسبة للخضراوات والفواكه فهي طوائف مثلنا، فطوائف البرتقال هي غيرها في الصورة والمذاق عن طوائف التفاح والكمثرى والجوافة والدراق والخوخ والكرز والموز والمانجو والرمان وغيرها من طوائف الفواكه.

طوائف الخرفان والأسماك!

الحال هو الحال بين طوائف الخرفان! فالإنسان العربي يحب الخروف العربي بجميع طوائفه والثور العربي بجميع طوائفه، والأبقار العربية بجميع طوائفها، والتيوس العربية بمختلف طوائفها. والحال هو الحال حين يذهب الإنسان إلى سوق السمك فطوائف السمك حدث ولا حرج... منها الكبير الذي يأكل الصغير ويؤكل ومنها الصغير الذي لا يعرف الفرد كيف يؤكل وكيف يأكل، إلى الأزرق والأسمر والأبيض إلى النحيف والسمين، إلى المشحون ببيوض ليس مثلها لذة في الأكل والمنظر. وحين يذهب الفرد إلى سوق المكسرات فإذا هي سوق فيها العجب العجاب، من كل أرض حبة فيها ألف بركة وتتنوع من الصغير إلى الكبير، ومن الدسم إلى الجاف، إلى المالح وغير المالح وحتى الحلو. هذا الذي أوردنا غيض من فيض. فما على الإنسان إلا أن يفتح بصيرته وبصره إلى أبعد حد ويتبصر بالطوائف التي تعج بها حياتنا من مخلوقات حية وأخرى جامدة لا حياة فيها، بيد ان الحياة تدب فيها في حال التهامها بالبصر أو بالأسنان لتمنحنا لذة ليس مثلها لذة! المعرفة بالطوائف وغناها يستلزم البحث المضني ليس عن المسمى فقط بل عن تلك الافكار التي طرحها مؤسسو الطوائف، تلك الأفكار التي لم يرد منها الاختلاف من أجل الاختلاف فقط، بل أريد منها إضفاء روح جديدة لعصر جديد يخلف عصراً ذهبت رجاله والمحافظون على وحدة أفكاره وأشكاله.

في مجال البحث عن المسميات الطائفية ذات العلاقة بالإنسان وغيره هناك باقة كبيرة جداً لن يسعني هنا أن أقدمها بصورتها الكلية، هنا فقط قطرة من بحر هذه المسميات وضعناها بشكل عشوائي كما برزت إلينا من بطون الكتب: طائفة من القدماء، طائفة من الألفاظ، طائفة من العلوم، طائفة من العمر، طائفة من الموجودات، طائفة من المتأخرين، طائفة من الملاحدة، طائفة من المال، طائفة من رمل، طائفة من الشام، طائفة من الأولياء، طائفة العزاب، طائفة الجراكسة، طائفة الجاويشية، طائفة الينكجرية، طائفة الإسباهية، طائفة من الصناجق، طائفة البغاة، العسكر، العقادين، النصارى، المغاربة، الهوارة، الفقهاء، الطائفة الخائنة، طائفة الشوام، طائفة النساء، الدالاة، الوجاقلية، المتعممين، العميان، القبط، الانجليز، الإنكشارية، التكرور، الخردة، اليهود، الكتبة، الأرنؤد، طائفة المسجد «عن أبي ادريس الخولاني قال لأن أرى في طائفة المسجد ناراً تقد أحب الي من أرى فيها رجلاً يقص ليس بفقيه» (حلية الأولياء، ج 5 ص 124) طائفة من الجبال، الطائفة المباركة، الطائفة الضالة، الطائفة الطاغية، طائفة الصوفية، الجند، طائفة من الملائكة أو الناس، طائفة من الجبارين، أهل الكلام، طائفة صالحة، طائفة من قبائل، الطائفة الملكية، طائفة الشيعة، طائفة من مكة، طائفة من الصحابة، الطائفة الزيدية، الجهمية، الخراسانية، الخوارج، الشعراء، طائفة من أمتي، طائفة المعتزلة، الأشاعرة، الغلمان، الأعراب، العوام، الطائفة الإمامية، الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية، الإسماعيلية، طائفة من الروم أو الفرنج، طائفة من أهل الكتاب، طائفة الصابئة المندائيين، طائفة تبادل الزوجات في إفريقيا، طائفة الأحباش، طائفة الرائيليين (وهي تعني بإستنساخ البشر)، طائفة «غناوه» وهي تعنى بالسحر والشعوذة في المغرب وتسمى بـ «طائفة الشياطين» عند البعض، طائفة المساليت، طائفة المولدون، طائفة السريان، طائفة «عبدالله الحبشي» وفيه قال «عبدالله بن باز»: «وأفيدك أن هذه الطائفة معروفة لدينا فهي طائفة ضالة ورئيسهم المدعو عبدالله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الاستماع لهم أو قبول ما يقولون». هذه قطرة من بحر الطوائف. أخيراً هناك «الطائفية المهنية: مذاهب سياسية واجتماعية عديدة، وأشكال متنوعة للأنظمة السياسية» (الموسوعة السياسية ص 769)

في البحث عن تعريف للمفردة «الطائفية» فشلت جل محاولاتي ولم أجد لها تعريفاً، فالمفردة لا وجود لها في معاجم اللغة البتة. كتاب «الألفاظ المؤتلفة» وتحت «باب الجماعة» يورد هذه الألفاظ ذات المعنى نفسه: «حزب وطائفة وفرقة وعصبة ورهط وفئام وأحزاب وكردوس وفوج وثلة وجماعة وملأ وزمر وكتيبة وفيلق ونفر وزرافات وخميس وجيش وشرذمة» (الألفاظ المؤتلفة 1 ص 37) «لسان العرب» وبعضاً من كُتبِ التاريخ أوردت ما يتصل بالمفردة من بعيد غير إنه ليس بالتعريف الذي يعطي معنى، إنما هو لقب من الألقاب يخص المرأة التي يعود أصلها لـ «الطائف» المدينة في «شبه جزيرة العرب»، فهي لذا تسمى: «طائفية» ويطلق على الرجل أيضاً المسمى ذاته، هذا مثال: «ابراهيم بن ميسرة الطائفي» «يحيى بن سليم الطائفي» «الحجاج بن يوسف الثقفي الطائفي» وجاء في الفهرست «كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كوفياً وعبدالله بن عباس طائفيا لاتخاذهم بها المنازل»، الفهرست 1 ص 290». وهنا أمثلة أخرى: الطائفي: نوع من الذباب يسمى الذقط وهو الذي يكون في البيوت. (لسان العرب 7 ص 301) و«الطائفيُ هو الثور الذي يدور حول البقر (لسان العرب).

أما «الطائفة» تعريفاً كما يوردها لا حرمنا الله من النهل من محيطه ومحيط محيطه: «لسان العرب» الأكثر شهرة بين كُتبِ المعاجم العربية هي تندرج تحت مسمى حزب، بهذا المعنى: «الحزب: جماعة الناس والجمع أحزاب والأحزاب جنود الكفار تألبوا وتظاهروا على حزب النبي صلى الله عليه وسلم وهم قريش وغطفان وبنو قريظة وقوله تعالى: «يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب»، ههنا قوم نوح وعاد وثمود ومن أهلك بعدهم، وحزب الرجل أصحابه وجنده الذين على رأيه والجمع كالجمع والمنافقون والكافرون حزب الشيطان وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضا بمنزلة عاد وثمود وفرعون أولئك الأحزاب وكل حزب بما لديهم فرحون كل طائفة هواهم واحد (...) والحزب الطائفة، والأحزاب الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء عليهم السلام وفي الحديث ذكر يوم الأحزاب وهو غزوة الخندق، وحازب القوم وتحزبوا تجمعوا وصاروا أحزابا وحزبهم جعلهم كذلك، وقال رؤبة: لقد وجدت مصعباً مستصعباً حين رمى الأحزاب والمحزبا»، وفي حديث الإفك وطفقت حمنة تحازب لها أي تتعصب وتسعى سعي جماعتها الذين يتحزبون لها والمشهور بالراء من الحرب وفي الحديث اللهم اهزم الأحزاب وزلزلهم، الأحزاب الطوائف من الناس جمع حزب بالكسر» (لسان العرب ج 1 ص 308) وجاء أيضاً «والطائفة من الشيء جزء منه وفي التنزيل العزيز «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» (النور: 2)، قال مجاهد الطائفة الرجل الواحد إلى الألف، وقيل الرجل الواحد فما فوقه.

وقال عطاء أقله رجلان، يقال طائفة من الناس وطائفة من الليل. وفي الحديث لا تزال طائفة من أمتي على الحق، الطائفة الجماعة من الناس وتقع على الواحد كأنه أراد نفساً طائفة وسئل إسحق بن راهويه عنه فقال الطائفة دون الألف، وسيبلغ هذا الأمر إلى أن يكون عدد المتمسكين بما كان عليه رسول الله وأصحابه ألفاً، يسلي بذلك أن ألا يعجبهم كثرة أهل الباطل وفي حديث عمران بن حصين وغلامه الآبق لأقطعن منه طائفاً، هكذا جاء في رواية، أي بعض أطرافه، والطائفة القطعة من الشيء.

وقول أبي كبير الهذلي «تقع السيوف على طوائف منهم فيقام منهم ميل من لم يعد لقيل عنى بالطوائف النواحي الأيدي والأرجل». وجاء أيضاً : «والفرق والفرقة والفريق الطائفة من الشيء المتفرق، والفرقة طائفة من الناس والفريق أكثر منه. قال جرير «أتجمع قولا بالعراق فريقه... ومنه بأطلال الأراك فريق» قال وأفراق جمع فرق، وفرق جمع فرقة. وجاء أيضاً: «القنبلة والقنبل طائفة من الناس ومن الخيل قيل هم ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه. وقيل هم جماعة الناس، قنبلة من الخيل وقنبلة من الناس طائفة منهم والجمع القنابل. قال الشاعر: «شذب عن عاناته القنابلا... أثناءها والربع القنادلا» وقدر قنبلانية تجمع القنبلة من الناس أي الجماعة» (لسان العرب 11 ص 570). وجاء في «مختار الصحاح» تحت: «ح ز ب: حزب الرجل أصحابه والحزب أيضاً الورد ومنه أحزاب القرآن والحزب أيضاً الطائفة وتحزبوا تجمعوا والأحزاب الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» (مختار الصحاح 1 ص 56) وجاء «الطائفة من الشيء قطعة منه» وقوله تعالى «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» قال ابن عباس رضي الله عنهما «الواحد فما فوقه» (مختار الصحاح 1 ص 163)

العدد 756 - الخميس 30 سبتمبر 2004م الموافق 15 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً